شورش درويش: انتفاضة 12 آذار 2004: المواجهة الدامية

كوردأونلاين |

مقدمة
تعرّض كرد سوريا لسياسات إنكار وجود وقمع سياسي وثقافي واضطهاد قوميّ لازمهم بشكل مكثّف منذ الستينيات، إلّا أن حدود المواجهة لم تنحدر لمستوى ارتكاب الأنظمة السورية مجازر فعلية بحق الكرد، ذلك أن التعايش الهش بين الأنظمة الشوفينية والمجتمع الكردي المتطلّع للمساواة والاعتراف بدا أمراً قابلاً للديمومة، رغم ما انطوى عليه هذا التعايش الهشّ من مخاطر احتكام الأنظمة، في أي لحظة، لسياسات أكثر راديكالية تجاه المجتمع الكردي. وعليه، فإن حملة القمع الدموية التي بدأت فصولها يوم 12 آذار 2004 شكّلت ندبة لا يمكن إخفاؤها في تاريخ العلاقة بين الكرد ونظام البعث السوري، وعزز المخاوف تجاه إمكانية بلوغ العنف مستويات غير مسبوقة في قادم الأيام، ولم يكن مستبعداً أن تعاود السلطة الاحتكام إلى كاتالوغ الفتنة العرقية المتبع في 12 آذار، أو ارتكاب مجازر متنقّلة في المناطق الكردية السورية وحملات قمع واعتقالات واسعة.
تمثّل ذكرى 12 آذار واحدة من المناسبات التي يعظّمها المجتمع الكردي ويقدّر تضحيات المنخرطين فيها سواء الذين سقطوا برصاص النظام أو قضوا تحت التعذيب، أو أولئك الذين تعرّضوا للإصابات أو الاعتقال، فضلاً عن تقدير دور النشطاء والإعلاميين الذين حاولوا إخراج الحقيقة من داخل صندوق النظام المحكم الإغلاق. في أيام الانتفاضة تجاوز الاحتجاج الجماعيّ والعفوي الحالة الحزبية والمناطقية، وبذلك تحوّل هذه الذكرى إلى واحدة من العلامات الفارقة والمؤثّرة في الوجدان الشعبيّ الكردي بوصفها شكلاً من أشكال المقاومة السلمية والدفاع عن “الهوية”.
تحاول هذه الورقة قراءة المقدّمات التي قادت النظام إلى يوم 12 آذار والظروف الإقليمية والدولية المحيطة، وكذلك تلمّس المجريات العامّة، دون الخوض في بعض التفاصيل الفرعية. إضافةً إلى محاولة عرض ومناقشة سردية النظام للأحداث وإجماع مسؤوليه على وجود “مؤامرة خارجية”.
من الجدير بالملاحظة أن الكتابات الكردية عن الانتفاضة شحيحة رغم هول ما جرى آنذاك، وأن الكثير من المصادر الخبرية والبيانات والمقالات اندثر مع إغلاق بعض المواقع الالكترونية أو نتيجةً لتوقّف بعض المطبوعات عن تقديم أرشيفها للقرّاء، لذا يبقى أفضل المصادر للإطلاع على ما جرى، من وجهة نظري، هو الأرشيف الذي جمّعه، بعد قليل من الانتفاضة، الصحفي محي الدين عيسو والكاتب بدرخان علي في الكتاب الذي حمل عنوان “أحداث القامشلي 2004- من المؤامرة إلى الحركة الشعبية السلمية” وهو كتاب يخلو من تدخّل معدّيه والحفاظ على النصوص كما نشرت في المصادر الأصلية، دون إضفاء الطابع الذاتي الذي برز في عديد الكتابات/المقالات التي تناولت سيرة الانتفاضة، كذلك فإن من المفيد أيضاً قراءة ما قدّمة جوردي تيجيل في كتابه (كرد سوريا- التاريخ والسياسة والمجتمع) في الفصل المعنون باسم “ثورة القامشلي 2004” واعتماده على قراءة ما جرى في ضوء دراسة “الحركات الاجتماعية”.

بداية الطريق إلى العنف: سياق عام
كان لسقوط النظام العراقي عام 2003، أثره البالغ في اضطراب نظام دمشق، وتنامي مخاوفه إزاء احتمالية مضيّ المحافظين الجدد في طريق الإطاحة بالأنظمة الإقليمية، ولعلّ الشكل الأبرز للتهديدات الأميركية حملها وزير خارجية جورج بوش الابن، كولن باول، في زيارته لدمشق في 2 أيار/مايو 2003، حين أشيع عن أن واشنطن وضعت قائمة طلبات بعضها يخص الوضع الداخلي السوري وآخر يخص سياسات دمشق الإقليمية، في لبنان وفلسطين والعراق، مما رشح من الرسالة التي حملها باول كانت المطالبات بإغلاق مقرات المنظّمات الفلسطينية “المتطرفة”، والتوقف عن زعزعة الوضع في العراق، ووقف مدّ حزب الله بالسلاح ومسألة التعاون مع إيران، انتظرت واشنطن تغيّرات في سلوك دمشق دون أن يحدث فارق كبير رغم فرضها عقوبات إضافية على دمشق لدعمها المنظمات الفلسطينية وتدخّلها في العراق.
في تلك الفترة أيضاً ساءت العلاقة بين دمشق والحركة الكردستانية في العراق، ذلك أن الأحزاب الكردية انزاحت بالكامل لاسقاط نظام صدام حسين مؤيدة بشكل قطعي سياسات واشنطن في العراق، الأمر تعارض مع رؤية نظام دمشق التي كانت تجمعها علاقات جيّدة مع تلك الأحزاب حتى وقت قريب من ذلك. لطالما وقف البعث السوري خلال مسيرة عدائه مع شقيقه العراقي إلى جانب دعم معارضة نظام صدام حسين، بيد أن المفاضلة بين واشنطن القادمة بقوة إلى المنطقة وسعيها لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية وبين البعث العراقيّ الهش، رجّح كفّة الاصطفاف إلى جانب الأخير، فيما وجد كرد العراق في الولايات المتحدة حليفاً أكثر قوّة وقدرة للإطاحة بصدام حسين، وفرصة لا تعوّض.
بطبيعة الحال، لم يكن كرد سوريا متيقنين من امتداد موجة إسقاط الأنظمة في المنطقة، لكن في المقابل ربما عززت حماسة كرد سوريا لتجربة نهاية ديكتاتورية صدام بسرعة فائقة ومضي كرد العراق بخطوات أكثر ثقة باتجاه نظام فدراليّ مهّد له “قانون إدارة الدولة” العراقيّ، من مخاوف دمشق، لذا أصبح من المتوقّع أن يُنظر إلى كرد سوريا بوصفهم “حصان طروادة” سينفذ من خلاله الأميركي إلى سوريا، وهو المصطلح الذي شاع استخدامه من قبل مؤيّدي توجّه النظام السوري إبان انتفاضة 12 آذار، وكل ذلك دون أن يكون لدى كرد سوريا أيّ تواصل فعليّ مع واشنطن يُفيد بوجود تنسيق مسبق أو حتى قراءة للقيادات الكردية العراقية بخصوص مستقبل سوريا، إذ إن كرد العراق كانوا منهمكين بأوضاعهم الداخلية في كردستان وبغداد.
وقبل أربعة أيام على أحداث ملعب القامشلي، قمع النظام السوري الاحتفالات الكردية بمناسبة يوم المرأة العالمي في الثامن من آذار بشكل غير مسبوق الأمر الذي زاد في توتر العلاقة بين الكرد ودمشق، وقبل أيامٍ قليلة أيضاً أغلقت سوريا حدودها مع العراق في خطوة لم تسترعِ انتباه الكرد لما ينتظرهم، بدا كل شيء عادياً فيما خص تحرّكات النظام في محافظة الحسكة.
يوم 12 آذار جابت حافلات جماهير نادي الفتوة الرياضي القادم من دير الزور شوارع القامشلي بشكل مستفزّ لمشاعر الكرد القومية عبر رفع صور صدام حسين، وشتم القادة الكرد، فيما حملت الجماهير إلى أرض المعب الحجارة والعصيّ والأسلحة البيضاء، ومع تنامي الهتافات المعادية للكرد ووقوع مشاجرة في المدرّجات، أعلنت إذاعة دمشق مقتل ثلاثة أطفال دهساً بالأقدام إثر حالة التدافع أمام بوابة الملعب، وهو الأمر الذي كرّره مراسل “الجزيرة” الرياضي من حلب، ولئن كان الخبر كاذباً إلّا أنه ساهم في إشاعة حالة توتر وهيجان شعبيّ في القامشلي.

المجريات
احتكمت عناصر الشرطة لإطلاق الرصاص الحيّ، بدل تفريق المظاهرة الأولى بالغاز المسيّل للدموع أو خراطيم المياه، أو الرصاص المطاطيّ في أسوأ الأحوال؛ فكان سقوط ستة قتلى بينهم 3 أطفال في صفوف المتظاهرين، المقدّمة التي أشعلت حالة غضب سرعان ما عمّت كامل المناطق الكردية خلال اليومين التاليين، فأوامر إطلاق الرصاص الحيّ جاءت من محافظ الحسكة، سليم كبول، فيما أطلقت يد الأجهزة الأمنية طبقاً لحالة الطوارئ المديدة التي بررت حملات قمع واعتقال سابقة، ومع فرض حالة حظر تجوال في الساعة السابعة مساءً، تم اعتقال العشرات بينهم أطفال تراوحت أعمارهم بين 13 و17 سنة، وهو ما أكّدته منظمة العفو الدولية (أمنستي) حول اعتقال عشرين طفلاً لا تزيد أعمار بعضهم عن 14 عاماً تعرّضوا “لأنواع مختلفة من التعذيب والمعاملة السيئة أثناء احتجازهم لأكثر من ثلاثة أشهر”، فيما اعتمدت أمنستي خبر مقتل ما لا يقل عن 20 شخصاً واعتقال المئات خلال أيام الانتفاضة.

في الحصيلة شبه الأخيرة، قتل أكثر من 30 شخصاً، بينهم ستة عسكريين كرد قتلوا في ظروف مريبة أثناء تأديتهم الخدمة الإلزامية، فيما قضى خمسة معتقلين تحت التعذيب، وجرح زهاء 200 شخص خلال التظاهرات، أما المعتقلين الذين تدفقوا على أقبية المخابرات والسجون فقد بلغ مجموعهم نحو 2500 شخص تعرّضوا للإهانات وسوء المعاملة والتعذيب، وقد قضى بعضهم تحت التعذيب أو بُعيد الإفراج عنهم بوقت قصير كما في حالة أحمد كنجو، وهو من كرد سره كانيه /رأس العين تعرّض لتعذيب مبرح وتوفي بتاريخ 3 أغسطس/آب 2004. كذلك تم اعتقال 9 طلاب بجامعة دمشق، وصدرت بحقهم قرارات فصل نهائي من الجامعة أو من المدينة الجامعية أو توقيف لسنة دراسية مع طرد من المدينة الجامعية، وقد استند النظام لقانون تنظيم الجامعات في الفقرات 1-8-9، بعد أن شكّل لجنة تحقيق في جامعة دمشق، فانتهى الأمر بإصدار قرارات الفصل النهائي والمؤقت وفق القرارات التي حملت الأرقام المتسلسلة من 122 إلى 148.


في إزاء حالة القمع والاعتقالات وحصار المدن الكردية في الجزيرة وكوباني وعفرين، فإن القمع طاول مناطق التواجد الكردي في حلب ودمشق والرقة، ففي زور آفا (وادي المشاريع) في دمشق، اعتقل ما لايقل عن 700 شخص، بما في ذلك 25 طفلاً، وقطعت الكهرباء والمياه لأيام عن بعض التجمّعات الكردية في دمشق، هذا عدا عن استمرار التواجد العسكري في القامشلي وعفرين، حتى بعد أن خمدت حركة الاحتجاجات، فيما استمرّ فصل الموظفين الكرد من وظائفهم، وتنامي ظاهرة “المواطن المخبر” في المناطق الكردية.
لعل أخطر ما حدث في تلك الفترة هو شدّ النظام لعصب العشائر العربية، وإقحام بعض عناصر تلك العشائر في عمليات نهب وسلب وحرق لممتلكات المواطنين الكرد، كان “البوغروم” الذي حدث في مدينتي الحسكة وكانيه /رأس العين ينذر بإمكانية ديمومة تعويم المليشيات المؤتَمرة لسلطة الأجهزة الأمنية وحزب البعث حتى بعد انتهاء الحالة الأمنية، الأمر الذي قد يدخل العلاقات الكردية العربية في مختبر جديد مثير للقلق وتبادل المخاوف، وهو ما دفع “الأحزاب الكردية مجتمعة” للتحذير من الانجرار وراء الفتنة (وقتها وقعت الأحزاب بياناتها المشتركة باسم مجموع الأحزاب الكردية في سوريا)، خاصة مع ما أشاعه النظام من أقاويل عن “الكرد الذين يسعون للإنفصال”، ولعل قابلية تصديق مثل هكذا رواية تفتقر العقلانية بنيت على ما حصل في الجار العراقي، حيث مال الاتجاه الشعبي في المنطقة الشرقية للشعور بإمكانية خسارة نظامهم القوميّ بعد أن خسروا نظام العراق القومي عبر “مؤامرة” أميركية اشتركت فيها الأحزاب الكردية. من المفيد في هذا السياق القول إن النظام السوري باعتماده على العشائر إنما كان يحاكي حملة “إحياء العشائر” التي اتبعها نظام بغداد في تسعينيات القرن الماضي والتي استكملت مشروعه السابق المتمثّل بـ “الحملة الإيمانية” عام 1993 حين بدأ بعث العراق بمزج القومية بالإسلام والبعد العشائري ليوجد خلطة جديدة لوقف التهديدات الأميركية المتواصلة.

رواية النظام الرتيبة
منذ اللحظات الأولى للانتفاضة، أجمع مسؤولو النظام على رواية رتيبة مفادها أنه ثمة “مؤامرة خارجية” تستهدف سوريا، إذ اتهم نائب رئيس الجمهورية حينها، عبد الحليم خدام، “جهات خارجية” بمسؤولية ما جرى دون تعيين تلك “الجهات”، وبدوره قال وزير الداخلية علي حمّود إن “قوات الأمن اضطرت إلى إطلاق النار بعد أن استخدمت بعض عناصر الشغب الأسلحة”، دون أن تقدّم الأجهزة الأمنية أيّ دليل على حمل المتظاهرين الكرد للأسلحة، وكذلك حديثه عن وجود “عناصر مدسوسة” ارتكبت “أعمال تخريب مقصودة”. أما رئيس مجلس الوزراء حينها، محمد ناجي العطري، فتحدّت عن “أمر مبيّت” قام به بعض “المرتبطين بالأجنبي والخارج”، وفي محاولته التخفيف من شأن ارتكابات النظام قلّل العطري عدد القتلى إلى 5 أشخاص “سقطوا أثناء التدافع”، أما المفارقة فقد بدت أقرب لسخرية واستخفاق منها إلى قول رأي مضلل، إذ وصف المتظاهرين الكرد أنهم إنما “خرجوا مستنكرين حوادث العنف التي قام بها أكراد سوريون”.
ولتكتمل الحلقة، كتب مهدي دخل الله، رئيس تحرير جريدة البعث – الناطقة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي، أن الغاية من “الشغب” هي “الإسهام في مجمل الضغوط المعروفة [على سوريا]”، وبطريقة ربط مبتذلة شبّه المنتفضين بأنهم “هوليغنز”، أي “السفاحون المشاغبون” في الملاعب، التي رددت شعارات “معادية للوحدة الوطنية”.
وبطبيعة الحال لم تخلو دعاية النظام من أبعاد اتهامية تحدّثت عن رفع أعلام أميركية، وعن حمل للسلاح، وعن “غوغاء” و”مخرّبين”، دون أن يتم شرح من قام بأعمال التخريب التي طاولت مؤسسات حزب البعث وبعض المرافق العامة، ذلك أن الوعود بتشكيل “لجنة تحقيق” لم تتحقق في نهاية المطاف، الأمر الذي ساهم في تعميم العقوبة الجماعية على أكبر قدر من المواطنين الكرد، وتعويم رواية النظام للأحداث، والتي انطلت على قسمٍ غير قليل من المعارضين للنظام.
وفي محاولة فهم دوافع النظام الحقيقية لإشعال الاحتجاجات، قدّم جوردي تيجيل في كتابه (كرد سوريا: التاريخ والسياسة والمجتمع) تفسيرين، أولهما متعلّق بما قاله قوميون كرد بأن ما حصل “كان جزءاً من مؤامرة دبّرتها بعض الفروع الأمنية القوية في الحكومة السورية، بهدف استفزاز الكرد من أجل القضاء على قادة أحزابهم، لاسيما حزبي يكيتي والاتحاد الديمقراطيPYD، اللذين لا يحظيان بثقة دمشق”، فيما يذهب التفسير الآخر إلى أن أحداث آذار جاءت “نتيجة صراع داخلي بين بعض الأجهزة الأمنية في الحكومة السورية”، بمعنى أن هناك حالة من “الطغيان المجزّأ”، وأن الأحداث إنما جاءت نتيجة “تهميش السنّة في مراكز السلطة منذ وصول الأسد [الابن] للسلطة عام 2000″، الأمر الذي مثّل محفّزاً للسخط بين قطاعات المخابرات، لذا فإن القامشلي كانت المختبر الذي أرادت فيه جهات معيّنة أن تؤثر من خلاله على مشهد الاستقرار العام في سوريا، فكان “الكرد ببساطة… ضحايا هذا الصراع على السلطة”.
أيّا تكن درجة مطابقة التفسيرات التي حاول تيجيل تقديمها أو نقلها مع الواقع، إلّا أن أيّ تفسير لا يكتمل دون التفكير في مصلحة النظام العامة، إذ أمّنت أحداث ملعب القامشلي عوائد للنظام، أوّلها: إشاعة المخاوف إزاء “خطر كردي” كجزء من “مؤامرة خارجية”، وهي المادة اللاصقة التي أوصلت النظام بأبناء المنطقة الشرقية، لاسيما بعض العشائر، إذ لطالما توجّست دمشق من حالة التململ في المناطق الشمالية والشرقية واحتمالية أن ترتد الأوضاع الاقتصادية البائسة وارتفاع نسب البطالة والجفاف وتراجع المواسم الزراعية على طبيعة حضور النظام في تلك المناطق. أما ثاني العوائد، فهو شنّ حرب استباقية في مواجهة المجتمع الكردي المعروف بقابليته للتعبئة والتحشيد وحضور الحالة الحزبية بين ظهرانيه، بذا أفسحت الأحداث المجال للكشف عن نوايا الكرد المبيّتة، ولئن اكتشف النظام حقيقة عدم وجود أيّ تنسيق مع الأميركان أو الأحزاب الكردستانية في العراق، فإنّ تراجعه عن المنحى التصعيدي لكنه لم يكن تراجعاً تامّاً أو سريعاً، إذ بقي العسف والقمع والاحتكام للعنف خلال السنوات التي تلت عام 2004.
ولعل الردّ الأميركي على قمع السلطات بدا قليل الاكتراث بما تعرّض له كرد سوريا، وهو ما ساعد في تخفيف الوطأة الأمنية على الكرد، إذ دعا آدم إيرلي نائب المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية دمشق إلى “التساهل مع الأقليات الإثنية في البلاد” والدعوة إلى الامتناع عن استعمال “وسائل قمعية لعزل أقلية (الكرد) تطالب بأن تكون مقبولة ومندمجة بشكل أفضل في حياة البلاد”، وفي مكان آخر صرح إيرلي في معرض ردّه على اتهامات النظام بدفع الكرد للانفصال بأنهم لا يدعمون الانفصال، مضيفاً أنهم يدعمون “الممارسة السلمية لحقوق الناس في إطار وحدة الأراضي”، وفي تلك الأثناء أيضاً قدّم الدعم العربي المتمثّل بزيارة الرئيس المصري حسني مبارك وموقف دول مجلس التعاون الخليجي، جرعة ثقة لدمشق المضطربة من ردّ فعلٍ أميركي مباغت.
يضاف إلى كل ما سبق أن مواقف بعض النخب المعارضة للمنهج القمعي، وموقف الأحزاب الكردية الداعية إلى التهدئة ومناشداتها رئيس الجمهورية لوقف حملة القمع المفتوحة، ساهمت في إيقاف النظام الهستيريا غير المبررة التي بدأت ظهيرة 12 آذار، إذ تمركزت مطالبات “مجموع الأحزاب الكردية” المبكّرة بتاريخ 15 آذار حول النقاط التالية: إطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية هذه الحوادث؛ وضع حد للأعمال الاستفزازية التي تقوم بها قوات الأمن والمليشيات المسلحة وسحب الأسلحة الموزّعة على هذه المليشيات؛ سحب القوات بعد استقرار الأوضاع ورفع الحصار عن بعض المناطق والأحياء الكردية وخاصة في ضاحية دمّر – زور آفا (وادي المشاريع)، وإعادة المياه والكهرباء المقطوعة منذ أيام؛ إجراء تحقيق عادل وشامل ومحاسبة المذنبين والمسؤولين عمّا حصل؛ تعويض المتضرّرين من أعمال النهب والسلب.

خاتمة
أصاب عنف النظام ولجوئه إلى أشد الحلول ضراوةً المجتمع الكردي بالذهول والصدمة، إذ لم يعهد كرد سوريا خلال عقود طويلة هذا الكم من القسوة ومشاهد القتل والاعتقال والتحريض، لكن الكرد في المقابل أظهروا قدراً من المسؤولية والتضامن، والقدرة على التعبئة الشعبية، ليس في سوريا فقط بل عبر الجاليات الكردية في أوروبا أيضاً.
كان من اللافت تنادي الأحزاب الكردية لاتخاذ مواقف موحّدة طيلة أيام الانتفاضة، وإن برزت فيما بعد الخلافات الحزبية وانقسام الشارع السياسي الكردي، حتى حول استخدام المصطلحات من قبيل هل أن ما جرى كان “انتفاضة” أم “أحداث” أم “هبّة”؟، كان خلاف الأحزاب على تعيين “جنس الملائكة” عودةً لتقاليد الخلافات غير المفيدة في حقل السياسة الكردية، والتي ستتحوّل إلى حلقة من مسلسل تبادل الاتهامات والخلافات حول حدثٍ لم تكن الأحزاب متسببة فيه أصلاً، وهو ما منح النظام القدرة على تجاهل المطالب الكردية فيما بعد، لاسيما مسألة تشكيل لجان التحقيق وتقديم الجناة للعدالة.
في المحصّلة: لا يمكن النظر إلى يوم 12 آذار بوصفه حدثاً قومياً يرتبط بسؤال الهوية وحسب، وأنه مقطوع الصلة بالأبعاد الاقتصادية/المعيشية وتنامي الفقر والتهميش، والتأثيرات الخارجية (الكردستانية) والتحوّلات التي شهدتها المنطقة عقب انهيار نظام صدام حسين، وتغوّل الأجهزة الأمنية. واقعياً، كان ثمة عوامل عديدة ساهمت في بلوغ المجتمع الكردي حالة الغضب غير المسبوق التي ولّدتها رصاصات قوات الأمن، ولا يمكن الركون تالياً لسبب واحد أشعل انتفاضة عمت كامل مناطق التواجد الكردي في سوريا.

المصدر: المركز الكردي للدراسات

شارك هذه المقالة على المنصات التالية