الأربعاء 27 آب 2025

فسيفساء بشرية من روح قصب الجقجق “في مئوية قامشلو”

لورنس الشعير
من سوق اليهود، إلى شوارع الفرنسيين المتقاطعة بشكل عمودي، وفسيفساء الشعوب المتعانقة من الأرمن والسريان والكرد والعرب، ما زالت قامشلو تكتب في صفحات التاريخ كلمات إثبات الوجود والتفرد، بكل محبة ونقاء.
على ضفاف نهر الجقجق، وفي أرضٍ لم تكن يومًا سوى مستنقع قصبٍ بريّ، وُلدت مدينة قامشلو قبل نحو مائة عام. أسسها الفرنسيون عام 1925 لتكون ملاذًا للناجين من المذابح والاضطرابات، فانطلقت شرارة الحياة في شوارعها المستقيمة والمنظّمة كصفحة بيضاء جديدة.
يهود قامشلو… قلب السوق القديم
في ذاكرة المدينة، لا يُذكر السوق القديم إلا ويُذكر معه يهود قامشلو؛ أول من أنشأ سوقًا منظّمًا في قلب المدينة. هاجر كثير منهم من القرى المجاورة ليستقروا في هذه البقعة الوليدة، وجعلوا السوق مركزًا ينبض بالحركة والتجارة: حوانيت مملوءة بالتوابل والأقمشة والمجوهرات، وأصوات مساومات لم تكن تنتهي. ورغم تغيّر الأيام ورحيل أغلبهم لاحقًا، بقي «سوق اليهود» شاهدًا حيًا على صفحة مهمة من تاريخ قامشلو.
باريس الصغرى… شوارع مستقيمة وذاكرة منظمة
خطّط الفرنسيون قامشلو وفق أسس هندسية جعلتها تُشبه لوحةً معمارية؛ شوارع مستقيمة ومتوازية تلتقي بزوايا قائمة، أحياء منظمة بدقة لدرجة دفعت الناس لتسميتها «باريس الصغرى». ومع بداية السبعينات، تمددت المدينة شرقًا نحو العنترية، وغربًا نحو الهلالية، وجنوبًا حتى المطار. وظهرت أبنية الجمعيات السكنية التي بدّلت ملامح العمران، فانتقل البناء من طيني منخفض إلى أبنية إسمنتية شاهقة.
اسم المدينة… بين بيث زالين وقامشلي وقامشلو
سُميت المدينة بالسريانية «بيث زالين» أي «مكان القصب». وبالكردية «قامشلو» أيضاً «مكان القصب» أما اسمها الحالي فتعددت رواياته:
▪ من السريانية ويُقال إنها تعني «قام واستقر»، إشارةً لاستقرار النازحين فيها.
▪ أو من مقاطع سريانية أخرى تعني «قام اسم الله».
▪ وهناك رأي بأنها من الكلمة الكردية والتركية «قامش» بمعنى القصب، استمرارًا للاسم القديم.
نصيبين وقامشلو… جسر الروح والتاريخ
لم تكن مدينة نسيبين /نصيبين/ القريبة مجرد جارة؛ بل كانت أختًا روحية وتاريخية لقامشلو. منها جاء السريان، الأرمن، والمردلية، والمحلمية، حاملين لغاتهم ولهجاتهم وحكاياتهم وأصوات أجراس الكنائس. وظلت حركة الناس بين المدينتين حية؛ كأن نهر الجقجق نفسه يصل بين قلبين نابضين.
فسيفساء البشر… سرّ جمال المدينة
في قامشلو، لا يمكن فصل الشارع عن أهله. الأرمن والسريان بنوا الكنائس وزينوا البيوت بالحرف اليدوية. الكرد جاؤوا من شمال كردستان والقرى المجاورة لقامشلو حاملين موسيقاهم ولهجتهم وثقافتهم بكل غناها. العرب جاؤوا من البادية والريف وأقاموا حاراتهم وأسواقهم. والمردلية والمحلمية القادمون من ماردين وريف نصيبين أضافوا نكهةً خاصة ولهجاتٍ ميّزتهم.
ووسط هذه الفسيفساء، كان اليهود جزءًا أصيلًا: تجارًا وجيرانًا وأصحاب حوانيت في السوق الذي ظل قلب المدينة.
السوق… ذاكرة وروح
السوق القديم لم يكن مجرد مكان للبيع والشراء؛ بل ذاكرة جماعية. هنا تُروى قصص الصاغة، تجّار الأقمشة، وباعة البهارات. حتى بعد أن هُدم بعضها وأعيد بناؤها، بقيت رائحة التاريخ في الأزقة الضيقة، وحكايات التجار الذين جاؤوا من نصيبين وماردين وحلب والموصل وبغداد.
المدينة التي لا تنكسر
رغم النزاعات والنزوح والحروب التي عاشتها سوريا، ظلت قامشلو مدينةً مفتوحة القلب. في سنوات الثورة، لجأ إليها عشرات آلاف النازحين، وظهرت وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة ثم قوات سوريا الديمقراطية لتمنح المدينة الأمن والأمان. ومع ذلك، بقيت قامشلو تكبر؛ عمرانًا وبشرًا وحلمًا.
مدينة القصب التي صارت حكاية
بعد مرور قرن على ولادتها من قصب الجقجق، صارت قامشلو مدينةً لا تُختصر بخريطة ولا شارع. هي اليوم حكاية من ألف وجه: مسيحيون استقروا فيها بعد الترحال، يهود أسسوا أسواقها، كرداً بنوا أحياءها، عربٌ غرسوا أشجارها، ومردلية ومحلمية حفظوا لهجاتها.
مدينةٌ تقول لنا: يمكن لجراح التاريخ أن تُزهر حياة، وللمهجّرين أن يبنوا وطنًا من حجرٍ وقصصٍ وأغانٍ بلغاتٍ شتى.

صحيفة روناهي