الجمعة, ديسمبر 27, 2024

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة الرابعة عشرة ) الحاكم المؤرخ ابن أبي الهيجاء ( 620 – 700 هـ / 1223 – 1301 م ) معركة ملازگرد

د. أحمد الخليل

يقول المثل: ” رُبّ رَمْيةٍ من غير رامٍ “!
وكذلك كان شأني مع الحاكم المؤرخ ابن أبي الهيجاء الإرْبِلي.
فالحقيقة أني لم أكن أعرف عن الرجل شيئاً، ولا عن كتابه (تاريخ ابن أبي الهيجاء)، فقد كنت، خلال مطالعاتي في المؤلفات التاريخية، مهتماً بكتابات المشاهير من المؤرخين، من أمثال الطَّبَري والمسعودي وابن الأثير، وابن كَثِير. وشاءت الأقدار أن أحطّ رحلي في دولة الإمارات، والتقيت هناك بصديقي الأستاذ الشيخ محمد الموسى، وهو زميل سابق في الدراسات العليا بجامعة حلب، وذكر أنه يعمل في تحرير (مجلّة منار الإسلام) الصادرة في أبو ظبي، ودعاني إلى الكتابة فيها.

وكنت حينذاك أسعى لتأليف كتاب حول صلاح الدين الأيوبي- وما زال المشروع قائماً- فكنت منهمكاً بجمع المعلومات الخاصة بالعهد الأيوبي، وبالحروب التي دارت بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، والتي سُمّيت في العصر الحديث باسم (الحروب الصليبية)، فكنت أقرأ لمؤرخين مسلمين وأوربيين كثر، لهم مؤلفات رصينة في هذا المجال. ووجدتُني أميل إلى الكتابة في موضوع تلك الحروب، ونشرت لي المجلة حوالي خمس مقالات في هذا المجال، وكان ذلك في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي، وكان من جملة تلك المقالات مقالة بعنوان (منازگرد ملحمة البطولة والإيمان) فيما أذكر.

ولمدينة منازگرد أسماء عديدة في المصادر الإسلامية، فهي تسمى منازگرت وملازگرد وملازجرت أيضاً، وتقع شمالي بحيرة وان، وقد دارت قربها معركة كبرى بين السلطان السلجوقي أَلْب أرسلان والملك البيزنطي أرمانوس سنة (463 هـ / 1071 م)، وجاء في المقالة أن ألب أرسلان كان قد سرّح أغلب جيشه للاستراحة، ولم يبق معه سوى أربعة آلاف فارس، وقد باغته أرمانوس بالهجوم، فانضم إليه عشرة آلاف مقاتل كردي من أبناء المنطقة، وحقق ألب أرسلان النصر، ووقع أرمانوس في الأسر، وأصبحت أبواب آسيا الصغرى مفتوحة أمام السلاجقة، وكانت الحروب الصليبية من أهم تداعيات تلك المعركة، فقد استنجدت الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية بالكنيسة الكاثوليكية في روما، وبالعالم المسيحي الأوربي، وبدأ الإعداد للحملة الصليبية الأولى سنة (1095 م)، ونُفّذت فعلياً سنة (1096 م).

والملاحظ أن معظم المؤرخين الذين كتبوا عن الحروب الصليببية، في العصر الحديث، يكتفون بذكر أن أوربا شنت حرباً صليبية على شعوب شرقي المتوسط، رغبة في استعادة القدس، وطمعاً في البلاد الإسلامية، ولا يشيرون إلى أن تهديد التركمان السلاجقة للدولة البيزنطية، وغزوهم للأناضول بعد معركة منازگرد، كان العامل الأول والأهم في أن تستنفر أوربا كنيسةً وملوكاً وشعوباً، وأن تندلع تلك الحروب الضارية، وتستمر حوالي قرنين من الزمان.

أتراك الجبال!
وبعد حوالي شهر تقريباً من نشر المقالة وصلتني رسالة من إدارة تحرير المجلة، تطلب مني الاطلاع على رسالة مرفقة أخرى، أرسلها إلى المجلة باحث تركي يعدّ رسالة الماجستير في التاريخ، ويعمل في ملحقية ثقافية تركية بمصر، واطلعت على رسالة الباحث، وكانت في ثلاث صفحات تقريباً، وبدا الأخ الباحث في رسالته حريصاً على التشكيك في المعلومات التي سقتها، كما أنه كان ممتعضاً من اسم ملازگرد، ومن ذكر اسم الكرد، وأنهم سكان تلك المنطقة، وكان ممتعضاً أكثر من أن يكون للفرسان الكرد دور في تحقيق النصر في معركة ملازگرد، والحجّة التي ساقها هي أنه من غير المعقول أن يكون ثمة عشرة آلاف مقاتل كردي في جيش ألب أرسلان، متسائلاً: كيف يكون جيشه من الكرد وهو سلطان تركي؟

ثم أنهى الأخ الباحث رسالته بما خلاصته أن الترك والكرد إخوة، وأنه لا داعي إلى ذكر هذه المعلومات في هذه الأوقات، فهي – حسب رأيه- تزعزع الصف الإسلامي، ولم يتردد، مثل سائر الهاربين من الحقائق، في أن يربط الموضوع جملة وتفصيلاً بالمستشرقين ومحاولاتهم زرع الخصومات بين المسلمين، وألحّ على إدارة المجلة أنه يريد الجواب؛ إما عبر رسالة، وإما نشراً على صفحات المجلة.

والغريب في الأمر أني كنت قد ذكرت في آخر المقالة أهم المصادر التاريخية التي استقيت منها المعلومات، كما هو شأني حينما أتناول القضايا التاريخية، لكن الأخ الباحث لم يكلّف نفسه عناء العودة إلى بعضها على الأقل، للتأكد من صحة المعلومات أو عدم صحتها، قبل أن يطالبني ويطالب المجلة بالجواب. والأغرب من هذا أنه- وهو يحاول أن ينفي المعلومات التي أوردتها أو يشكّك فيها- لم يذكر مصدراً واحداً، لا قديماً ولا حديثاً، اعتمدها هو في الحصول على المعلومات التي ساقها، والتي رآها كافية لنقض معظم ما نشرته في المقالة، ونهج نهج الملك الفرنسي لويس الرابع عشر حينما قال: ” أنا الدولة “.

وكنت ألمح- وأنا أقرأ رسالة الأخ الباحث- عقلية إلغائية قد تليق بالجهلة وأنصاف المتعلمين، ولكنها لا تليق مطلقاً بطلبة الدراسات العليا والباحثين، وأدركت أن ما يطل من وراء كلماته ليس حبه للحقيقة التاريخية، ولا رغبته في امتلاك المعرفة الصائبة، وإنما نزعته الأتاتوركية الطورانية، تلك النزعة التي علّمته وأقرانه منذ الصغر أن العنصر التركي أفضل بني البشر، وأنه لا وجود للكرد ليس في تركيا فقط، وإنما في العالم كله، وأنهم في أحسن الأحوال (أتراك الجبال)؛ وهذا دال عُضال ابتُلي به بعض أبناء بيتنا الشرق متوسّطي الكبير، ولا يتم القضاء على هذا الداء إلا بجهود المثقفين المخلصين المتّزنين.

وكان حزني كبيراً بقدر دهشتي: أما دهشتي فهي من باحث في الدراسات العليا ينفي معلومات تاريخية موثّقةً، ويُعفي نفسه من التوثيق، ثم يطالب الآخرين بالرد. وأما حزني فلأني اكتشفت أن ثمة من الباحثين في بيتنا التاريخي الكبير هذا- أقصد شرقي المتوسط – يتخصصون في التاريخ ليس بحثاً عن الحقائق، ولا خدمة لشعوب هذا البيت الكبير، ولا سعياً لتثقيف الجماهير، وإعطاء كل شعب من شعوب هذا البيت حقه من التقدير، وإنما يتخصصون لتغييب الحقائق، وتضليل الجماهير، وزرع الأوهام والأباطيل في ذاكرة الأجيال.

ثقافة (عنزةٌ ولوطارت)!
والحق أني كنت وما زلت أكره السجالات العقيمة، بل أضيق بها ذَرْعاً، فهي مضيعة للوقت والجهد معاً، وأعتقد أنه لا يسعى وراء السجالات العقيمة إلا أحد اثنين: إما امرؤٌ قليل المعرفة، ضيق الأفق، ويعتقد في الوقت نفسه أنه بلغ من العلم أقصاه، ومن المعرفة منتهاها. وإما امرؤٌ من أتباع ثقافة (عنزة ولو طارت!)، فهو مكابر ومناور ومداور، تقدم له الحجج فيصرّ على الباطل، وتضعه على الطريق القويم فيأبى إلا الاعوجاج، وكلما ابتلى بأحد من هؤلاء أتذكر ما أورده أبو حيّان التوحيدي (ت 416 هـ) في كتابه (الإمتاع والمؤانسة، ج 2، ص 90) حول مشكلة المفكر المعتزلي أبي الهُذَيْل العلاّف مع زَنْجَوَيه الحمّال، قال التوحيدي:

” قيل لأبي الهُذيل العلاّف- وكان متكلّم زمانه- إنك لَتناظر النظّام [ إبراهيم النظّام من كبار مفكري المعتزلة ]، وتدور بينكما نَوبات، وأحسنُ أحوالنا إذا حضرنا أن ننصرف شاكّين في القاطع منكما والمنقطِع [ الغالب والمغلوب ]. ونراك مع هذا يناظرك زَنْجَوَيه الحمّال فيَقطعك [ يغلبك ] في ساعة. فقال: يا قوم، إن النظّام معي على جادّة واحدة [منهج واحد]، لا ينحرف أحدنا عنها إلا بقدَر ما يراه صاحبه، فيذكّره انحرافَه، ويَحمله على سَننه [مبادئه]، فأمرُنا يَقرُب، وليس هكذا زَنْجَوَيه الحمّال، فإنه يبتدئ معي بشيء، ثم يَطفِر إلى شيء بلا واصلة ولا فاصلة، وأبقى، فيُحكَم عليّ بالانقطاع، وذلك لعجزي عن ردّه إلى سَنن الطريق الذي فارقني آنفاً فيه “.

أقول: مع نفوري من السجالات العقيمة لم أجد بداً من الرد على صاحبي الباحث التركي، فهو مصرّ على أن يتلقّى الإجابة عن تساؤلاته وأقواله، ويطالب إدارة المجلة بذلك، ومن حق إدارة المجلة بدورها أن تحيل الأمر عليّ وتنتظر مني الرد، ومن واجبي أيضاً أن أدافع عن المعلومات التي سقتها، وأؤكد أنها مستقاة من مصادر تاريخية وأنها موثقة، وأنها ليست أضغاث أحلام، ولا هي حفلة سمر بائسة.

وقمت بما ينبغي أن أقوم به، وكتبت مقالة جوابية، ونشرتها المجلة مشكورة، وبيّنت للأخ الباحث أخطاءه في المنطلقات والمنهج والنتائج، وأوردت عدداً من المصادر التاريخية الأخرى، وقدمت له من الحجج النقلية والعقلية ما يكفي. ثم أوضحت له أن الكرد موجودون على ترابهم التاريخي، وهم لم ينزلوا بالمظلة من كوكب آخر، ولم ينبثقوا دفعة واحدة من الأرض السابعة، بل هم أعرق من الأتراك أنفسهم في هذا المجال، فقد بدأ الوجود التركي في غربي آسيا مع الغزو السلجوقي في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، في حين يعود تاريخ الكرد، في تلك الديار، إلى قرون كثيرة قبل ذلك.

وبما أن الأخ الباحث كان شديد الامتعاض من ذكر اسم الكرد في المقالة، ومن أنهم كانوا من سكان منطقة ملازگرد، حتى إنهم قدموا عشرة آلاف مقاتل من أبنائهم لنصرة السلاجقة في حربهم ضد الروم، أقول: بما أن الأمر كان كذلك، فقد وجدت من واجبي تأصيل ذلك الخبر، وكنت نقلته سابقاً من مرجع عربي حديث، أو من مرجع أوربي. وعدت إلى ذلك المرجع، وإذا بالمؤلف قد استقى المعلومة من كتاب تاريخي قديم اسمه (تاريخ ابن أبي الهيجاء). ومن حسن الحظ أني وجدت الكتاب، وإذا بالمؤلف ابن أبي الهيجاء يقول في الصفحة (118 – 119) ضمن أحداث سنة (463 هـ):” وفيها كانت وقعة عظيمة بين ألب أرسلان وملك الروم “. ثم يفصّل القول فيقول:

” … وورد الخبر بأن ملك الروم قاصدٌ بلادَ المسلمين بالجمع الكبير، وكان تفرقَ عسكر السلطان، فأنفذ نظامَ المُلك [ وزيره ] إلى هَمَذان ليجمع العساكر، وبقي السلطان في أربعة آلاف غلام جريدةً، مع كل غلام فرس يركبه وآخر يجنبه، وسار قاصداً ملك الروم. وقصد ملك الروم إلى مناذكرد فأخذها، وتواقف السلطان وملك الروم يوم الجمعة وقت الصلاة، وكان قد اجتمع إلى السلطان عشرة آلاف من الأكراد، وكان مع ملك الروم مائة ألف مقاتل، ومائة ألف جُرجي، فلما كان وقت الصلاة رمى السلطان القوس من يده، وأخذ الدبوس، وساقوا على الروم فكسروهم، ولم ينج منهم إلا القليل، وأسر ملك الروم “.

وكانت تلك بداية معرفتي بالمؤرخ ابن أبي الهيجاء، وكانت- والحق يقال- رَميةً من غير رامٍ. ولو عرفت عنوان الأخ الباحث لشكرته أجمل الشكر، بل ها أنذا أشكره الآن، فقد دفعني إلى مزيد من البحث، وإلى اكتشاف أحد مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي؛ ألا وهو الحاكم المؤرخ ابن أبي الهيجاء

فمن هو الرجل؟

وماذا عن عصره وأخباره وآثاره؟

نشأة ابن أبي الهيجاء
هو الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء بن محمد الهَذْباني الإربلي، ولد سنة (620 هـ / 1223 م) بمدينة أربيل، وها هنا نقف عند أمرين:

– قبيلة هَذْباني.

– ومدينة أربيل.

أما قبيلة هَذْباني فهي قبيلة كردية عريقة ضخمة العدد، ذكرها المؤرخون في معرض حديثهم عن نسب الأسرة الأيوبية، فذكروا أنها تنتسب إلى عشيرة رَوادي ( رُوآدي = الشمسانيون) الكردية، وهذه العشيرة بطـن من قبيلة هَذْباني (هازبني) الكبيرة القاطنة في منطقة دَوِين في أرمينيا، وذكر المؤرخ الجليل محمد أمين زكي أن قسماً كبيراً من قبيلة هذباني كان يسكن في منطقة أربيل في عهد الأتابكة التركمان. وبما أن الأسرة الأيوبية كانت تقيم في مناطق أرمينيا، وبما أنها كانت مقرّبة من الحكومة الشدادية الكردية (340 – 465 هـ) التي كانت تبسط نفوذها على مناطق من أذربيجان وأرمينيا، قبل أن يقضي عليها الغزو السلجوقي، فهذا يعني أن قبيلة هذباني كانت تتوزع على أجزاء كبيرة من كردستان، تمتد من المناطق الكردية في أذربيجان وأرمينيا شمالاً إلى منطقة أربيل جنوباً.

وأما مدينة أربيل فهي مدينة ذات تاريخ عريق، سمّاها ياقوت الحموي (ت 626 هـ) (إِرْبِلُ)، وعلى عادة بعض الجغرافيين والمؤرخين المسلمين القدامى حاول ياقوت أن يجد أصلاً عربياً لاسم هذه المدينة، فقال في كتابه (معجم البلدان، ج 1، ص 166):

” فإن كان إربل عربياً فقد قال الأصمعي: الرَّبْلُ ضرب من الشجر، إذا برد الزمان عليه وأدبر الصيف تفطّر بورق أخضر من غير مطر، يقال: تربّلت الأرض، لا يزال بها رَبْل، فيجوز أن تكون إربل مشتقة من ذلك. وقد قال الفرّاء: الريبال النبات الكثير الملتفّ الطويل، فيجوز أن تكون هذه الأرض اتفق فيها في بعض الأعوام من الخصب، وسعة النبت ما دعاهم إلى تسميتها بذلك. ثم استمر… “.

وهذه ظاهرة عجيبة أجدها في كتابات بعض المؤرخين والجغرافيين المسلمين القدامى، إلى درجة أني أتساءل: أين هو الحس النقدي؟ وأين هو المنهج العلمي؟ وأين هو المنطق في التحليل والاستنتاج؟ أما كان يسع هؤلاء أن يسكتوا عما لا يعرفونه، ولا يكلّفوا أنفسهم عناء التمحّل والتعسّف؟ أليس نصف العلم أن يقول أحدنا: لا أعلم؟!

والحقيقة أن اسم أربيل أقدم بكثير من عهد الفتوحات الإسلامية في كردستان، وهو من ثم أقدم من وصول العرب إلى تلك المناطق في بدايات القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، وأقدم من الأصمعي والفرّاء، فقد جرت في أحد سهولها معركة گُوگَميلا Gugamela سنة (331 ق.م)، وحقق فيها الإسكندر المكـدوني النصرالحاسم على الملك الأخـميني دارا الثالث.

وأضاف ياقوت قائلاً في (ص 167) من كتابه: ” وإربل قلعة حصينة، ومدينة كبيرة، في فضاء من الأرض واسع بسيط، ولقلعتها خندق عميق، … وأكثر أهلها أكراد قد استعربوا، وجميع رساتيقها وفلاحيها وما ينضاف إليها أكراد “. ولعله يقصد بقوله (استعربوا) أنهم يتحدثون العربية باعتبار أنهم اعتنقوا الإسلام، ولعله نقل عبارة (استعربوا) ممن قبله من الجغرافيين والمؤرخين، إذ كانت العادة قد جرت، ولا سيما في العصر الأموي، أن كل من اعتنق الإسلام من الفرس والكرد وغيرهم، في شرقي العالم الإسلامي، كان يسمى عربياً؛ وهذا أمر معروف في المصادر التاريخية.

عصره علمياً
وقد توجّه الأمير عز الدين إلى الشام شاباً، وشارك في الحياة العلمية بها، فذكر الصَّفَدي في (الوافي بالوفيات، ج 5، ص 170) أنه كان جيد المشاركة في التاريخ والأدب وعلم الكلام، وأنه جالس العزّ الضرير، وروى عنه كثيراً من شعره، وكانت بينهما صحبة، لأنهما من بلد واحد هو إربل، وأنه لازم العز الضرير يوم وفاته، والعز الضرير هذا هو فيلسوف كردي، اسمه الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا الإربلي، ولد سنة ( 586 هـ ) في نصيبين، وكان بارعاً في الأدب والعربية، ورأساً في علوم الأوائل، توفي سنة ( 660 هـ )، ودفن بسفح جبل قاسيون في دمشق.

وظن بعض الدارسين أن ابن أبي الهيجاء كان شيعياً، مستدلاً على ذلك بملازمته للعز الضرير الذي كان من الشيعة حسبما أُشيع عنه، واستدلوا على تشيّع ابن أبي الهيجاء أنه كان ينعت الخلفاء الفاطميين بلقب الإمام، ولا أعتقد أن هذا النعت دليل كاف على تشيّعه، بل هو دليل على أنه عالم موضوعي يتعامل مع الحقائق كما هي، ولا ينساق خلف العنعنات المذهبية، ثم كيف يكون متشيّعاً وقد ولاّه السلطان المملوكي حكم دمشق ربع قرن من الزمان كما سنرى؟! ويعلم كل قارئ للتاريخ الإسلامي أن المماليك كانوا حماة للمذهب السني مثل سادتهم الأيوبيين. ومهما يكن فقد تطوّع مؤرخون آخرون بتبرئة ساحة ابن أبي الهيجاء من تهمة التشيّع، فوصفوه بأنه كان مشكور السيرة حسن المحاضرة.

وكان عصر ابن أبي الهيجاء عصر نشاط علمي وفكري، كثر فيه العلماء، إلى جانب الإنتاج العلمي الغزير، وصحيح أن المماليك الأتراك قضوا على دولة أسيادهم الأيوبيين سنة (648 هـ / 1250 م)، إلا أن الإنجازات العلمية الأيوبية ظلت تفعل فعلها بعد زوال دولتهم بزمن طويل، إنهم كانوا قد أسسوا كثيراً من مراكز العلم، وبذلوا الاهتمام بالعلم وطلبته، واقتنوا الكتب، وأنشؤوا المكتبات، فكانت المكتبة التابعة للمدرسة الكاملية (أنشأها الملك الكامل الأيوبي سنة 621 هـ) تحتوي على ما يقرب من مئة ألف كتاب.

وبرز في عصر ابن أبي الهيجاء كثير من العلماء في مختلف المجالات، نذكر منهم: ابن العديم (ت 660 هـ) صاحب (بُغْية الطلب في تاريخ حلب)، و(زُبْدة الحلَب من تاريخ حلب)، وأبو شامة (ت 665 هـ) صاحب (كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية)، وابن أبي أُصَيْبِعة (ت 668 هـ) صاحب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، وابن خَلِّكان (ت 681 هـ) صاحب (وَفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان)، وجمال الدين ابن واصل (ت 697 هـ) صاحب (مُفرِّج الكروب في أخبار بني أيوب)، وابن منظور المصري الإفريقي (ت 711 هـ) صاحب المعجم اللغوي الشهير (لسان العرب)، والعلامة شمس الدين الذَّهَبي (ت 748 هـ) صاحب (تذكرة الحفّاظ) و(ميزان الاعتدال في نقد الرجال).

عصره سياسياً
عاصر ابن أبي الهيجاء أحداثاً سياسية كبرى، أهمها حدثان اثنان، هما:

– سقوط الدولة الأيوبية: فقد استولى المماليك البحرية الأتراك على الدولة الأيوبية، وأسسوا الدولة المملوكية سنة (648 هـ / 1250 م)، وكان السلاطين الأيوبيون يجندون المماليك بسبب حروبهم الكثيرة والطويلة ضد الفرنجة، لكن السلطان الصالح نجم الدين أيوب (ت 647 هـ) أكثر من تجنيدهم، وأسكنهم جزيرة الروضة في نهر النيل، فسموا (المماليك البحرية)، وقدّمهم على الكرد والعرب، حتى إنه كان قد أبعد ولده الوحيد تَوْران شاه إلى حِصن كَيفا (حَسَنْكَيف) وديار بكر (آمِد)، وكانت هذه الخطوة من أخطائه الكبرى، إذ سرعان ما استغل المماليك مرض السلطان وحملة الملك الفرنسي لويس التاسع على مصر، فهيمنوا على مقاليد الأمور، وبعد وفاة السلطان تآمروا مع زوجته شجرة الدُّر وهي من جنسهم، على ولده السلطان توران شاه، فقتلوه غدراً، وأزالوا الدولة الأيوبية.

– الهجوم المغولي: بعد أن وحّد جنگيزخان قبائل المغول والتتار في سهوب آسيا الوسطى، وشكّل قوة حربية ضاربة شرسة ومنضبطة، قضى على الدولة الخُوارزمية الشيعية الهوى، بموافقة من الخليفة العباسي السنّي الناصر لدين الله (ت 622 هـ)، ثم اندفع المغول غرباً بقيادة هولاكو حفيد جنگيزخان، فاجتاحوا إيران وأذربيجان وكردستان، واحتلوا بغداد سنة (656 هـ / 1258 م)، ثم توغّلوا في بلاد الشام سنة (658 هـ)، فهزمهم المماليك بقيادة قُطْز في معركة (عين جالوت) بفلسطين، وردّوهم على أعقابهم. ثم هاجم المغول بلاد الشام ثانية سنة (680 هـ في جيش كبير، فتصدى لهم السلطان المملوكي المنصور قَلاوُون في موقعة حمص وهزمهم. وعاد التتار إلى مهاجمة بلاد الشام بقيادة قازان سنة (699 هـ)، وهزموا المماليك في موقعة المروج بين حمص وحماه، ودخلوا دمشق، وعاثوا فيها فساداً.

وفي الوقت نفسه كان بعض الفرنجة ما زالوا يسيطرون على بعض المواقع في بلاد الشام، ولا سيما حصن المرقب في سوريا. وبعد أن انتصر السلطان قلاوون على المغول في موقعة حمص عزم على ضرب الفرنجة، فاتجه سنة (684 هـ) لمهاجمة الأسبتارية في حصن المرقب، واستعداداً لخطته الهجومية أجرى تغييرات في دمشق، فعزل الأمير سيف لدين طوغان عن ولاية دمشق، وولّى عليها الأمير ابن أبي الهيجاء، ثم توجّه إلى الديار المصرية.

وظل ابن أبي الهيجاء والياً على دمشق إلى أن توفي سنة (700 هـ / 1301 م)، وإن بقاءه والياً على دمشق طوال ربع قرن من الزمان، وفي عصر يموج بالأحداث العصيبة، وبالحروب ضد المغول والتتار شرقاً، وضد الفرنجة غرباً، دليل على أنه كان حاكماً مقتدراً في أزمنة السلم والحرب، كما أنه دليل على ثقة سلاطين المماليك به، ولا ننس أن بلاد الشام كانت الجناح الشرقي من السلطنة المملوكية، وكانت تمثّل العمق الإستراتيجي للسياسات المملوكية، ومن المفيد أن نتذكّر أيضاً أن إستراتيجية المماليك، كانت في جوانب كثيرة، امتداداً لإستراتيجية أساتذتهم الأيوبيين، وبما أن ابن أبي الهيجاء ظل والياً على دمشق عاصمة بلاد الشام تلك المدة الطويلة كان من الطبيعي أن يسهم إسهاماً كبيراً في صناعة الأحداث السياسية والعسكرية، وقد شارك بفعالية في الحرب ضد الفرنجة، حتى تم طردهم سنة (690 هـ / 1290 م) في عهد الملك المملوكي الأشرف خليل بن المنصور قلاوون.

منهجه في التأريخ
يبدو أن ابن أبي الهيجاء أنجز في علم التاريخ أكثر مما وصلنا في كتابه (تاريخ ابن أبي الهيجاء)، فقد ذكر العيني (ت 855 هـ) في كتابه (عقد الجمان، ج 4، ص 155) أن مؤرخنا ” جمع مجلداً ابتدأ فيه من النبي عليه السلام إلى وقعة قازان “. لكنه ركّز في تاريخه على الأحداث التي جرت من سنة ( 358 هـ ) إلى سنة (522 هـ )، وصحيح أنه غطّى أهم الأحداث التي وقعت في تلك الفترة على ساحة جغرافية واسعة، تمتد من أفغانستان شرقاً إلى ليبيا غرباً، لكنه كان مهتماً على الغالب بالأحداث التي دارت في العراق وكردستان وبلاد الشام، باعتبار أن تلك البلاد كانت مسرحاً لأبرز الأحداث السياسية والعسكرية حينذاك، ومن أهمها العهد البويهي، ثم سقوط الدولة البويهية على أيدي السلاجقة، والحملات الفرنجية، ثم ظهور الزنكيين، والصراع ضد الفرنجة.

ويقوم منهج ابن أبي الهيجاء التاريخي على التسجيل الحولي، وذكر الأحداث الصغرى، وبعض الوفيات في نهاية كل سنة. وقد استقى مادة كتابه من عشرات الكتب، وهذا دليل على سعة اطلاعه في مختلف الفنون الشرعية والأدبية والتاريخية، كما أنه استقاها من مؤرخين معاصرين له، ومنهم ابن خلِّكان، وحرص على تعليل بعض الظواهر، ونقد بعض الأخبار، ونقد سلوك بعض الناس.

وقد توفي ابن أبي الهيجاء، كما سبق القول، سنة (700 هـ / 1301م)، وكان حينذاك قادماً إلى دمشق من مصر، ودفن في جبل قاسيون، فكان – رحمه الله – خير مثال على الحاكم القدير والمؤرخ الجليل.

المصــادر
1 – ابن أبي الهيجاء: تاريخ ابن أبي الهيجاء، تحقيق ودراسة الدكتور صبحي عبد المنعم محمد، رياض الصالحين للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى، 1993.

2 – ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1975م، 1982م.

3 – أبو حيّان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت، 1970.

4 – أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين، تحقيق أحمد البيسومي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1992م.

5 – ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق جمال الدين الشيّال، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1964م.

6 – الصفدي: الوافي بالوفيات، فسبادن، ألمانيا، 1394 هـ.

7 – العيني: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.

8 – ابن كثير: البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، 1977م.

9 – المقريزي: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق الدكتور محمد مصطفى زيادة، دار الكتب المصرية، 1934 م.

10 – ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990.

11- اليونيني: ذيل مرآة الزمان، حيدر آباد، 1954م.

وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة عشرة.

د. أحمد الخليل في 18 – 4 – 2006

شارك هذه المقالة على المنصات التالية