الجزء الثاني عشر.. بارزان في المصادر البريطانية والكوردية
ب. د. فرست مرعي
1- وفي مجال المقارنة بين الشيخ محمود الحفيد والشيخ أحمد البارزاني يشير التقرير العسكري البريطاني (1931 – 1932م) الى ما يلي: هذه العمليات ضد الشيخ أحمد جاءت في أعقاب هزيمة واستسلام الشيخ محمود في العام السابق(= 1930م)، ومن المفارقات المثيرة للاهتمام مقارنة تأثير المكانة والموارد العسكرية لهؤلاء القادة في الوقت الذي حمل فيه كل منهم السلاح ضد الحكومة العراقية.
من وجهة النظرة السياسية، كان الاختلاف الأساسي بينهما هو أن الشيخ محمود، لكونه رجلاً ذكيا وذا خبرة، سرعان ما قدر إلهام الاتجاهات السياسية في فترة ما بعد الحرب واستغل بسهولة تولي منصب الزعيم الوطني الكوردي وكان يأمل أن يكون ممثلا للشعب الكوردي. من ناحية أخرى، ظل الشيخ أحمد في اقتباسه البسيط البارع غير متأثر بهذه التيارات من الأفكار الجديدة[ رجل محافظ]، ومتمسكًا بمحافظة عنيدة بالدفاع عن النظام القديم للأشياء، كانت أهدافه وأهداف أتباعه محلية وشخصية بالكامل تقريبا وتمحورت حول الرفض الصريح للتنازل عن استقلالهم ومطالبتهم بعدم تدخل الحكومة. ومن وجهة النظر العسكرية فإن التناقض لافت للنظر بنفس القدر. وكان الشيخ محمود ممثلاً لعائلة من المشايخ التي مارست منذ ما يقرب من قرن من الزمان، السيطرة العليا على منطقة واسعة في كوردستان الجنوبية والتي كانت السليمانية مركزها، ولكن في الوقت الذي دخل فيه العراق في مغامرته الأخيرة في خريف عام ۱۹۳۰م، حيث لم يبق الكثير من قواته، أجبر بالفعل على اللجوء إلى (بيران) (في بلاد (فارس) [ ايران الحالية]، وتعهد بالفعل للحكومة العراقية بالبقاء هناك، فالأراضي الواسعة التي كان هو وعائلته يسيطرون عليها لفترة طويلة أصبحت الآن تحت إدارة الحكومة العراقية، كان يعتقد عند عبوره الحدود إلى العراق ان البلاد بأكملها ستقف لصالحه، وإن رعاياه يسعدون القوة كرجال، ربما نسي أنه في الأيام الخوالي لم يكن بإمكانه الاعتماد على دعمهم إلا لأنهم كانوا يخشون عدم تلبية دعوته، الآن تغيرت الظروف وعلى الرغم من أن القرويين ما زالوا خائفين منه أو متعاطفين معه بدرجة كافية لمساعدته بالرجال والإمدادات حين كان بينهم، لكن الان الرجال تركوه وتوقفت الإمدادات بمجرد انتقاله إلى مكان آمن، وبالتالي فإن أتباع الشيخ محمود المباشرين وكان غالبيتهم من الفرسان لم يصلوا أبدا إلى أكثر من نواة صغيرة من الأتباع الدائمين المعززين من المناطق التي وجد نفسه فيها، في ذلك الوقت أثناء تحركه كان الرجال من القرى البعيدة يهجرون ويعودون إلى قراهم بينما ينضم إليه آخرون من القرى المجاورة له في الوقت الحالي. في عمليات الشيخ محمود ، كان علينا أن نتعامل مع أحد الثوار وأتباعه المباشرين الذين يتحركون عبر الأراضي المدارة والمستقرة التي يسكنها أشخاص على الرغم من تعاطفهم مع الشيخ. لم يكونوا معاديين بشكل علني للحكومة العراقية، وبالتالي كان لا بد من تنفيذ العمليات الجوية بتمييز كبير ويجب أن تقتصر الهجمات الجوية بعناية على الثوار أنفسهم. من ناحية أخرى، كان الشيخ أحمد في كامل قوة سلطته التي لا جدال فيها على جميع المقاطعات الثلاث التي سبق وصفها، ويمتلك قوة قتالية تبلغ ١٥٠٠ رجل مسلح، على الرغم من أنه كان من المعروف أنه من غير المرجح أن يتمكن من جمع أكثر من ٧٠٠ من أتباعه المسلحين في أي وقت، ومن المستحيل حتى الآن أن نحدد بدقة مدى أو طبيعة يقينه بأنه كان قادرا على الاعتماد على ولاء جميع سكان منطقتي (شيروان و بةروز)، وربما أيضًا الجزء الأكبر من (مزوري بالا)، على أي حال، يمكن اعتبار البلدة بأكملها التي تتألف منها النواحي الثلاث معادية للحكومة العراقية، وبالتالي كان من المبرر اعتبار جميع السكان في ذلك البلد أعداء للحكومة العراقية، على الأقل حتى يأتوا ويستسلموا أو يستسلموا للحكومة. كانت العمليات البرية والجوية ضد الشيخ أحمد مختلفة تماما في طبيعتها عن تلك التي جرت ضد الشيخ محمود في 1930 – 1931م، فبدلاً من الاضطرار إلى ملاحقة عدو متحرك ومراوغ عبر المناطق الخاضعة للإدارة، كانت مهمة الجيش في المقام الأول هي التقدم واحتلال المنطقة، وبناء مراكز شرطة في مواقع مناسبة لتفعيل السيطرة الإدارية اللاحقة لعمليات التقدم ومن المتوقع والمنتظر بأن العدو سيقاوم، لاحقًا عندما أصبح من الضروري تنفيذ عمليات جوية بدلاً من الاقتصار على البحث عن مجموعة صغيرة أو متمردين بعيد المنال، وكذا مهاجمتهم عندما نرى أنه من الممكن ممارسة سيطرة جوية فعالة على كامل المنطقة المعروفة بأنها معادية أو على الأقل في ذلك الجزء منه الذي من المعروف أن المقر الرئيسي للمتمردين يتواجد فيه.
2- في 15مايس/أيار عام1932م انطلق الشيخ نوري البريفكاني كوسيط من[ناحية] (بلئ) إلى [قرية](كاني بووت) [ الشيروانية خلف جبل شيرين] لكنه عاد في اليوم التالي ولم يلق أي نجاح، وذكر أن الشيخ أحمد حافظ طوال حديثهم على موقف التحدي والثقة في قوته، وطالب بانسحاب جميع القوات العراقية من مناطق (شيروان) و (به روژ) كشرط لتفاوضه مع الحكومة، وكان من الواضح أنه فسر رغبة الحكومة في التوصل إلى اتفاق دون إراقة المزيد من الدماء على أنها علامة ضعف. تبين أن الشيخ نوري لم يكن مخولاً بالكشف عن شروط الحكومة الكاملة، ولذلك قرر المندوب السامي إرسال خطاب نهائي إلى الشيخ أحمد يبلغه فيه بوضوح بالشروط المعروضة ويمنحه ٤٨ ساعة ليتولى خلالها مهامه وقبولها وبعد ذلك تنتهي الهدنة.ينظر: الكورد في وثاثق الارشيف الوطني البريطاني الحملة العسكرية العراقية – البريطانية على منطقة بارزان (1931 – 1932)، اعداد وترجمة: شيركو حبيب، ج5، ص79 – 80.
وفي السياق نفسه يشير السيد مسعود البارزاي الى هذه الحادثة بمنظار آخر فيقول: استنجدت السلطات بالشيخ نور الدين البريفكاني (= الصحيح نوري الشيخ عبدالجبارالبريفكاني (1870 – 1944م) شيخ الطريقة القادرية في منطقة دهوك وعضو البرلمان العراقي عن قضاء دهوك) وطلبت منه أن يسافر الى المنطقة لمقابلة الشيخ أحمد البارزاني واقناعه بالعودة الى بارزان والانصياع لاوامر الحكومة واطاعتها كبقية العشائر في العراق. وصل الشيخ نور الدين في نهاية مايس[1932م] الى مقر الشيخ احمد واستقبل باحترام يليق بمقامه. وخلال اجتماع مطول شرح الشيخ نور الدين رأى الحكومة للشيخ أحمد ونقل رغبة الحكومة في الدخول في مفاوضات معه . فوافق الشيخ أحمد على العرض وعبرعن رغبته فى اعادة الحياة الاعتيادية الى المنطقة واستعداده للتعاون من أجل ذلك فعاد الشيخ نور الدين الى بله ونقل بطائرة خاصة إلى الموصل ونقل للحاكم السياسي البريطاني والمتصرف وجهة نظر الشيخ أحمد واستعداده لا يجاد حل معقول للمشكلة .وعاد الشيخ نور الدين ثانية الى عند الشيخ احمد وأخبره بموافقة الحاكم السياسي والمتصرف بالمجيء الى المنطقة واللقاء مع الشيخ أحمد بشرط ان يتم الاجتماع في قرية هوستان (= قرية تقع شما شرق بارزان بحوالي عشرة كيلومترات وتقع ضمن عشيرة به روژي) وعلى أن لا يستصحب الشيخ أحمد أكثر من ثلاثة حراس معه . وكان في قرية هوستان ذلك الوقت فوج كامل من الجيش. ويبدو أن الشيخ نور الدين كان متأكداً من أن الحاكم السياسي لن يتنازل عن هذا الشرط . فأخبره الشيخ أحمد بأنه لا يثق بالانكليز اطلاقاً ولا يمكن أن يوافق على هذا الشرط واقترح عليه أن ينقل وجهة نظره حول اللقاء. إما أن يتم في مكان بعيد عن مقرات الجيش أو يجلب معه ما يشاء من مقاتلين حتى يطمئن على سلامته وعدم الغدر به . واذا رفضوا الاقتراحين فليكن معلوماً بأنه لن يكون هناك لقاء بشروطهم . وأكد الشيخ أحمد استعداد البارزانيين لمواصلة القتال والدفاع وعندما يتعذر عليهم مواصلته فانهم مستعدون للخروج من العراق ولن يرضخوا للانكليز. فقال الشيخ نور الدين وعلامات الالم والتأثر باديتان عليه : ان قلوبنا وعواطفنا معكم يا سماحة الشيخ . ولكنني لا أفهم كيف يمكننا مقاومة حكومة بريطانيا التي تستعمر نصف الكرة الارضية . فهي ستدمرنا وتبيدنا .ولتقبل بالأمر الواقع وننتظر مشيئة الله .فأجابه الشيخ أحمد: “أشكر عواطفكم النبيلة ولا شك في اخلاص وصدق نواياكم ولكن حتى لو وافقوا على عودتنا الى بارزان وألقينا السلاح وانصرفنا الى شؤوننا فان الانكليز لن يقبلوا منا ذلك أبداً . انهم يريدوننا بلا حقوق وبلا آراء . انهم غاصبون لارضنا وأعداء لديننا. وأني أعلم جيداً أنه ليس بإمكان عشيرة صغيرة كعشيرتنا مقاومة قوة بريطانيا وقهرها، ولكن الحياة هي وقفة شرف. أريد أن أرضي الله وأرضي ضميري ويهمنى أن يسجل التاريخ بأننل قاتلنا الاستعمار البريطاني وعملائه بامكاناتنا القليلة. ولم نركع لهم . بامكان الانكليز حرق قرانا وتدميرها وطردنا وقتلنا ولكن ليس بامكانهم كسب ولائنا لهم فسنظل نعاديهم، هذا هو قرارنا ولسنا نادمين عليه. وبامكانك نقله الى الانكليز حرفياً”. نهض الشيخ نور الدين البريفكاني باكياً متأثراً وقال “أدعو الله من كل قلبي أن يوفقكم ويبارككم واتمنى لو كنت قادراً على تحمل ما تتحملونه ولكن لكل انسان قدره الخاص . بهذا الجواب عاد الشيخ نور الدين وتم الاتفاق على أن يعود مرة أخرى اذا وافق الحاكم السياسي على اقتراحي الشيخ أحمد وبعكسه فلن يعود. إلا أنه كان واثقاً من الرفض .بعد عودة الشيخ نور الدين بيومين ظهرت أعداد من الطائرات البريطانية وبموجات متلاحقة تقصف كل ما تراه على الأرض ولاول مرة القت قنابل توقيت على المنطقة واستشهد العديد من الاطفال بتلك القنابل. حيث كانوا يلعبون ويتجمعون حولها فاذا بها تنفجر وتقضي على عدد منهم . وفي الأول من حزيران استدعى الشيخ أحمد جميع مسؤولي عشائر بارزان من أمثال (ولى بك، خليل خوشفي، أحمد نادر عبدالله كركه موي ، حسن محمد أمين) وقرروا اللجوء الى تركيا والانسحاب بشكل منظم مع الاستمرار في الدفاع لتغطية عملية الانسحاب وكلما كانوا يتركون موقعاً كانت قوات الجيش تتقدم لاحتلاله وهكذا استقر الرأي النهائي على اللجوء الى تركيا وبدؤا بالتمركز على الحدود في وادي زيت (= تقع قرية زيت غرب شيروان وتقع على مقربة من الحدود التركية. ويمتد خلفها وادي ضيق الى الحدود)على الحدود تمهيداً للدخول الى تركيا وشرعوا في الاتصال بالسلطات التركية لترتيب العملية. ينظر: البارزاني والحركة التحررية الكردية – انتفاضة بارزان الاولى 1931 – 1932، كردستان، كانون الثاني، 1986م، ص41 – 43.
3- بحلول ربيع عام 1931م كان هناك طريقان رئيسيان جعلا العمليات العسكرية في شمال كردستان (= الجنوبية – العراقية) ممكنة، وقد وصل (سوارةتوكه)، و(بيبادي) على مشارف (العمادية) من (الموصل)عبر (دهوك) الى (العمادية). وبحلول ربيع 1932م، مكن هذا الطريق من الاقتراب نحو منطقة (بارزان) الرئيسية من الشمال الغربي، لكن الحركة العسكرية صعبة في المناطق الواقعة بين (العمادية) وأعالي نهر (شة مدينان). الطريق الثاني يمتد من (أربيل) عبر مضيق (رواندز) إلى (بافستيان) حيث الطريق الجديد إلى (میرگه سور) تفرعت حتى نهر (باليكيان إلى ميركه سور) كان النهج من باثشتيان) أعلى الوادي إلى (ميركه سور) ومن ثم فصاعدا إلى (جاما)، على الرغم من أنه لم يكن سهلاً بأي حال من الأحوال، لكنه كان أقصر وعملي أكثر من الطريق الى (العمادية).خلال خريف وشتاء ۱۹۳۱ – ۱۹۳۲م تم الانتهاء من الطريق الثالث الذي يربط (الموصل) ب (عقرة)، هذا الطريق مثل الطريقين الآخرين، مزود بجسور جيدة ومناسب لحركة المرور ذات العجلات الثقيلة، ولكن بعد (عقرة) لا يوجد سوی مسار بغل خشن يؤدي إلى ممرات شديدة الانحدار فوق عقرة و (بيرس)، وعلى الرغم من وجود خطط لإنشاء طريق من عقرة إلى بارزان لكن تأجل لبعض الوقت، فمن المرجح أن تؤدي الصعوبات إلى تقييد الاتصال بين هذين المكانين لتعبئة وسائل النقل لبضع سنوات أخرى.ينظر:
الكورد في وثاثق الارشيف الوطني البريطاني الحملة العسكرية العراقية – البريطانية على منطقة بارزان (1931 – 1932)، ج5، ص31 – 32.
المصدر: كردستان 24
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=55719