د. محمود عباس
تتوسع دائرة التحليل لتُظهر بوضوح أن تركيا وبعض دول الخليج، إضافة إلى أطراف مؤثرة في العالم الإسلامي، لعبت دورًا خفيًا لكنه حاسم في إنجاح الاستراتيجية الأمريكية التي قادها دونالد ترامب حيال إيران. فهذه القوى، مدفوعة برغبة مشتركة في تقليم أظافر إيران الإقليمية، بعد المهلة التي منحها لهم، والتي بلغت ستين يومًا، لقبول البنود والتوقيع على الاتفاقية التي عرضها عليهم خلال مفاوضات عمّان، وتقليص نفوذها التوسعي في كل من اليمن والعراق ولبنان مثلما تم في سوريا، انخرطت في دعم غير مباشر للسياسات الأمريكية دون أن تتحمل كلفة المواجهة المباشرة.
فقدّمت بعض هذه الدول تسهيلات لوجستية، كالسماح باستخدام قواعد عسكرية أو تسهيل مرور طائرات التجسس والمراقبة، فيما اكتفت أخرى بمواقف دبلوماسية متراخية، أو بالتغاضي عن التصعيد الأمريكي، وتجلّى ذلك مثلًا في تصريحات بعض المسؤولين الخليجيين في الأسابيع الماضية على ضرورة تحييد منطقة الخليج عن الصراع بين إسرائيل وإيران، وخشية وقوع المواجهة بين الولايات المتحدة وطهران، مؤكدين أن إشعال هذا الصراع قد يغرق المنطقة في نزاع مدمّر لا يفيد أحدًا.
وهي لهجة لم تكن لتصدر دون تناغم ضمني مع البيت الأبيض.
أما تركيا، فرغم خطابها العلني المتحفظ على أي تدخل عسكري أمريكي ضد إيران، فإن سلوكها الميداني في شمال العراق وسوريا، والذي تزامن مع الضغوط الأمريكية على طهران، خدم عمليًا مسار تحجيم النفوذ الإيراني، وقطع أوصاله الجغرافية بين طهران واللاذقية.
في المقابل، لعبت الصين دور “الصامت المتواطئ”. فمصالحها الاقتصادية العميقة في الخليج، واعتمادها المتزايد على إمدادات الطاقة المؤمّنة من مضيق هرمز، دفعتها إلى تجنّب أي مواجهة علنية مع واشنطن في هذا الملف. بل إن بكين، وإن أظهرت معارضة شكلية لأي تصعيد عسكري، إلا أنها لم تبذل جهدًا حقيقيًا لردع واشنطن عن استهداف منشآت إيرانية، طالما أن ذلك لم يهدد انسياب النفط، ولم يُفضِ إلى حرب شاملة تعطل ممرات التجارة العالمية.
لكن هذه الاستراتيجية الأمريكية، التي نجحت مرحليًا، اصطدمت في جوهرها مع رؤية إسرائيل بعيدة المدى. فتل أبيب لا ترى في إسقاط النظام الإيراني نهاية مثالية، بل في إبقاء حالة التأزم المستدام معه وسيلة دائمة لضمان تفوقها العسكري الإقليمي، وتبرير تدفق المساعدات الغربية، وتحييد أي ضغوط دولية حول ملف الاحتلال والاستيطان.
كما تتعارض هذه الاستراتيجية مع مصالح ما يمكن تسميته بـ”الدولة العميقة الأمريكية المعاصرة”، والتي ما زالت إدارة ترامب تتأرجح بينها وبين الدولة العميقة الكلاسيكية. فهذه النخبة المؤسسية – الممتدة من وزارة الخارجية إلى البنتاغون وأجهزة المخابرات – تميل إلى رؤية عالم ما بعد قومي، حيث تُزال الحواجز الجغرافية والقومية لصالح منظومة اقتصادية عالمية متشابكة، تتجنب الصدامات المباشرة، وتؤمن بإعادة هندسة الجغرافيا السياسية عبر أدوات العولمة الناعمة، لا عبر الحروب الوقائية.
وهنا تتقاطع وتتصادم استراتيجيتان داخل المؤسسة الأمريكية ذاتها:
الاستراتيجية الأولى: يمثلها تيار محافظ متصاعد داخل أوساط “الصقور” والمحافظين الجدد، يؤمن بأن تفكيك النظام الإيراني لم يعد خيارًا، بل ضرورة تاريخية، ضمن مشروع “الشرق الأوسط الجديد”. ويعتبر هذا التيار أن ضرب المراكز النووية الإيرانية لا يمثل سوى بداية مرحلة أوسع لكبح نفوذ طهران، خصوصًا في العراق وسوريا ولبنان. فبحسب هذا الطرح، الزمن لم يعد في صالح واشنطن، وكل تأخير في التحرك يُترجم إلى تمكين إيران، وربما بلوغها مرحلة اللاعودة النووية.
الاستراتيجية الثانية: تنتمي إلى النخبة المؤسسية التقليدية، التي تجمع بين ليبراليين دوليين جمهوريين، وديمقراطيين معتدلين، بل وحتى بعض جنرالات البنتاغون، وتؤمن بأن الاحتواء أفضل من المواجهة المباشرة. هذه النخبة ترى أن هذا التصعيد مع إيران قد يشعل حرائق خارج نطاق السيطرة، خصوصًا في ظل التوتر المتصاعد مع الصين في بحر الصين الجنوبي، ومع روسيا في أوكرانيا والقطب الشمالي، إضافة إلى الملف التايواني وممرات أفريقيا.
من هنا، تميل هذه النخبة إلى تفعيل أدوات “العقوبات الذكية”، والمفاوضات المتعددة الأطراف، وبناء شبكات تحالف دولي تحاصر إيران اقتصاديًا وسياسيًا دون الانجرار إلى حرب شاملة، وهو ما ظهر في دور الاتحاد الأوروبي وعودة مبادرات مثل “إنستكس” (INSTEX) لتسهيل التبادل التجاري مع إيران خارج نظام سويفت الأمريكي.
وفي خضم هذا التعارض، بدت إدارة ترامب في موقف متذبذب، تحاول من خلاله الجمع بين ضربات استباقية محسوبة، ورسائل ناعمة لطمأنة الحلفاء، مع الحرص على الاحتفاظ بزمام المبادرة في تحديد توقيت المواجهة أو التهدئة. ولهذا، شكك كثيرون في جدية قصفها للمنشآت النووية الإيرانية الثلاث، كما طُعِن في فعاليتها، وجرى تصويرها على أنها جاءت لاحتواء التصعيد من جهة، ولفرض استراتيجية أمريكية جديدة من جهة أخرى. بل إن بعض التحليلات ذهبت إلى أبعد من ذلك، حين اعتبرت أن الضربات لم تكن سوى اختبار لقدرات نوعية جديدة من الطائرات أو القنابل، لم يُستخدم مثيلها في السابق، وكأن العملية كانت أشبه بعرض عضلات تقنيّ، أكثر من كونها تحركًا عسكريًا حاسمًا.
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
25/6/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=71294