توجد في منطقة “جبل الكرد” دلائل لمعتقدات دينية قديمة، يعود بعضها إلى فترة ما قبل الميلاد. وهي من بين المعتقدات المعاصرة للديانة الإيزيدية، فيوجد على قوس مذبح كنيسة قديمة في “قرية كيمار، التي يعود بناؤها إلى عام 573 م نقش لطاووسين متقابلين بينهما صليب متساوي الأذرع ضمن دائرتين.

وبحسب مقالة ل د. محمد عبدو علي منشورة في صحيفة روناهي هذه الصورة قد لا تلفت انتباه الناظر إليها كثيرا، فرسم الصلبان موجودة بكثرة حيثما توجد المباني الأثرية الدينية المسيحية؛ إلا أنه بوجود رسم طائر الطاووس يصبح الأمر ذا دلالات دينية عميقة.

فإذا كانت الكنيسة والصليب من خصوصيات الديانة المسيحية، فلماذا صورة الطاووس على مذبح الكنيسة المسيحية، خاصة وأن طائر الطاووس يرمز إلى رئيس الملائكة “طاووس ملك /دياوس/ الذي يرأس مجمع الملائكة الستة المعروفين في المعتقدات الإيزيدية الحالية. وهذا المجمع موجود في الديانة الميثرائية الآرية القديمة أيضا، وأكبر آلهته إله الشمس الميتاني؛ الهوري المعروف بـ ميثرا، ولأهمية دياوس – ميثرا، ضمه زردشت إلى منظومته الإلهية كمساعد للإله الأزلي أهورمزدا في صراعه مع إله الشر أهريمان، ونصبه رئيسا لهيئة الحساب في يوم القيامة، ورمز إليه بالنار المقدسة والشمس.

بقيت عبادة ميثرا في الشرق الأدنى وأوروبا حتى القرن الثاني للميلاد، إلى أن قضت عليها المسيحية بعد صراع مرير. إن وجود نقش الطاووس على مذبح الكنيسة، يشير إلى أن الإله ميثرا كان محتفظاً بمكانته المقدسة لدى المسيحيين في منطقة جبل الكرد، وليلون إلى ما بعد قرون من انتشار الديانة المسيحية. وصورة الطاووسين “وهما يحتضنان صليباً متساوي الأذرع ضمن دائرة”، ترمز حسب المعتقدات الميثرائية، إلى سيطرة ميثرا على الأرض المدورة بجهاتها الأربعة.

وبغية معرفة ما إذا كانت تلك الرموز تمثل شيئاً في المعتقدات الإيزيدية الحالية. سألنا أحد شيوخ الإيزيدية السابقين “شيخ حسين” شيخ الإيزيديين في منطقة عفرين “قبل وفاته”، فأجاب: إن الدائرة في معتقداتنا تمثل الأرض، أما الصليب المتساوي الأذرع فيشير إلى جهاتها الأربعة، ويختص بكل جهة منها ملاك: طاووس ملك للشمال، شيخسن للجنوب، ناسردين للغرب، سجادين للشرق. إضافة إلى أن الدائرة في المعتقد الإيزيدي، تشير إلى رباط العقيدة الذي يصون المؤمن من الانحراف عن الدين، وهو اعتقاد قائم إلى أيامنا هذه، وتعبر عنه الياقة الدائرية للقميص الداخلي، الذي يلتزم به الإيزيدي، لتذكره لدى كل ارتداء على مسؤوليته تجاه دينه.

وهكذا، فإن وجود صورة طاووسين يحيطان بصليب متساوي الأذرع ضمن دائرة على مذبح كنيسة مسيحية، هي حالة نادرة ويصعب إيجاد تفسير لها، ما لم نتذكر ونبين أن: ميثرا هو من آلهة الميتاهوريين الذين كان لهم وجود كثيف في مناطق طوروس، والأمانوس وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط، ولا تزال بعض تلك الطقوس والمعتقدات موجود ة لدى الإيزيديين وتمارس حتى أيامنا هذه، كالطواف بالسنجق “هيكل طائر الطاووس- رمز ميثرا”، كتقليد إيزيدي سنوي هام، والدائرة التي تحيط بالصليب الميثرائي “الهوري” المتساوي الأذرع، وهي نفسها في المعتقدات الإيزيدية الحالية.
ومن مؤشرات وجود الإيزيدية في جبل الكرد أيضا، من حيث إنها امتداد “بشكل ما” للعقيدة الزردشتية، ما جاء في نص علق على باب زيارة Qere curnê يقول: إن هذه الزيارة مقام لأحد الشهداء المسلمين واسمه “هوكر”؛ والذي يعني خليل في الكردية، وقد قُتل في القرن الثاني عشر على يد الصليبيين، وهو ابن أحد الكهنة الزردشتيين في قرية عيندارا.
وبذلك يكون للزردشتيين وجود في المنطقة في الفترة الزمنية التي سبقت ظهور “شيخ أدي”. يؤكد ذلك ما جاء في (أبحاث الندوة العالمية حول تاريخ سوريا… ص 179)، بأنه عثر في السوية الخامسة الأخمينية من تل “عين دارا” على تميمة من الحجر البلوري، رسم عليها إله زردشت أهور مزدا، الذي يمثل كائنا بشريا ممتدا مع قرص الشمس المجنح.
نضيف إلى ما سبق من الشواهد على الوجود الإيزيدي في جبل الكرد، وجود أطلال لقرية في ناحية راجو قرب قرية حسن Gundî Hesen Gundê Qewala قرية “القوالين” أو خربة قوالي، حسب التسمية الإدارية الرسمية، وقوال لقب رجل دين إيزيدي. وهناك أيضا بين بلدة شيخ الحديد وقرية مروانية هضبة تسمى Qeracî Şengalê “قراجي شنكالي” على اسم جبل شنكال أحد المراكز السكانية والدينية الإيزيدية الرئيسية في باشور كردستان.

وعلى ضوء ما سبق ذكره، لا نرى بداً من إقرار حقيقة وجود معتقدات إيزيدية عديدة في جبل الكرد، تعود إلى أزمنة موغلة في القدم، ولايزال السكان يعتقدون ببعضها، أو يحتفظون بملامح وطقوس منها، حتى وإن لم يدركوا معانيها ودلائلها الأساسية، أو تاريخها.

شارك هذه المقالة على المنصات التالية