أحمد ديبو_
لا تخفي الشاعرة الإماراتية ميسون صقر وجهتها في ديوانها الجديد “رجلٌ مجنونٌ لا يحبني”، الصادر عن (الهيئة العامة المصرية للكتاب)، أو هي تتعمد ذلك؛ فالقصيدة لديها، وإن كان منطقها ملتبساً بين الشعر، والحكاية، تُبنى على قيمة مطلقة هي شعرية الأنوثة.
ومن هذا المنطلق يروح بنيان القصيدة يعلو ويتطاول أحياناً، كما في القسم الأوّل من الديوان، “رجلٌ مجنونٌ لا يحبني”، مثلما يروح في أحايين أخرى كثيرة، كما في الأقسام اللاحقة (ما من ذهب في الأشجار، المعرفة الجارحة، قيمة أخرى غير الإجابة، لا أجد حارساً لخوفي)، يستمد وهجه من القصيدة القصيرة، التي تنجح ربما أكثر في بلورة عالم أنثوي غني بمنطق الشعر، وكثافته، ومتطلباته، وفي تحميله طاقات القصيدة، وتطعيمها باللحظات الجارحة.
لسنا أمام حكايات حقاً، لكن القصائد توهمنا بذلك؛ ذلك أن ثمة “حدوتة” عابرة، على ما توحيه الكلمة العامية المصرية من معنى، تغذّي جسد القصيدة، وتطلقها في فضاء حيوي من “واقعية التفاصيل” التي تلفّ علاقة المرأة بالرجل.
فتروح هذه التفاصيل تروي تربة القصيدة، كما لو أنها ماؤها، وتجعلها تنمو، متخذة لنفسها قامةً، هي القول، الذي يستطيب كشف النقاب عن الأحوال، والمشاعر، والوقائع الشديدة الصلة بعالم المرأة الداخلي، وبمنطق الهجس الشعري لديها.
فالمجموعة عالم أنثوي بامتياز: هنا “المرأة، المرآة” التي تشكّل النيران، لا من ضوء بل من جمر الحرائق، لكي يكون المسار، مسار القصائد، ناضجاً بما يكويه، ويجمّره، ويجعله لامعاً، وإن في عتمة الليل الماحقة.
نعم، هو عالم أنثوي بامتياز، حيث تكشف “الحكايات” بلا تردد موقف المرأة الشاعرة من وجودها، ومن علاقاتها، كما أحوال نساء أخريات، هنّ على تماس مباشر مع التجربة الشخصية، فيجعلنّ في أتون تلك الصديقة، أم تلك الهندية، أم تلك الراقصة، أم زوجة الأب، أم تلك الجارة، أم تلك الغانية.
ثمة حرارة هائلة وجروح كثيرة وآلام وخيبات، ثمة شغف الحب، الذي بدونه لا ضرورة إلى هذا كله، والذي كأنه يريد أن يصم المجموعة برمتها به، وثمة معاني الرجل وأحواله، الرجل الحبيب، وثمة الشجون كلّها، لا ينكسر صحن الحياة بدون زجاجها، وثمة أيضاً، وفي الأحوال كلّها، تلك الأنوثة، التي بها وحدها تصطلح أحوال القصيدة، وإن ظلّت الجروح غير مندملة، بل مفتوحة على نزيفها الداخلي الحارق.
هنا أنوثة هادئة غير مدعية، تحترق بخفر وصمت، أنوثة مختبرة تبوح، أنوثة عميقة، قوية وغير ساذجة، أنوثة حقيقية وذكية، تتكيّف وتتكثّف على عوالمها؛ لتنسحب إلى عتمتها المهيضة الجناح، لكن الأبية، انسحاباً يقول الكثير، لكن الشعر وحده هو الذي يوحّد ما يتناثر، ويتشظّى، وهو وحده الذي يحرّر، ويعرف كيف يخلّص الشاعرة من هذه القسوة، قسوة الواقع، وقسوة الخيال معاً.
وحدها “المعرفة الجارحة” هي التي تصنع الشعر، ومعها تلك “الأشجار التي لا ذهب فيها”، وأيضاً تلك “القيمة الأخرى” التي لا يتم العثور عليها في الإجابة، ولا في الخوف.
وإذا كان ثمة دعوة إلى “قتل” الرجل في الداخل، أي في القلب، للنجاة بالنفس، فإن الشاعرة سرعان ما تؤكد أن تلك النجاة، النجاة من العزلة، ستوقعها في عزلة أخرى “تكسّرت فيها لغتي”.
إذاً، لا مفر من البقاء، وإن كان هذا البقاء لن يكشف للشاعرة عثورها على الحبيب، فقد “كنت في الكتاب” رغم أن الصوت يوهن الشاعرة بوجود الحبيب على مقربة.
لا بد إذاً من تأكيد نهائية الحب المكسور والألم والخيبة، ف “المكان جوهرة الألم” وطحين تمرّ أمامي /يرشح ظلّي عليكَ / انعكس بجناحي فوق غبطتكَ/ لكنك لا تحبني.
وعندما تنغمس الشاعرة في هذه القسوة، التي تسميّها الحب تجاوزاً، فهي تعرف أنها ستفضي بها إلى تكوين شكل للمرض الذي سيلتهمها.
وهو الانغماس الذي تستجيبه الشاعرة لا ضعفاً، و”إنما إمعان في القسوة ذاتها”، لتظل مطلّة على “الفراغ، الذي هو خيبتي”.
وإذا كان ثمة غاية لهذا كلّه ف “دفاعاً عما أحمله من محبة”، فأنا “أختفي (تقول الشاعرة) حتى أحتفظ بقليل من ذاتي “كي أستطيع”.
المجموعة إذاً، تضعنا وجهاً لوجه أمام الشعر لا أمام شيء آخر، وهو الشعر، الذي يقول الحياة لكنه يرمي إلى شعرنتها.
ويبوح بالعواطف، لكنّه يهجس بتحريرها من قيود تلك الوقائع، التي غالباً ما تُظهر تمزق الذات المضرّجة بالجروح، جرّاء تجربة الحبّ، وأحوال العلاقة مع الرجل.
شعرٌ يضع اللغة في مسألة بالغة الأهمية، وأمام سؤال صعب، كيف ينكتب الشعر، الذي يريد القول، ويريد أن يفتح له أسماء عالية مظللة بالغيوم، وبالخيالات الكثيفة، والمتحركة.
هذا حقاً ما تنجح ميسون صقر في ترجمته، ذلك أن هنا تجربة حقيقية، إنسانية وشعرية، تطالب بمشروعيتها.
وهي تطالب محمولة على كلام يلغو، ويتدفق كشلال لا يني، يضخ المياه ليجعل التربة، تربة الأشعار، والقصائد، شديدة الارتواء، بل كثيرة العشب، والنبات، والظلال.
ولا عجب، فالشاعرة رسامة أيضاً، وهي تبحث عن لعبة الأضواء والظلال؛ لكي تقيم مستويين بصريين للوحة، هما في الحقيقة مستوى واحد، فيه يمتزج الضوء بالظل، ليصنعا معاً الوهج، الذي يُهدئ روع الأنثى العاشقة، أو يؤججها.
لكن أيضاً يتركها على قارعة حالها المغموسة بأرغفة العذاب، والمرارة، والخيبة، والألم، والخيانة، وهذه كلها خلاصة ذلك الرغيف، الذي يحمله “رجلٌ مجنونٌ لا يحبني”، على ما يريده العنوان نيابة عن المجموعة برمتها.
ثمة خيط أعمق من هذا كله، يمنح القصائد مفتاح الانتماء إليه. إنه تلك الحرية، التي لا ترفعها الشاعرة شعاراً، لكن يمكن تلمس حضورها الكثيف في الأرجاء: حرية المرأة، كما حرية الشعر على حد سواء.
وليس أدل عليها، تلك الحرية، من قصيدة “دون ولع كبير” حيث “نستطيع أن، نتعانق دون خوف أيتها الحرية”.
بجرأة كبيرة، وبخفر، وكلاهما بعمق، تكتب ميسون صقر تجربة قادرة على أن تخاطبنا، ونحن نسمع، بل ونقرأ بانتباه وتقدير شديدين، تلك “المرأة التي هزمتها المعرفة تماماً، المعرفة الجارفة” التي جعلتها تربح الشعر.
الثقافة – صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=12131