الوطنيّة السوريّة الهشَّة
محمود سعيد عيسى: كاتب وباحث
في زيارتي الأخيرة إلى ألمانيا؛ تعرّفت على المسنة الألمانية المتقاعدة ماري التي جاءت إلى بيت مضيفي ترحيبًا بي، ذكر مضيفي أنّ ماري جاءت قبل فترة بوجهٍ منفوخ من لسع زنابير أشد لسعًا من لسع العقارب على رأي الكسائي وسيبويه، قد عشعشت في شرفة بيتها، قال مضيفي: حين طلبت مني ماري حلًا لمشكلتها عرضت عليها حلًا ،حسبته، حضاريًّا، وذكرت أنّ بعض الدخان كفيل بأن تهرب بعيدًا، تابع مضيفي: لم تكد ماري المتألمة من لسع الزنابير تسمع اقتراحي حتى انتفضت انتفاضة أشد من انتفاضة الملسوع، معترضةً على هذا الحل الذي يعرّض الحيوانات في بلدها لخطر الانقراض، وأن واجبها الوطني يحتّم عليها أن تحافظ على زنابير بلادها بلسعاتها المؤلمة.
في المقابل لن يعدم المتصفح لمواقع التواصل الاجتماعي السورية أن يعثر على كثير من الناس يقدمون سيناريوهات نازية بلغت فيها السادية مداها من خلال اقتراح بعض طرق القتل الجماعي البشع لفئات كاملة من السوريين مختلفة عنهم دينيًا أو قوميًا أو طائفيًا في تشوه واضح للروح الوطنية والإنسانية على حد سواء، ولا ينسون أن يبلغوا المنفذين بضرورة أن يكون ذلك كله بعيدًا عن الكاميرات، وتلقى اقتراحات تلك الفئة من الناس ثناء وتأكيدًا وتفاعلًا برموز مثل اليد مرفوعة الإبهام أو قلب أحمر، تلك العبارات والتصريحات والتعليقات تخلص إلى نتيجة مؤلمة مفادها: غياب الروح الوطنية السورية الجامعة للشعب المتوزع على قوميات وطوائف وعقائد متعددة ينعدم بينها الثقة، مع تزايد نظرة الحذر والخوف من الآخر المختلف، وبروز ظاهرة الاستعانة بالآخر الخارجي استقواء أو استنصارًا، وهي حالة لا تقف على الفصائل المتعددة والغوغاء من الناس، بل ينخرط فيها إلى حد كبير أكاديميون، مع تغليف فاضح بشعارات وطنية، إلا أنها لا تعدو أن تكون قشرة رقيقة تتكسر تحت أقل ضغط.
الحالة الإعلامية السورية انعكاس للحالة السياسية الفاقدة للروح الوطنية تعود إلى إرث من القهر والاستلاب والتهميش والإقصاء مارسته الدولة – النظام على مدى سبعة عقود، بلغت مداها في عقد الأسدين: الأب والابن، حولت السوريين من مواطنين لهم حقوق وواجبات إلى سوام لا تملك سوى حق التفنن في تقديم الولاء في مزرعة القائد، ومع ديمومة الحالة اللامواطنية التي عاشها السوريون أعادتهم إلى الانتماءات ما قبل الوطنية، فغدت الدولة – النظام ساحة مستباحة للمغانم والمكاسب لمن استطاع إليه سبيلًا، وولّدت عندهم حالة الانتشاء من تلقي السيد الذي غدا متماهيًا مع الوطن بقوة الحديد والنار لأي ضربة لقوته الطاغية، سواء أكان ذلك على مستوى مباراة لفريق كرة القدم، أو في حرب خارجية.
تجدر الإشارة إلى أن الحال في سوريا لم يكن دائمًا بتلك القتامة، فما التعدد في القوميات والأديان والطوائف والمذاهب إلا نتيجة طبيعية لتاريخ من التعايش واحترام الآخر الذي بقي واضحًا حتى بدايات تشكيل الدولة السورية؛ فيذكر توماس المعروف بلورانس العرب، أحد الآباء المؤسسين للشرق الأوسط بحدوده السياسية الحالية، في كتابه “أعمدة الحكمة السبعة”: ” من خصائص حلب الفريدة، أنك تجد فيها رغم حرارة الإيمان تآلفًا غريبًا وتعايشًا سلميًا بين المسحيين والمحمدين [المسلمين] واليهود، وبين الأرمن والعرب والأكراد والأتراك) (ص:253)، ويقول في مكان آخر في إشارة أخرى لذلك التنوع: (سورية تبقى قطعة فسيفساء عنصرية [قومية] ودينية زاهية الألوان واضحة المعالم) (ص: 255)، وانعكست آثار هذا التآلف والتعايش الاجتماعي على الطبقة السياسية التي ظلت في فترة الانتداب وما بعد الاستقلال تنادي بوجوب وحدة سياسية للدويلات التي أنشأتها فرنسا.
مع زوال نظام الطاغية، أصبح السوريون أمام فرصة تاريخية، لا أقول ترميم، بل لإعادة تشكيل الروح الوطنية من خلال انتهاج سياسات جديدة على مستوى الدولة ككيان ناظم لحياة الأفراد، تقوم على تحقيق العدالة الانتقالية لا الانتقامية من خلال إنشاء محاكم نزيهة وشفافة تحاسب المجرم، وتحمي البريء والمتهم حتى تثبت إدانته، وتعيد الحقوق المستلبة على مدى عقود لأصحابها، مع ضرورة السعي إلى ردم الفجوات المعرفية بين فئات الشعب، وتشجيع الحوار على جميع المستويات، ثم إنشاء نظام سياسي يعترف بالآخر المختلف وحقوقه ويصونها، ويحافظ على أرواح السوريين وأموالهم وحرمتها، مع دستور يفصل بين السلطات ويمنع تراكم السلطة في يد شخص واحد إلى درجة لا يمنعه من التعسف فيها سوى أخلاقه وقيمه القابلة للتغيّر، وسيادة قانون عادل ينتظم الحياة وينظّمها، يقف أمامه السوريون من رئيس الجمهورية إلى أبعد مواطن على قدم المساواة، وأقول “أبعد مواطن” لا “أدنى مواطن”، لأن الأول مقياس أفقي لا تمايز أو تمييز فيه، والثاني يشير إلى التمايز العمودي، مع الاستفادة من ذلك الإرث الاجتماعي المضيء من تاريخ سوريا في التعايش السلمي واحترام الآخر، عندها فقط، عسى أن نصل إلى مستوى وطنية ماري في حرصها على بلادها وزنابيرها.
المصدر: مدارات كرد
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=62888