د. أحمد الخليل
من المفيد جداً أن نقرأ بعمق أقوال الحكماء.
ولا سيما إذا كان أولئك الحكماء ضليعين في التاريخ.
وما زلت معجباً بقول رائع قاله حكيم الصين الأشهر كونفوشيوس منذ أكثر من ألفين وخمسمئة سنة، لقد نصح أحد أمراء الصين حينذاك بقراءة كتب التاريخ، قائلاً له: ” إذا نظرتَ في المرآة استطعت أن تعدّل وضع التاج على رأسك، وإذا نظرتَ في التاريخ استطعت أن تتنبّأ بقيام الدول وسقوطها “.
وعلاقة الكرد بالديار المصرية أمر مثير حقاً، إنها علاقة عريقة جداً، تعود إلى ما قبل الميلاد بحوالي ألف وخمسمئة عام، فحينذاك كانت تتنافس في غربي آسيا ثلاث دول رئيسة هي: الدولة الميتّانية (الميتّانيون فرع من جدود الكرد)، والدولة الحثية، والدولة المصرية، وكانت العلاقة بين الميتّانيين والحثيين علاقة صراع على الدوام، كما اشتبك الميتّانيون مع المصريين في حرب بشأن الصراع على بلاد الشام، لكن انتهى الأمر بين الطرفين الميتّاني المصري إلى الصلح، وتحالفا معاً لمواجهة الخطر الحثّي القادم من الأناضول شمالاً.
وقامت علاقات مصاهرة بين الأسرتين الملكيتين في ميتّانيا ومصر، فكانت إحدى بنات الملك الميتّاني أَرْتَتَما الأول، أو إحدى بنات ابنه، زوجة للفرعون تحوتمس الرابع (1400-1390 ق.م)، كما أن إحـدى بنات الملك الميتّاني شُتَّرْنا الثاني- ويعتقد أنها نفرتيتي- كانت زوجة للفرعون أمنحوتب الثالث الذي يسميه الإغريق أمنوفس الثالث (1390-1352 ق.م).
ثم يعرف كل مطّلع على التاريخ الإسلامي أن الدولة الأيوبية قامت، أول ما قامت، في مصر، وتوسّعت بعدئذ، فشملت مناطق شاسعة، تمتد من سفوح جبال زغروس شرقاً إلى حدود تونس غرباً، ومن حدود أرمينيا شمالاً إلى اليمن ضمناً جنوباً، وكانت مصر على الدوام مركز السلطة طوال العهد الأيوبي، ويوجد في مصر إلى الآن كثير من الشواهد الدالة على المراكز والمؤسسات الحضارية التي شيّدها الأيوبيون هناك، بدءاً من عهد أول سلاطينهم صلاح الدين الأيوبي، إلى عهد آخر سلاطينهم تَوْران شاه؛ الذي غدر به المماليك الترك، وقضوا عليه.
ماذا يعني (خُدَيْوي)؟!
ومنذ بداية القرن السادس عشر الميلادي أصبحت مصر تابعة للدولة العثمانية، لكن مع بدايات القرن التاسع عشر، وبعد غزو نابليون پوناپارت لمصر، تغّيرت موازين القوى الإقليمية، فتمتّعت مصر في عهد محمد علي پاشا، وفي عهد أولاده من بعده، بقسط كبير من الاستقلال عن الدولة العثمانية، وتوافرت فيها حرية الرأي إذا قيست في ذلك الوقت ببقيّة الأقطار الخاضعة للحكم العثماني. لذلك قصدها أصحاب الفكر المتنوّر من الأدباء والعلماء والمفكرين، واستقرّوا فيها، وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي خير مثال على ذلك.
والملاحظ أن العديد من الأسر الكردية، ولاسيما من كردستان – العراق، قصدت مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستقرت فيها، بل إنها حظيت بمكانة مرموقة عند أسرة محمد علي پاشا الحاكمة. ومن تلك الأسر الكردية أسرة قاسم أمين، وأسرة أحمد تيمور، وأسرة أحمد شوقي، وبعض أبناء الأمير الكردي بدرخان بك قائد الثورة الكردية على الدولة العثمانية في الفترة (1842- 1847م)، وهم يُعرفون حالياً في مصر باسم أسرة والي.
ترى ما الذي كان يحمل الكرد على التوجّه إلى مصر رغم بعدها الجغرافي عن كردستان؟ ثمة من الباحثين الكرد من نسب أسرة محمد علي إلى الكرد، وذكر أنها في الأصل من مدينة آمد (ديار بكر) في كردستان – تركيا، وأن والـده وعمه كانا موظفين عنـد العثمانيين في ألبانيا، وكان العثمانيون يسمّون شعب ألبانيا بالأرناؤوط، وولد محمـد علي هناك، فنُسب إلى الأرناؤوط باعتبار المولد والمنشأ، لكن لم يذكر صاحب الرأي مصدر هذه المعلومة؛ لذا لا يمكننا أن نأخذ بها على أنها حقيقة مؤكّدة.
ومع ذلك ثمة أمران مثيران يلفتان الانتباه:
– الأمر الأول هو أن أسرة محمد علي كانت كثيرة الاعتماد على الكرد، وخاصة خلال سعيهم الدؤوب للقضاء على المماليك، فقد كان جد الأسرة التيمورية من أبرز القادة الكرد الذين ساعدوا محمد علي في هذا المجال، وكأنهم كانوا بذلك ينتقمون من المماليك، ويكيلون لهم الصاع صاعين، لأن أجداد المماليك هم الذين قتلوا توران شاه آخر سلاطين البيت الأيوبي في مصر، واغتصبوا السلطة؛ رغم أنهم كانوا مماليك للسلاطين الأيوبيين.
– والأمر الثاني هو لقب (خُدَيْوِي) الذي اشتهر به ملوك مصر من أسرة محمد علي باشا، وهذا لقب مستحدَث غريب، لم نألفه في القاموس السياسي العربي أو التركي أو الفارسي، فمن الألقاب الإدارية التي راجت في العهد العثماني (پاشا، بَگ، قُولْ آغاسي)، أما لقب (خُدَيْوِي) فهو غريب حقاً، ولم يظهر في تاريخ مصر إلا في عهد سلالة محمد علي، وكان محمد علي قد ورث لقب (پاشا) من ربيبته الدولة العثمانية، لكن سلالته استحدثت لقب (خُدَيوي).
ولست أملك الآن معلومات دقيقة حول ظروف نشأة هذا اللقب، لكن قراءة أولية له تجعلنا لا نستبعد الأصل الكردي له، فكلمة (خُدَيْوِي) ليست عربية قطعاً، وصحيح أني لست خبيراً باللغة التركية، لكني لم أجده ضمن الألقاب التي راجت في العهد العثماني، ثم إنه شديد الصلة بكلمة (خُدِي) الكردية، وهي تعني (صاحب، مالك). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أسماء الله تعالى بالكردية عديدة، أشهرها (خُدا، خُدَى)، فهل لقب (خُدَيْوي) مركّب من لفظة (خُدَى) الكردية وياء النسبة العربية، لتعني في النهاية مدلول (الربّاني، المبارك، المقدّس)، ولا سيما إذا أخذنا في الحسبان عراقة الربط بين الألوهية والحاكمية في ديار مصر منذ عهد الفراعنة؟!
ومهما يكن فالأمر بحاجة إلى مزيد من البحث والاستقصاء.
ولنعد إلى قاسم أمين.
فهو أحد مشاهير الكرد في مصر.
فماذا عن نشأته وثقافته؟
نشأة قاسم أمين
أصبحت منطقة غربي آسيا، منذ أوائل القرن السادس عشر، مقسّمة بين الفرس الصفويين شرقاً، والترك العثمانيين غرباً، ومعروف أن بلاد الكرد (كردستان) تقع في قلب منطقة غربي آسيا، فأصبحت من ثَمّ مقسّمة بين الصفويين والعثمانيين، ونتيجة لذلك أصبحت كردستان أرض الانتفاضـات والثورات، وفي العصر الحديث بدأت تلك الثورات منـذ بداية القرن التاسـع عشر، وكانت تهـدف إلى الخلاص من قبضـة الدولتـين الصفوية والعثمـانية، على أن وتيرة الثورات الكردية زادت حـدّة بعد أن ألغت الدولة العثمانية نظام الحكم الذاتي الذي كانت تتمتّع به الإمارات والبگويات الكردية، وفرضت الحكم التركي المباشر.
لكن جميع الثورات الكردية انتهت إلى الفشل، لأسباب منها ما هو ذاتي خاص بالمجتمع الكردي نفسه، ومنها ما هو موضوعي خاص بالتوازنات الإقليمية والدولية، ولا مجال الآن للخوض فيها، ونتيجة لذلك كانت الأسر الكردية المساهمة في الثورات ترحل بعيداً عن مراكز نشوب الثورات، لتنجو من انتقام السلطات العثمانية؛ ومن تلك الأسر الكردية أسرة قاسم أمين.
وقد ولد قاسم أمين سنة (1863 م) في إحدى ضواحي القاهرة، وتدعى (طُرَّة)، وهو سليل أسرة كردية رفيعة الشأن من الأمراء، أصلها من مدينة (سُليمانية) في كردستان- العراق، ولعل أسرته نزحت إلى مصر بعد انهيار الثورات الكردية التي نشبت ضد الدولة العثمانية، بقيادة الأسرة البابانية، في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وهناك التحق والده محمد أمين بگ بالمدرسة الحربية، وتخرّج منها ضابطاً، ثم تدرّج في وظائف الجيش، حتى بلغ رتبة (أمير آلاي).
أما والدته فهي من أسرة مصرية ذات جاه ومنزلة اجتماعية مرموقة، وهي ابنة أحمد بگ خطّاب شقيق إبراهيم باشا خطّاب، وهما من مشاهير الشرق، وقد ولدت عدداً من الأولاد أكبرهم قاسم.
وبعد أن أنهى قاسم دراسته الابتدائية والثانوية التحق بمدرسة الحقوق والإدارة، وحصل على شهادتها سنة (1881 م)، وكان ترتيبه الأول بين الناجحين، ونتيجة لتفوّقه أرسل في بعثة حكومية إلى فرنسا، حيث أكمل دراسة الحقوق في كلية مونبيليه، وعاد إلى مصر بعد أربع سنوات أمضاها في الدرس والتحصيل العلمي.
وكان قاسم أمين ذكيّ الفؤاد، صريح الرأي، عميق التفكير، قليل الكلام، نَهِماً إلى المطالعة، دائم التفكير في مشكلات مصر والمصريين، وكان عزيز النفس، يترفّع عن الدنايا والتفاهات، هذا إلى جانب أنه ورث من أبيه الخصال النبيلة التي اشتهر بها الكرد الأقحاح، ومن أبرزها الشجاعة والعفّة.
في منصب القضاء
أنهى قاسم أمين دراسة الحقوق في فرنسا، ورجع إلى مصر سنة (1885م)، فعمل في النيابة المختلطة، وبعد عامين كان وصديقه سعد زغلول موظّفين في قضايا الحكومة لإتقانهما الفرنسية، ثم ارتقى قاسم في سلك النيابة، وأصبح رئيساً للنيابة في كل من بني سُوَيف وطنطا، وهناك كان يتخفّى خطيب الثورة العُرابية الصحفي الأديب عبد الله النديم متوارياً عن أنظار السلطات، وقد دفعته ثقته بوطنية قاسم أمين إلى أن يكشف له عن نفسه، ولم يخيّب قاسم أمين ظنه، إذ حنا عليه، ووقف إلى جانبه، وأخذ بيده إلى رئيس الوزراء يلتمس العفو عنه، وظل يتولّى أمره إلى أن استعاد النديم حريته سنة (1891م).
ومارس قاسم أمين القضاء بروح إنسانية، وبمرونة عقلية وأدبية، فما كان ينصاع للنصوص القانونية إذا لم يكن مقتنعاً بها، كما أنه كان يميل إلى مصالحة المتخاصمين وإحلال التسامح والحسنى محل التخاصم والشر، وكان نزيهاً في إصدار الأحكام، ولم يعرف عنه، طوال عمله في القضاء والشورى، لا عنف في الحكم، ولا تزلّف إلى صاحب جاه أو سلطان.
نصير المرأة الأول
وكان قاسم أمين مكافحاً متعدّد الاهتمامات، لكن كان جميعها ينصبّ في نقطة واحدة، هي النهوض بالمجتمع المصري، وإن إخلاصه لمصر لا تشوبه أية شائبة، وذلك هو شأن الكرد في جميع البلدان التي نزحوا إليها من كردستان، إنهم لا يجعلون همهم الأول الإفادة من خيراتها، بل يخلصون لها النية، ويساهمون في الارتقاء بها، ويدافعون عنها بأموالهم وأنفسهم عند الشدائد والملمّات.
ولم تكن الوطنية عند قاسم أمين لفظاً يُردّد أو شعاراً يُرفع، أو سُلّماً لارتقاء المناصب، إن الوطنية كانت بالنسبة إليه عملاً دؤوباً، وموقفاً جادّاً، وسلوكاً قويماً، وها هو ذا يقول في هذا الصدد:
” الوطنية الصحيحة لا تتكلّم كثيراً، ولا تعلن عن نفسها “.
وفي سنة (1893م) ظهر كتاب لمفكر فرنسي اسمه الدوق داركور، كان قد زار مصر، وزيّف إثر زيارته كثيراً من الحقائق عن المجتمع المصري، وصوّر عقيدة المسلمين بما ليس فيها، وذهب إلى أن الإسلام هو سبب تخلّف المرأة المصرية. وما أشرفت تلك السنة على نهايتها حتى نشر قاسم أمين ردّه العلمي على الكتاب المذكور، ففنّد مزاعم داركور، وقارن بين العفّة والسترة والحشمة من ناحية، وبين الابتذال والتهتّك والخلاعة من ناحية أخرى.
ولا ترجع شهرة قاسم أمين إلى ردوده على الدوق داركور، وإنما ترجع بالدرجة الأولى إلى اهتمامه الكبير بموضوع حرية المرأة، بل لعل آراء الدوق داركور كانت حافزاً له كي يعيد النظر في واقع المرأة المسلمة حينذاك، وجعلته يؤلف في ذلك كتابين؛ أولهما بعنوان (تحرير المرأة)، وثانيهما بعنوان (المرأة الجديدة)، وكان لصدروهما دويّ شديد في المجتمع المصري، ودار حولهما كثير من الجدل.
وقد أصدر قاسم أمين كتابه (تحرير المرأة) سنة (1898م)، وطالب فيه بإعادة النظر في تربية المرأة، إيماناً منه بأن تربية النساء تربية سليمة وقويمة هي السبيل إلى إقامة المجتمع الصالح، وانصبّ اهتمامه على المرأة المسلمة بوجه عام، وعلى المرأة المصرية بوجه خاص. كما أنه تطرّق في كتابه هذا إلى مسائل هامة، منها الحجاب، وتعددّ الزوجات، والطلاق، وأوضح أن لتعدّد الزوجات والطلاق حدوداً يجب أن يتقيّد بها الرجل. ودعا إلى تحرير المرأة مما تعانيه من مظالم باسم الدين والعادات والأعراف، ورأى من الضروري أن تخرج إلى المجتمع، وتساهم في شؤون الحياة العامة، وفي بناء المجتمع وازدهاره.
ثمن العبقرية
ومعروف أن تاريخ الزعامات الفكرية والإصلاحية لم يكن خالياً مطلقاً من القبول والرفض، ومن نسائم الصداقات وزوابع العداوات، وليس في أحـداث الرسالات الثورية والتطورية ما يشذّ عن هذا السنّة التاريخية المعهود. وقد لقيت آراء قاسم أمين عاصفة من الاحتجاج والنقد والتهكم، ودار حوله الكثير من اللغط الجدل، لكن لم يتزعزع موقف قاسم أمين أمام تلك العاصفة، وظل لمدة سنتين يدرس الكتب والمقالات المؤلفة ضد دعوته، ويرد عليها وهو يقرع الحجة بالحجة.
وليت الأمر اقتصر على اللغط والجدل! فإن ذلك أمر معهود إزاء كل دعوة إصلاحية جديدة عبر التاريخ البشري، وإنما جرّت عليه دعوته كثيراً من الخصومات، وخاصة من قِبل سدنة الإيديولوجيات الرجعية، وممن يعشقون قمع الحريات باسم الدين، فوقفوا ضده، وندّدوا بدعوته، وكان هؤلاء وراء تحريض العامة والغوغاء على الكاتب المصلح، فكان بعضهم يتحرّش به في الشارع، ويُسمعه أقذع الشتائم، في حين كان آخرون يطرقون باب داره، حتى إذا خرج مستفسراً شتموه، وقالوا له: ألست تدعو إلى حرية المرأة؟! فلتسمح لزوجتك بالخروج معنا إذاً.
ولا نستطيع تقدير المكانة التي تمتّع بها قاسم أمين إلا إذا عرفنا صحبه ومؤيّديه، ومن تصدّوا لدعوته، وتفيد أخباره أنه كانت لهذا المفكر المصلح مكانة رفيعة بين الناس، لما تمتّع به من استقامة وأمانة، ولما أوتي من مواهب استثمرها لمصلحة الشعب، ولتوسيع وعيه وإصلاح أموره، فظفر بالتقدير والثقة، مـع شيء من النفور مما دعا إليه في مسألة تحرير المرأة، لكن ذلك النفور لم يؤثّر في مكانته، وقد أهّلته لتلك المكانة مناقب ومآثر في حياته القضائية والفكرية، وحرصه على مشاركته روّاد الإصلاح في مساعيهم.
وإذا عرفنا صحبه وأصدقاءه الذين عاشرهم وقدّرهم، وفي طليعتهم روّاد مصر المشهورين في الدين والفكر والسياسة والأدب، من أمثال الشيخ محمد عبدُه، و السياسي سَعد زَغْلول، والشاعر حافظ إبراهيم، والأديب لطفي السيد، وغيرهم من العلماء والمفكرين والأدباء، وإذا علمنا بعض معارضيه، ومنهم محمد فريد وَجْدي، وطَلْعت حرب، وسواهما من الصحافيين والأدباء والمفكرين، أدركنا المناخ الذي أحاط بقاسم أمين في دعوته.
وكان قاسم أمـين موقناً بأهمية التطور التاريخي في تاريخ الشعوب، وكان واثقاً بأن الزمـان كفيل بتحقيق التغيير الذي كان يتوخّاه في حيـاة المصريين، وفي زوال بعض عـاداتهم البالية، لذلك لم يتردد في الدعوة إلى التربية التي تغيّر النفـوس والعقـول، ولم يكن هـذا أمراً هيّناً ولا مألوفاً حينذاك، فتسلّح بثقافته وعبقريته، وراح يعالج العلل بأناة وهدوء، ويصف الأسباب والعوامل، ويصف الدواء بدقة ولباقة، فلفت إليه الأنظار والأفكار، وأحس الناس بصدق إحساس الكاتب المصلح، وإن لم يدركوا جميع مراميه، ولم يستوعبوا الأفق الحضاري البعيد الذي كان يسعى إليه.
قبسات من أقواله
حلّل قاسم أمـين الفارق بين الأمم الحرة والأمم المستعبَدة، قائلاً:
· ” في الأمة الضعيفة المستعبَدة حرف النفي (لا) قليل الاستعمال “.
ونبّه إلى ضرورة حرص المثقفين، في كل أمة، على الإصلاح، وأهمية تصدّيهم لمرتكزات التخلف، وعدم وقوعهم في أسر الإعجاب الكاذب من قبل الجهلة والغوغاء، ودعاهم إلى ممارسة رسالتهم التاريخية في التجديد، فقال:
· ” الشعراء والكتاب والعلماء عندنا لا يعبّرون عن أفكارهم فيما يكتبون، وإنما عقولهم هي مخازن تحفظ ما يدخل فيها بالقراءة والسماع. كل عملهم محصور في تكرار أفكار الغير التي حفظوها كما يحفظ الأطفال القرآن، فإذا سمعهم العامة أو قرؤوا كلامهم صفّقوا ومدحوا وصاحوا: آه، فلان ما أحلاه! آه، علاّن ليس في العالم مثله “.
وحثّ على ضرورة الربط بين العلم والعمل، وبين النظرية والممارسة، قائلاً:
· ” أقل مراتب العلم ما تعلّمه الإنسان من الكتب والأساتذة، وأعظمها ما تعلمها بتجاربه الشخصية في الأشياء والناس “.
وفضح الجهات التي تقف ضد الإصلاح في المجتمعات، فتمارس الزيغ والتضليل، وتحشد الجماهير والجهلة منهم خاصة، وتجنّدهم لمحاربة أصحاب الفكر المستنير، ولإحباط حركات التجديد، فقال:
· ” إذا رأيت الرأي العام معادياً لكاتب، وأعدّ له خصوماً، يتسابقون إلى نقد أفكاره وهدم مذهبه، وعلى الخصوص إذا رأيتهم ذهبوا في مطاعنهم إلى السب والقذف، فتحقق أنه طعن الباطل طعنة مميتة ونصر عليه الحق “.
وقال منوّهاً بدور التربية في ترسيخ القيم الرفيعة، وفي بناء الشخصية القويمة:
· ” التربية هي التي أنتجت كل الرجـال الذين نسـمعُ عنهم، ونشاهـدهم متحلّين بمزايا الاستقامة، والصدق والكرم، والشـجاعة والشفقة، وحب الوطـن، واحترام الحق، والدفاع عن الحقيقة، والخضوع للواجب، وبذل النفس والمال في خدمة العلم والدين والجامعة الوطنية “.
وأوضح أهمية العلم في تحرير المرأة من الخرافات والأباطيل، قائلاً:
· ” إذا تعلمت المرأة القراءة والكتابة، واطّلعت على أصول الحقائق العلمية، وعرفت مواقع البلاد، وأجالت النظر في تاريخ الأمم، ووقفت على شيء من علم الهيئة وعلوم الطبيعة، وكانت حياة ذلك كله في نفسها عرفانها العقائد والآداب الدينية، استعدّ عقلها لقَبول الآراء السليمة، وطرح الخرافات والأباطيل التي تفتك الآن بعقول النساء “.
وأوضح أهمية تربية المرأة على الفضائل منذ الصغر، فقال:
· ” وعلى من يتوّلى تربية المرأة، أن يبادرها من بداية صباها بتعويدها على حب الفضائل التي تكمل بها النفس الإنسانية في ذاتها، والفضائل التي لها أثر في معاملة الأهل وحفظ نظام القرابة، والفضائل التي يظهر أثرها في نظام الأمة، حتى تكون تلك الفضائل جميعاً مَلَكات راسخة في نفسها، ولا يتمّ له ذلك إلا بالإرشاد والقدوة الصالحة “.
ووقف وقفة تقويمية حازمة إزاء ما تمّ إنجازه في مجال حقوق المرأة:
· ” هل صنعنا شيئاً لتحسين حال المرأة؟ هل قمنا بما فرضه علينا العقل والشرع من تربية نفسها وتهذيب أخلاقها وتثقيف عقلها؟ أيجوز أن نترك نساءنا في حالة لا تمتاز عن حالة الأنعام؟ أيصحّ أن يعيش النصف من أمتنا في ظُلُمات من الجهل بعضها فوق بعض، لا يعرفن فيها شيئاً مما يمّر حولهن، كما في الكتاب صُمٌّ بُكمٌّ عُمْيٌ فهم لا يعقلون؟ أليس بينهن أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا وزوجاتنا؟ وهن زينة حياتنا الدنيا والجزء الذي لا يمكن فصله منا، دمُنا من دمهِن، ولحمنا من لحمهِن؟ أليس الرجال من النساء، والنساء من الرجال وهن نحن ونحن هن؟ أيتمّ كمال الرجل إذا كانت المرأة ناقصة؟ وهل يسعد الرجال إلا بالنساء “؟
وميّز بدقة بين ما يوجبه الشرع في الحجاب، وما هو دخيل وغريب، فقال:
· ” لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصاً تقضي بالحجـاب، على ما هـو معروف الآن عنـد بعض المسلمين، لوجب عليّ اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفاً يخالف تلك النصوص، مهما كانت مضرّة في ظاهر الأمر، لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعـان لها بدون بحث ولا مناقشة. لكننـا لا نجـد نصّاً في الشريعة يوجب الحجـاب على هـذه الطريـقة المعهودة، وإنما هي عـادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم، فاستحسنوها وأخذوا بها، وبالغوا فيها، وألبسوها لباس الدين، كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين، والدين بَراءٌ منها، لذلك لا نرى مانعـاً من البحث فيها، بل نرى من الواجب أن نلمّ بها، ونبين حكم الشريعة في شأنها، وحاجـة النـاس إلى تغييرها “.
ودعا إلى الصبر والثبات في ميدان تحرير المرأة، قائلاً:
· ” أول جيل تظهر فيه حرية المرأة تكثر الشكوى منه، ويظن الناس أن بلاءً عظيماً قد حلّ بهم، لأن المرأة تكون في دور التمرين على الحرية، ثم مع مرور الزمن تتعوّد المرأة على استعمال حريتها، وتشعر بواجبها شيئاً فشيئاً، وترتقي ملكاتها العقلية والأدبية، وكلما ظهر عيب في أخلاقها يداوى بالتربية حتى تصير إنساناً شاعراً بنفسه “.
_ _ _ _
وخلاصة ما يخرج به المرء من دعوة قاسم أمين أنها كانت تباشير ثورة اجتماعية حقيقية كبرى، قبل حوالي قرن من الزمان، وكانت شعاعاً جريئاً يمزّق ظلمات التخلّف في الشرق الإسلامي، ويفضح قبح الفكر الظلامي الذي كان يمارس القهر باسم الدين والأخلاق وغيرها من الشعارات البراقة.
ثم إن دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة لم تكن طفرة أو نزوة أو طيشاً، وإنما كانت دعوة نادى بها مفكر جمع بين الثقافة الشرقية الأصيلة والثقافة الأوربية الجديدة، وكانت مؤسسة على ركيزتين اثنتين؛ هما الأخلاق والوعي. بلى إن قاسم أمين كان مع تحرير المرأة من أغلال الكبت والقمع والقهر، لكنه كان، في الوقت نفسه، حريصاً على تجنيبها مزالق الانفلات والانخلاع، وكأنما كان أحمد شوقي يُكمل رسالة قاسم أمين حينما قال بيته الشهير:
الأمُ مدرسةٌ، إذا أَعْددتَها أَعْددتَ شعباً طيّبَ الأعراقِ
المراجع
– أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1990م.
– أدهم آل جندي: أعلام الأدب والفن، دمشق، 1958، الجزء الثاني.
– جرنوت فلهلم: الحوريون تاريخهم وحضارتهم، ترجمة فاروق إسماعيل، دار جدل، حلب، الطبعة الأولى، 2000م.
– خير الدين زركلي: معجم الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الجزء الخامس.
– سامي سعيد الأسعد، ورضا جواد الهاشمي: تاريخ الشرق الأدنى القديم، إيران والأناضول، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق.
– عمر رضا كحّالة: معجم المؤلفين، مكتبة المثنّى، بيروت، الجزء الثامن.
– وداد سكاكيني: قاسم أمين، بلا دار نشر، بلا تاريخ نشر.
وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة.
د. أحمد الخليل في 1-1-2006
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=35167