سببٌ آخر للشعر

كوردأونلاين |

أحمد ديبو_
في إحدى إشراقاته كتب الشاعر الفرنسي آرثر رامبو: “لا أستطيع أن أرمي الحب من النافذة”، مَن غير الشعر يستطيع أن يقول هكذا؟، وكم صار الحب حباً بعد هذه العبارة، وكم كان هشّاً قبلها.
الشعر لم يعدّل في الحب فقط، بل عدّل الكمال، والعيش، والجمال.
ولسوف تكون النهارات والليالي، الأوجاع والأحلام، ومعها أسراب الأشياء والكائنات، التي تحيط بنا، تفسح بالمجال أمام الشعر ليأخذ مجراه.
شيئاً أقرب ما يكون إلى مرض الأمل هو حاجتنا كبشر للشعر.
الشعر وحده لا يجرح الفراغ، بل يشيّع في الأحاسيس دفء الكينونة، هو الدفء إذ يقيم نوعاً من الزواج بين العيش وقوله الذي يعبر كالسارق.
هو دفءٌ يتسع أيضاً للحب، وللّحظات الهاربة، مثلما يتسع أيضاً للسخرية، التي لا ترفع صوتها بل تكتفي بأن ترسل نظرات كأنّها صامته.
لأجل ذلك يكون الشعر ضرورياً لنا وللحياة، لأنّه يستطيع أن يكون كلمة ممزوجة بما يجعل البصر قادراً على الإنصات، كأنَّ شيئاً ما يحصل في الفراغ، كأنّ شيئاً ما يسيل في الضفة، لا في المجرى، يتحرّك على الهامش لا في المتن، هو الحلم، الذي لا يمكن الإحاطة به، لكنّه يفتح النافذة ليطيّر عصفوراً مبتسماً، على الرغم من ذلك يبقى صامتاً؛ لأنّه يظل محض تملّص ملتبس، لكنّه مفتوح على غواية السر ومراراته.
وسألوني فأجبت: بين الهواء والشجرة، أختار الهواء للشجرة، هذا هو الشعر.
ثم رأيت بالشعر أن أطرح الأسئلة نفسها على عدد من الأصدقاء، بينهم غرفتي، وعيناي، ورفوفي، ونشيد الأناشيد، وقصائد الحب السومرية، والكاماسوترا، وبول أيلوار، وأناييس، وأنسي الحاج، وإيف بونفوا، وفانسان فان غوغ، وبابلو نيرودا، ولويس أراغون، وأحمد الخاني، وسليم بركات، وأندره بروتون، وراينر ماريا ريلكه، ودانتي الغييري، ورينيه شار، وشارل بودلير، وفرناندو بسّوا، وجوزيبي، أونغاريتي، وطفولتي، وسيدة النهر، وشجرة هوائي، ودمشق، وبغداد، وقامشلو، وعفرين، وبيروت، والقاهرة، ولأوراقي، وهواماتي.
كنت أريدهم أن يصافحوني بجنوح إيمانهم، وأن يباركوني، وأن يشربوا قهوة حلمي وهجسي، وأن يسألوا هوائي، الذي يمرّ بالغابة، ليل نهار، ماذا يظل للشجر؛ كي يظل الهواء صالحاً للحبّ، دون أن يكرّر نفسه، ودون أن تصاب الشجرة بأوجاع الملل، والوقت والخيبة؟
كنت أريد أن أسألهم: ماذا تفعل هذه الشجرة، لهذا الهواء كي يظلّ يهمّ بها؟
وكيف يظل يفعل هذا الماء، حين لا ييأس من أن يظلّ حفيفاً، يأخذ بأعطاف هذه الشجرة وهديلها؟.
كنت أريد أن أشعل لهؤلاء الأصدقاء حطب المدفأة؛ ليسهروا مع طيور هجسي، وسحيق عزلتي.
وكنت أريد أن أفرش الأسرّة؛ كي يناموا، ويحلموا، ويسألوا سماء بيتي عن الغيوم، والنجوم، والسموم، حين تظل تنير مصباح شغفي وغيرتي، وحين تظل تحرّض حطبي على الاشتعال، كلّما أرادت لبرد الزمن أن يتدفأ تحت أوجاع الجمر.
كنت أريد أن يجيئوا إلى بيتي؛ ليسرقوا بيتي، ويأخذوا معهم نظرات لم يروها، وكتباً لم يكتبوها، وصمتاً لم يتكلموه.
وأن يأخذوا معهم عبرة هوائي، وشجرتي؛ ليرسلوا فتنتي في نواحي الأرض، ويهجّنوا بغريزتي هجس جميع الهواء، بجميع شجرتي.
كي إذا سألوني، وأجبت، يفتح الشعر الشجرة للهواء، ويفتح الأيام لأختفي وراءها، ولأكون، وليكونوا معي سبباً آخر للشعر.

​الثقافة – صحيفة روناهي  

شارك هذه المقالة على المنصات التالية