إعادة تشكيل الشرق الأوسط هل هو مخطط خارجي أم نتيجة بنية داخلية هشة؟ 1/2
د. محمود عباس
لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وإسرائيل تغيير وجه الشرق الأوسط، وإعادة تشكيل خريطته الجيوسياسية، وتشذيب بنيته الثقافية دون وجود بيئة داخلية مهيأة لهذا التحول. فهشاشة الأنظمة، وفسادها، واستبدادها، إلى جانب الدجل الديني الذي تروج له، والثقافة المدمرة التي زرعتها بين شعوبها، جعلت المنطقة برمتها ساحة مفتوحة للتحولات الجذرية والتدخلات الخارجية، وبهذا، باتت القوى الكبرى قادرة على إعادة رسم مصير هذه الدول وفق مصالحها، وهو ما تتقبله، بل وتسعى إليه، شريحة واسعة من شعوب المنطقة التي ترى في التغيير الخارجي فرصة للخلاص من استبداد الداخل.
ففي ظل أنظمة تقايض بقاؤها بهضم حقوق شعوب بأكملها، كالشعب الكوردي وغيره من المكونات المضطهدة، وتحكم قبضتها على السلطة عبر نشر الإرهاب الإسلامي وتغذيته، لم تعد القوى الخارجية، بحاجة إلى شنّ حروب طويلة أو فرض سياسات معقدة، يكفيها أن تحرّك خيوط اللعبة، فتنهار الدول من الداخل، واحدة تلو الأخرى، بينما تواصل الأنظمة المتواطئة نهجها في دعم التطرف الديني، وتحويله إلى أداة لقمع شعوبها، والتغطية على فسادها تحت رايات مزيفة باسم الدين والسيادة.
وسط هذا المشهد، بات المواطن المسلوب الإرادة يتأرجح بين حاكم مستبد يحكمه بالحديد والنار، ورجل دين متطرف يُلبسه أغلال العبودية الفكرية، وكلاهما يسوقانه إلى الهاوية. أما الشعوب المقهورة، كالكورد وغيرهم، ليس أمامهم سوى المقاومة في وجه طوفان القهر، والحقد، والعنصرية الممنهجة، التي تُغذّى تحت ذرائع زائفة، بينما يُعاد رسم مستقبل المنطقة في دهاليز العواصم الكبرى، بعيدًا عن إرادة شعوبها.
فالأنظمة التي تزعم معارضة مشاريع كبرى مثل خطة ترامب لتهجير سكان غزة، لا تمتلك أي أدوات حقيقية لمواجهتها سوى التجييش الإعلامي والشعارات الرنانة التي لا تغير من واقع الأمور شيئًا، فكيف يمكن لأنظمة، قامت بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الاستبداد وإقصاء الشعوب، أن تقف أمام مخططات دولية وهي غير قادرة أصلًا على تأمين استقرارها الداخلي؟
ولا يُستبعد أن يكون ما طرحه ترامب حول تهجير سكان غزة مجرد خطوة أولى في خطة أوسع بكثير من المعلن، وقد تتغير ملامحها مع الوقت، بعدما يكون قد فتح الباب أمام استراتيجية شاملة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. هذه الخطة، إن وُضعت موضع التنفيذ، لن تقتصر على الجوانب الجيوسياسية فقط، بل ستمتد إلى مجالات الاقتصاد والثقافة، مع التركيز على تجفيف منابع الإرهاب والتطرف والتكفير، وإعادة توجيه مسارات الإسلام السياسي.
وبناءً على ذلك، فإن تداعيات ما حدث في غزة، وجنوب لبنان، وسوريا قد تكون مجرد بداية لتحولات استراتيجية أعمق، تتجاوز ما شهده الشرق الأوسط في بدايات القرن العشرين، حين أعادت القوى الدولية رسم خريطة المنطقة عبر اتفاقية سايكس-بيكو وانهيار الإمبراطورية العثمانية.
فالمخطط المحتمل قد لا يقتصر على تغيير الحدود أو إسقاط أنظمة، بل قد يمتد ليشمل تفكيك البُنى الأيديولوجية التي حكمت المنطقة لعقود، مما يفتح المجال أمام نظام جديد يختلف جوهريًا عن المعادلات السابقة.
فمنذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقاسم أراضيها عبر اتفاقية سايكس-بيكو، إلى التدخل الأمريكي في العراق وسوريا، لم يكن العامل الخارجي وحده كافيًا، بل كان هناك دائمًا تفكك داخلي، وصراعات قومية وطائفية، واستبداد جعل من التدخل الأجنبي مخرجًا مرحبًا به أحيانًا من قبل شرائح واسعة من السكان، وبالتالي فما الذي يمنع تكرار السيناريو ذاته اليوم؟ خاصة والمنطقة تعيش نفس الظروف، وبأسوأ أشكالها، حيث تتحكم أنظمة دكتاتورية في مصائر شعوبها، مع ظهور أنظمة إسلامية متطرفة إرهابية، تغذي التناقضات العرقية والطائفية، تجعل من الاستقرار حلقة مفرغة لا يمكن الوصول إليها. في ظل هذه المعادلة، تصبح المشاريع الخارجية مجرد انعكاس لحالة الانهيار الداخلي، وليس مجرد مخطط خارجي يُفرض قسرًا.
عندما طرح دونالد ترامب خطته لتهجير الفلسطينيين من غزة، لم يكن يبتكر شيئًا جديدًا بقدر ما كان يستغل واقعًا مهترئًا يسمح بمثل هذه الطروحات، بل وبناها على دراية تامة بالبيئة السياسية التي تهيمن عليها أنظمة مهترئة جعلت مثل هذه الأفكار تبدو وكأنها قابلة للتنفيذ، تمامًا كما كانت فكرة تقسيم العراق أو تقسيم سوريا مطروحة يومًا ما، ليس لقوة الطرح الخارجي، بل لأن الظروف الداخلية تجعلها ممكنة.
هذه المنطقة، التي تحولت إلى ساحة صراعات قومية ودينية ممتدة لعقود، لم تعد بحاجة إلى الإمبراطورية الأمريكية وأوروبا لتمزيقها، فقد قامت أنظمتها بهذه المهمة بامتياز، من خلال قمع القوميات غير العربية، كالكورد والأمازيغ، واضطهاد الأقليات الدينية كالإيزيديين والمسيحيين والآشوريين، وانتهاج سياسات التمييز الطائفي ضد الأقليات مثل العلويين والدروز وغيرهم. ما يحدث اليوم هو نتيجة طبيعية لسياسات هذه الأنظمة التي لم تعمل يومًا على بناء مجتمعات مستقرة، بل كانت تحكم عبر تأجيج الصراعات الداخلية، حتى باتت هذه الصراعات تهدد وجودها هي نفسها.
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
12/2/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=62758