تضامناً مع سميح شقير
عمر قدور
اضطر قبل يومين الفنان السوري المعارض سميح شقير لتوضيح موقفه مرة ثانية ردّاً على حملة طاولته على وسائل التواصل الاجتماعي منذ أسبوع، على خلفية دعوته لحوار بين منتفضي السويداء والإدارة الذاتية الكردية. في منشوره الذي تسبب بالتهجّم عليه، استهجن شقير ما رآه حملة من بعض الأصوات تهدف إلى قطع الطريق على التقارب بين السويداء والإدارة الذاتية، وكتب على صفحته في فيسبوك: (إن وجود ملاحظات عديدة على ممارسات خاطئة عند قسد، بل وفي كل مكان تحكمه قوى الأمر الواقع في باقي مناطق سوريا، أمر اكيد. فالواقع أسوأ مما نتمناه، ولكن هذا عليه أن لا يمنع الحوار الهادف إلى تجاوز تلك الأخطاء، والتوافق على مشتركات وطنية تكون اساساً لسوريا الجديدة).
لمزيد من التوضيح، إثر نيله الكثير من التجريح و”التخوين”، كتب شقير بعد يومين مخاطباً السويداء أيضاً: (لا تُعدِموا السياسة.. فتشوا عن مشتركات يمكن البناء عليها في هذا الظرف الصعب مع سوريين مثلكم. وفي النهاية لن يجبركم أحد على شيء، وكل الثقة بما ستقرره ساحة الكرامة). وهو بيان رآه ضرورياً للقول أنه ينطلق في دعوته السابقة من دوافع سياسية، والمرونة هي من طبيعة السياسة بخلاف الطهرانية الأخلاقية التي يرفعها أشخاص بهدف منع توجهات سياسية غير مرغوبة من قبلهم.
ثمة خلط حدث في الأيام الأخيرة بين دعوة شقير ومحاولة حزب درزي الإيحاء بوجود قوي له في السويداء، وهو حزب يدعو إلى اللامركزية على نمط الإدارة الذاتية الكردية “مسد”. في ما يخص هذا الحزب، هناك أقاويل عن تمويله من مسد، وعن شرائه منتسبين له، أي أن ثقله الأساسي هو المال السياسي. والأقاويل ذاتها استهدفت وتستهدف ناشطين عرباً تحالفوا مع مسد، ويُنظر إلى التحالف بوصفه رضوخاً تاماً منهم لبرنامجها غير بعيد عن المال السياسي إياه.
لكن حضور المال السياسي، إذا صحّت تلك الأقاويل، يُفترض ألا يحجب ضرورة السياسة، وألا تبدو دعوة شقير كأنها تجاوزت المحرَّمات الخاصة بالمسألة الكردية. ثم من المفترض أن يكون الحوار من موقع التكافؤ مختلفاً عن آليات التبعية، والحوار مع القوى الكردية السورية هو بحكم وجودها وما تمثّل فلا منّة فيه، وليس لرفضه القاطع من معنى سوى نية الرافضين تكرار ما فعله البعث والأسد من إنكار الوجود السياسي الكردي في سوريا.
لقد كتبنا هنا لمرات ومرات عن قسد ومسد، وعن ما يراه سوريون كثر من أخطاء أو خطايا لهما. كذلك هو الحال في ما يخص أماكن تسيطر عليها قوى أمر واقع أخرى ليست أحسن حالاً من قسد ومسد، بل صار تسلّطها على الخاضعين لسيطرتها مدعاة لليأس. وإذا حكّمنا المبادئ والقوانين الدولية فالمطلب المتوافق معها هو تقديم تلك السلطات جميعاً إلى العدالة، وإذا أضفنا محاكمة كل المتورّطين في الدم السوري من جهة قوات ومخابرات الأسد فستعمّ المشانق سوريا بأكملها. هذا لا يعني التخلّي عن مطلب العدالة، لكن ليس على قاعدة: إما كل شيء أو لا شيء.
التفاوض مع مسد “أو سواها” لا يُفترض أن يكون أيضاً على القاعدة ذاتها، أي على قاعدة القبول بكل ما تطرحه، أو رفضه بالمطلق. يُذكر أن ممثّلي هيئات المعارضة دأبوا في السنوات الأخيرة على تكرار القول أن الحل في سوريا سياسي، ورغم تسويف وفد الأسد في مفاوضات اللجنة الدستورية لم تنسحب هيئات المعارضة الممثلة في الوفد المقابل من المفاوضات. أي أن المعارضة، ولو تحت الضغط، قبلت بمفاوضات بلا أفق حقيقي مع مَن قتل وتسبب بمقتل مئات ألوف السوريين، ومن المستغرب أن يكون ذلك مقبولاً بينما يكون الحوار مع قسد أو مسد محرَّماً.
بالطبع تتحمل الأطراف الممتنعة عن التفاوض المسؤولية المشتركة، فلا يجوز تحميلها لجهة دون أخرى. لكن التركيز هنا على مسؤولية الطرف العربي قائم على أن نسبة كبيرة منه ترفض طروحات مسد بلا تمحيص فيها، وهناك قناعة مفادها أن الأكراد يسعون إلى الانفصال، أيضاً من دون تمحيص جيد في إمكانية فعلهم ذلك ضمن ميزان القوى الإقليمي والدولي. ورفضُ ما تطرحه منظومة حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي يأتي كأنه رفض لنقاش الموضوع الكردي ككل، فلا يقدّم الرافضون أفكاراً لحل المسألة الكردية في سوريا، حيث لا يفيد إنكارها طالما أن أصحابها موجودون بفعالية سياسية داخلية وخارجية توازي أو تفوق نظيرتها العربية.
حتى في ما يخص الحاضر، ليس هناك توجه سياسي ناضج لدى المعارضة العربية للتعاطي مع الإدارة الذاتية؛ المعلَن يكاد يكون تكراراً حرفياً لما تراه أنقرة، وإذا كانت مصالح تركيا “مفهومة” فتبنّي أهدافها من قبل هيئات المعارضة يجعل الأخيرة كمن يطلق الرصاص على رأسه. تفضّل أنقرة مثلاً استيلاء الأسد على مناطق تسيطر عليها قسد، وتبنّي ذلك ضمناً يعني أن المعارضين السوريين يرون قسد خطراً أشدّ من الأسد. أيضاً، تطالب أنقرة طوال الوقت بوقف الدعم الأمريكي لقسد، بل بالانسحاب الأمريكي، وتبنّي هذا المطلب من قبل المعارضة ترجمتُه الواقعية الوحيدة أن تتخلى واشنطن عن الشأن السوري نهائياً، وتترك الساحة لينفرد بها حلفاء الأسد في طهران وموسكو.
يبقى من المفهوم أن عنق المعارضة بهيئاتها وفصائلها العسكرية هو في الأنشوطة التركية، وما لا تتجرأ عليه خشية إغضاب أنقرة يجب ألا يكون بمثابة مزاج عام معارض يجرّم التعاطي مع الإدارة الذاتية. بل ربما، بسبب العامل التركي الفاعل على الطرفين في الشمال، تستطيع السويداء التوسط بينهما من خلال حوار يشرع فيه ممثلون عن الانتفاضة غير متهمين بالارتزاق من مسد.
لا تظهر في الأفق القريب بوادر تغيرات كبيرة مؤثرة في الوضع السوري، والانقسام الحالي قد يستمر لسنوات تتعزز خلالها أنماط متباينة جداً بين مناطق سيطرة سلطات الأمر الواقع الموجودة. مع هذا الانقسام الذي قد يخلّف آثاراً مديدة، يفترض المنطق أن يكون “الغيورون” على وحدة سوريا أشد حرصاً من غيرهم على الحوار والتفاعل بين السوريين، فلا توضع غيرتهم سداً يمنع الحوار.
في منشوره الذي أثار النقمة، كان سميح شقير قد استبق الدعوة إلى الحوار بضرورة وجود امتداد سوري يحمي انتفاضة السويداء من التقوقع في إدارة ذاتية منعزلة. وحتى محاولات مسد استقطاب معارضين عرب تعكس، في جانب منها على الأقل، تلك الحاجة إلى عمق سوري. هذه الحاجة هنا وهناك تستحق حواراً جاداً، لا ينطلق أيٌّ من أطرافه من القناعة بأنه يحتكر العمق السوري.
المصدر: المدن