لحظة تاريخية وحرجة… انتقال آمن أم دوّامة عنف وفوضى جديدة في سوريا
الافتتاحية*
بعد أن انتهت نشوة الفرح بزوال النظام الدموي والخلاص من كابوسه، التفت الشعب السوري إلى التفكير ومتابعة جهود وإجراءات بناء سوريا جديدة، متطلعاً إلى ما سيصدر عن السلطات الحالية ورئيس المرحلة الانتقالية السيد أحمد الشرع، الذي تبوّأ الحكم واستحوذ على كامل مسؤوليات المرحلة الانتقالية، عبر ما سُمي بـ”مؤتمر النصر”. تلاه انعقاد «مؤتمر الحوار الوطني» في دمشق يومي 24-25 شباط 2025م، على نحو مستعجل في تحضيره وفعالياته، كأولى خطواته الرئيسية، دون أن يكون على مستوى تطلعات الشعب السوري بمختلف مكوناته وأطيافه السياسية.
هناك تطمينات عامة يطلقها حكّام سوريا الجدد، تلقى قبولاً شعبياً، وفي الوقت ذاته، هناك قلق عام وتخوّف مما يُرسم لمستقبل سوريا وحاضرها، حيث ما زالت هناك تركة ثقيلة من الحقبة السابقة، ولا يزال الوضع متوتراً في بعض المناطق، خصوصاً في حمص وحماة والساحل السوري. ولم تنجح بَعد حكومة دمشق الحالية في لمّ شمل البلاد، ولم تصل إلى تسويات ومصالحات حقيقية تضمن مصالح البلاد ومكوناتها، سواء في محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة مع قواتها المحلية، أو مع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). كما تستمرّ تركيا والميليشيات الموالية لها في شنّ الهجمات شمالاً، دون أن تتخذ حكومة دمشق أيّ موقف حيالها أو تدعو إلى وقف إطلاق النار وحلّ الصراع عبر الحوار، خصوصاً أن تلك الميليشيات باتت شكلياً ضمن وزارة الدفاع السورية؛ في الوقت نفسه، هناك مفاوضات جارية بين «قسد» وحكومة دمشق بوساطات من التحالف الدولي وأطراف أوروبية للوصول إلى حل سلمي توافقي.
من جهة أخرى، لا تزال مناطق عفرين وسري كانيه/رأس العين وكري سبي/تل أبيض وغيرها تحت الاحتلال التركي، ولم تنسحب منها ميليشيات «الجيش الوطني السوري» رغم مرور شهر على قرار حلّها، لا سيّما أن ظروف تلك المناطق غير ملائمة لعودة أهاليها المهجّرين بحرية وكرامة، في حين يستوطن فيها مئات الآلاف من المستقدمين، مسلحين ومدنيين، ويستحوذون على ممتلكات السكان الأصليين، ولم يعد مُهجّر واحد إلى داره وأرضه في منطقة رأس العين وتل أبيض! وجنوبًا، تهدد حكومة إسرائيل بجعل المناطق الحدودية في المحافظات الجنوبية الثلاث «منطقة عازلة»، يُمنع فيها تواجد أي قوات عسكرية تابعة لحكومة دمشق.
أما الأوضاع المعيشية اليومية فنحن أمام كارثة حقيقية، حيث الاقتصاد مدمّر والأوضاع المعيشية خانقة، وبالكاد يستطيع قطاع كبير من المواطنين سدّ جوعهم، مع وصول نسبة السكان تحت خط الفقر إلى أكثر من 90% وتفشي البطالة، بسبب آثار الحرب الطويلة وتدمير البنية التحتية والعقوبات الاقتصادية على البلاد. كما تشهد الأسواق مضاربات كبيرة في أسعار المال والتجارة، وتتأرجح الليرة السورية بين أسعار وهمية، في ظل سياسات نقدية غير شفافة، وتراجع الناتج المحلي، بالإضافة إلى تدفق كميات هائلة من السلع الاستهلاكية والسيارات إلى سوريا، خاصةً من تركيا. كما يعاني المواطنون من تدني الرواتب، وتسريح عشرات الآلاف من العاملين في الدولة بشكل اعتباطي ومزاجي في كثير من الأحيان، إلى جانب إطلاق تصريحات متسرعة حول خصخصة القطاع العام دون الاستناد إلى دراسات استراتيجية وطنية دقيقة.
من جهة أخرى أصبحت الإملاءات التركية على الشرع وحكومته مفضوحة، لا سيّما أن المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس أردوغان، يعلنون مراراً توجهاتهم ومطالبهم حيال سوريا، ويسعون لاستغلال الواقع الجديد. فهم يرفضون وقف الهجمات على مناطق الإدارة الذاتية، ويماطلون في حلّ الميليشيات الموالية لهم وتسليم إدارة المناطق المحتلّة إلى السلطات السورية الجديدة، كما يعارضون مفاوضاتها مع «قسد». وكان لتركيا تأثير مباشر على «مؤتمر الحوار الوطني»، حيث أقصت ممثلي مناطق الإدارة الذاتية، وجلبت شخصيات كردية موالية لها، ومنعت إدراج القضية الكردية في سوريا، أو قضايا باقي المكونات القومية ولغاتهم وثقافاتهم، ضمن جدول أعمال المؤتمر ومخرجاته.
البلاد في حالة مزرية، ولا توجد حلول سريعة، ولكن الأولوية في حلّ الأزمات تكمن في تحقيق الأمن والسّلم الأهلي وتوفير مقومات الحياة، واعتماد سياسات متوازنة على أسس ديمقراطية شاملة، وفق مقاصد القرار 2254 الأممي لحلّ الأزمة السورية. ويشمل ذلك تأسيس ما هو مأمول ومرتقب من (مؤتمر وطني شامل وتمثيلي بقرارات ملزمة بخلاف ما جرى من اجتماع شكلي في دمشق قبل أيام، حكومة مؤقتة شاملة، إعلان دستوري مؤقت، مجلس تشريعي مؤقت، لجنة صياغة دستور، هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية) بشكل عادل، بحيث تمثل هذه الهيئات الانتقالية تطلعات غالبية أبناء ومكونات الشعب السوري، دون إقصاء أو تهميش، وتحظى بالقبول لدى المجتمع الدولي، مما يساهم في تسريع رفع العقوبات الاقتصادية وبدء عملية إعادة إعمار البلاد، وعودة المهجّرين والنازحين، بالإضافة إلى تفعيل الحياة السياسية، والسماح للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بممارسة نشاطاتها بحرية.
ولا يمكن استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار بلغة التهديد والوعيد، أو اللجوء مجدداً إلى العنف من قبل السلطة تجاه الداخل، بل يتطلب الأمر حماية حقوق الجميع، وصون حريتهم، وإشراكهم في اتخاذ القرار، ومنح كافة المناطق السورية كامل صلاحياتها في إدارة شؤونها الخدمية والاجتماعية والثقافية، ضمن نظام ديمقراطي لامركزي، والاعتراف بخصوصية القضية الكردية ضمن الإطار السوري العام.
إن الفشل في ضمان عملية انتقالية آمنة، وإشراك القوى الفاعلة في الداخل في كافة مسارات المرحلة الانتقالية، سياسياً واجتماعياً وأمنياً، سيؤدي إلى تفاقم الأزمات، ويدخل البلاد في دوامة عنف وفوضى جديدة، وسينعكس ذلك على المنطقة بأسرها، مما يهدد استقرارها. خاصةً مع استمرار وجود الجماعات الإرهابية في الداخل، مثل داعش وشبكات القاعدة وخلاياها بمسميات مختلفة، إلى جانب تربّص الاحتلالين التركي والإسرائيلي، اللذين يسعيان إلى توسيع سيطرتهما على الأراضي السورية، والاستيلاء على مقدّرات الشعب السوري، وسط محاولات واضحة من تركيا لفرض وصايتها على حكومة دمشق الجديدة، وتحقيق أطماعها التاريخية غير المشروعة بالضدّ من القانون الدولي.
من جانبٍ آخر، لابد من تسريع خطوات تلاقي الحركة الكردية وتأسيس تمثيلية سياسية للكُـرد في سوريا، كي تمارس وتواصل مسؤولياتها التاريخية بأفضل السبل في الدفاع عن القضية الكردية العادلة والديمقراطية وحقوق الإنسان والقضايا الوطنية في البلاد، لا سيّما وأنّ دعوة القائد عبد الله أوجلان لتحقيق السّلام في تركيا ستنعكس إيجاباً على عموم المنطقة، خاصةً وأنّ حزب العمال الكردستاني أعلن قبوله الدعوة وأوقف إطلاق النار من جانبه، وتبقى حكومة أنقرة المسؤولة الأولى والأخيرة في اتخاذ خطوات جدّية موثوقة في إطارٍ دستوري وقانوني لحلّ القضية الكردية وتحقيق الديمقراطية في تركيا وضمان حياة وحرية أعضاء وقيادات الحزب وفتح المجال أمامهم في ممارسة العمل السياسي، وإطلاق سراح أوجلان كأشهر معتقل سياسي في العالم.
————-
* جريدة “الوحـدة” – العدد /347/ – 1 آذار 2025م – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=64002