يعرف الايرانيون ان الدخول الروسي على خط الازمة السورية عسكريا في صيف عام 2015 لم يكن نتيجة لمساعي قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني في اقناع القيادة الروسية وخاصة الرئيس فلاديمير بوتن باهمية هذا التدخل استراتيجياً، بل يمكن القول انه جاء نتيجة لمسار سياسي طويل تبلور منذ بداية الازمة السورية عام 2011 من خلال استخدام حق النقض الفيتو في مجلس الامن لتعطيل كل القرارات الدولية التي اقترحتها العواصم الكبرى والمجموعة العربية حول هذه الازمة، وبالتالي مهدت الارضية لتخاطب العالم من بوابة مصالحها الاستراتيجية في هذا البلد.
الجانب الروسي، لم يمارس الخداع مع الحليف الايراني في الازمة السورية حول رؤيته لابعاد واهداف تدخله، الاستراتيجية منها والامنية والعسكرية وحتى في مستقبل العمل على تقاسم النفوذ وتوزيع الحصص بعد الانتهاء من الجانب الامني ووضع الازمة السورية على سكة الحل السياسي.
ولعل النقطة الاهم او الهاجس الابرز الذي توقف عنده الجانب الروسي في مفاوضاته مع القيادة الايرانية، ما يتعلق بالموضوع الاسرائيلي ومستقبل الوجود الايراني وحليفه حزب الله على الارض السورية ومدى تأثيره على أمن وإستقرار تل ابيب ومصالحها الاستراتيجية ومخاوفها من تحويل مناطق الجنوب السوري ومرتفعات الجولان الى نقطة إرتكاز لقوات حرس الثورة وعناصر حزب الله على طول هذه الحدود وبالتالي تحويلها الى نقطة ارتكاز لاي عمل عسكري في المستقبل في حال نشوب اي مواجهة بين الطرفين.
الموقف الروسي كان واضحا، وقد قام موفدو الكرملين الى لبنان ولقاءاتهم بقيادات حزب الله وحتى الامين العام حسن نصرالله بتوضيح هذا الموقف من دون مواربة او مراعاة، من خلال التأكيد على “تحالف مصالح” بين روسيا وايران وحزب الله في الابقاء على النظام والحفاظ على وحدة الاراضي السورية وعدم اشتراط رحيل الرئيس بشار الاسد من الرئاسة الا من خلال انتخابات تجري بعد اقرار دستور جديد وانتهاء ولايته الحالية. والتفاهم على رعاية المصالح الاسترتيجية لكل طرف من دون التداخل او التصادم.
في المقابل، فان القيادة الروسية التي اتفقت مع طهران وحزب الله على حماية النظام ومنع سقوطه، عملت على طمأنة الجانب الاسرائيلي الذي أبدى مستوى عالياً من القلق بسبب تزايد النفوذ الايراني وانتشار عناصر الحزب على طول الجبهة الاسرائيلية والعمق السوري، الامر الذي يسمح له بتحويل هذا الانتشار الى عامل تهديد لتل ابيب في حال اندلاع اي مواجهة بين اسرائيل والحزب. وكان السقف الذي وضعته موسكو للاعمال العسكرية الاسرائيلية في الاراضي السورية يتلخص في عدم السماح لتل ابيب بأي عمل عسكري قد يؤدي الى قلب المعادلة في الداخل السوري من خلال استهداف رأس النظام (الاسد) او ضربة عسكرية تستهدف العمود الفقري للقوات المسلحة للنظام تساعد على إنهياره.
وقد اثبتت هذه الاستراتيجية الروسية في التعامل مع الانتشار الايراني وحلفائه في سوريا مصداقية لدى الاسرائيلي الذي عمل على إستهداف هذا الانتشار وقواعده من دون اعتراض روسي، باستثناء ما حدث في إسقاط طائرة الاستطلاع الذي تسبب في حصول توتر في العلاقة بين الجانبين بسبب عدم التزام تل ابيب بقواعد التنسيق بينهما، وسمح لموسكو بغض الطرف عن ردة الفعل السورية – الايرانية التي ترجمتها الصواريخ التي سقطت على مراكز اسرائيلية في هضبة الجولان وإسقاط مقاتلة اسرائيلية باستخدام منظومة S 200. وكان الهدف من ذلك اعادة الجانب الاسرائيلي للالتزام بالاطار الذي حددته التفاهمات السابقة للتعاون والتنسيق.
موسكو لا تخفي قلقها ورفضها لأي حرب قد تندلع في الجنوب السوري وتمتد الى الجنوب اللبناني بين حزب الله واسرائيل، وهي تعتقد بان أي حرب قادمة ستشهد هجرة معاكسة اسرائيلية الى الخارج، ما يعني امكانية عودة الملايين من اليهود الروس الى بلادهم الاصلية، اضافة الى ان الثقل الروسي في المؤسسة العسكرية الاسرائيلية على مستوى الجنود والضباط المقاتلين يبدو كبيرا، لذلك تعتبر نفسها معنية بعدم سقوط خسائر بشرية بين ابناء المكون الروسي في المجتمع الاسرائيلي، وعليه فانها أبلغت كل الاطراف المعنية بإلتزامها الكامل بالامن الاسرائيلي وعدم وقوع مواجهات عسكرية على الاقل من داخل الاراضي السورية.
اضافة الى هذه المعطيات، فان موسكو ترى ان الساحة السورية قد تشكل مساحة اشتباك او مساحة تفاهم مع الادارة الامريكية، خصوصا في ما يتعلق بالبعد الاستراتيجي للوجود الروسي في سوريا، اضافة الى إمكانية التفاهم مع واشنطن على مستقبل سوريا وإستخدامها كمنطلق لتفاهمات أوسع على ساحات اخرى تبدأ من القرم ولا تنتهي في فنزويلا.
اذا ما كانت موسكو تبذل جهوداً لقطع الطريق على وصول الامور بين طهران وواشنطن الى مرحلة المواجهة العسكرية، فان هذه الجهود تترافق ايضا مع اخرى تبذلها موسكو من أجل تحييد الساحة السورية خصوصا، لانه في حال استطاعت طهران تحويل الساحة السورية الى منصة لتوجيه ضربات الى إسرائيل في اطار ردها على أي عملية عسكرية ضدها، فان هذا يعني خسارة روسيا لهذه الساحة وعدم قدرتها على ضبط حدود النفوذ وتقاسمه بينها وبين طهران، وهو ما لا تريده او ترغب به، لانه يعيد خلط اوراقها ليست فقط في الحوار مع واشنطن حول الشرق الاوسط، بل سيطال ايضا الملفات الاخرى التي تشكل نقاط تماس بينهما.
من هنا، يبدو ان المصلحة الروسية الدفع باتجاه حصول تفاهم بين طهران وواشنطن والعودة الى مسار الحل السياسي والتفاوض لحل الازمة بينهما، وان تلعب موسكو دوراً ايجابياً في هذا الاطار من خلال تسهيل التواصل والتوصل الى حلول وسطية بحيث لا تشعر طهران بالهزيمة ولا واشنطن بالتنازل، بما يحفظ لها دورها في المنطقة وسوريا ولا يزعزع المستوى الذي وصلت اليها العلاقة بينها وبين طهران ونظام المصالح الذي يربط بينهما.
ولعل المصلحة الروسية الأبرز في هذا السياق، العمل على تحييد الساحة السورية عن تداعيات أي مواجهة بين طهران وحلفائها من جهة وواشنطن وحليفها الاسرائيلي من جهة اخرى، ما يعني ان موسكو ستبذل جهوداً كبيرة وواسعة من اجل قطع الطريق على تحويل الاراضي السورية الى جبهة عسكرية وبالتالي اخراجها من معادلة الرد والردع الايراني. واذا ما استطاعت موسكو من فرض هذه المعادلة، وفي حال اشتعال الحرب، تكون طهران قد خسرت امكانية تهديد الامن الاسرائيلي، وهي إحدى اهم الاوراق الايرانية التي تشكل مصدر قلق لواشنطن.
“المدن”
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=50420
اترك تعليقاً