الفرق بين: السُّلْطَة والسَّلَطَة

عبدالناصر عليوي العبيدي

منذ أن وُجد الكيان السياسي للدولة الحديثة، بقيت مسألة الحكم وتوصيفه مدار جدل ونقاش، بين من يراه أداة للنهضة والتنمية، وبين من يجده بابًا للفساد والتسلّط. وفي هذا السياق، يمكن التمييز بين مفهومين متقاربين في اللفظ، متباينين في المعنى: السُّلطَة والسَّلطة.

أولًا: السُّلطَة – حكومة الأغلبية الوطنية المنسجمة

السُّلطَة في معناها النبيل، هي الشرعية التي تستند إلى أغلبية سياسية واضحة، تعبّر عنها صناديق الاقتراع أو التوافق الشعبي، فتُشكَّل حكومة من حزب واحد، أو من اتجاه سياسي واحد، قادر على اتخاذ القرار دون تعطيل، ويسعى إلى تحسين إدارة الدولة وتطوير مؤسساتها وتحقيق الرفاهية العامة.

في هذه الصورة، تكون السُّلطَة انعكاسًا لوحدة القرار السياسي والانسجام المجتمعي، حتى وإن كان البلد متعدد الأديان والأعراق. فالمعيار ليس التوزيع العرقي أو الطائفي، بل الكفاءة والبرنامج السياسي.

 

مثال حيّ: ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. فقد تمكّن الحزب الديمقراطي المسيحي وحلفاؤه من فرض استقرار سياسي نسبي، وتوجيه البلاد نحو النمو الاقتصادي وإعادة الإعمار، بعيدًا عن لعبة المحاصصات.

مثال آخر: اليابان، حيث حكم الحزب الليبرالي الديمقراطي لعقود طويلة، واستطاع أن ينهض بالاقتصاد الياباني ويجعله ضمن الاقتصادات الكبرى، رغم التنوع الديني والثقافي داخل المجتمع.

إذن، السُّلطَة هنا تعني الحكومة المسؤولة أمام الشعب، التي ترى في نجاحها نجاحًا للوطن بأسره، وليست مجرد تقاسم للمنافع بين أفراد أو جماعات.

ثانيًا:السَّلطة – حكومات المحاصصة والخلطة الغريبة

أما السَّلطة – بالفتح – فهي أصلًا طبق من الخضار والفواكه: ألوان مختلفة، نكهات متباينة، لكن عند جمعها بلا تناسق تفقد كل مكوّناتها طعمها الأصيل، وتعطي مذاقًا هجينًا لا يسرّ الذوّاقة.

وهكذا هي “السَّلطة السياسية” في البلدان المتخلفة: خلطة محاصصة عرقية وطائفية، أشبه بسلطةٍ تُخلط فيها الطماطم بالبصل والفلفل بالتفاح والعنب، فلا هي حلوة ولا مالحة.

في مثل هذه الحكومات

تضيع المصلحة العامة ويسطر الحمقى والجهلة وزعماء الطوائف وسط لعبة “حصتي وحصتك والأولوية للولاء لا للكفاءة والأداء.

المواطن لا يُعامل كمواطن، بل كرقم في جدول الطوائف والقوميات.

القرار السياسي يصبح مشلولًا، لأن كل طرف يمسك بقطعة من الطبق، ويمنع الآخرين من تذوقه.

أمثلة:

العراق بعد 2003، حيث تحولت الحكومة إلى سَلطة محاصصة طائفية، ففقدت القدرة على القرار، وبقيت أسيرة صفقات الكتل والأحزاب.

لبنان، حيث يقوم النظام على توزيع المناصب بين الطوائف، فصار البلد يعيش أزمة دائمة، والناس يكتفون بتذوق طعم الفساد بدل طعم الإصلاح.

ثالثًا: دور الدول المتقدمة في تكريس “السَّلطة” الضعيفة

المفارقة أن الدول المتقدمة – التي تعيش نعمة السُّلطَة الديمقراطية المنسجمة – تشجع في كثير من الأحيان على تكريس نموذج السَّلطة في الدول الضعيفة. فهي تعلم أن الحكومة الوطنية القوية قد تتحول إلى منافس، بينما الحكومة الممزقة بالمحاصصة ستبقى محتاجة للدعم الخارجي، وخاضعة للإملاءات.

يظهر ذلك في تشجيع بعض القوى الدولية على “توازنات هشة” في الشرق الأوسط وأفريقيا، تضمن بقاء الدول مفككة سياسيًا، وغير قادرة على النهوض بمشروع مستقل.

فالاستعمار القديم كان يستند إلى الاحتلال العسكري المباشر، بينما الاستعمار الجديد يكتفي بخلق سلطة ضعيفة تابعة، تحقق مصالحه دون أن يطلق رصاصة واحدة.

خاتمة

إذن، الفرق بين السُّلطَة والسَّلطة ليس مجرد حركة تشكيلية في اللغة، بل هو الفاصل بين دولة ناهضة قوية ودولة غارقة في الفشل والفساد. السُّلطَة تعني حكومة تنسجم مع إرادة الشعب وتسعى لتقدمه، بينما السَّلطة لا تعدو أن تكون تجميعًا للمنافع الشخصية على حساب الوطن.

والأمم التي تطمح إلى النهوض، لا بد أن تدرك أن خلاصها يبدأ من بناء سلطة وطنية حقيقية، تتجاوز منطق المحاصصة، وتؤمن بأن تنوع المجتمع مصدر غنى وقوة، لا ذريعة للتقسيم والضعف.

——

Scroll to Top