إبراهيم جبر
الأصول والتوزيع الجغرافي
يُعتبر الأكراد من أقدم الشعوب الهندو- أوروبية في منطقة الشرق الأوسط، وتعود أصولهم العرقية واللغوية إلى الشعوب الآرية التي استوطنت المناطق الجبلية الممتدّة من غرب إيران إلى شرق الأناضول.
تُشير المصادر التاريخية إلى استيطان الأكراد مناطق جبال زاغروس وطوروس منذ العصور القديمة، إذ كان لهم حضور فاعل في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي. وقد تجلّى دورهم البارز في عهد الدولة الأيوبية التي أسّسها القائد الكردي الشهير صلاح الدين الأيوبي، والتي امتدّت من الشام إلى مصر واليمن وأجزاء من العراق. وخلال تلك الفترات، احتفظ الأكراد بهُويّتهم القومية من خلال تنظيماتهم القبلية، ولا سيما في المناطق الواقعة بين شمال العراق وشرق الأناضول وشمال شرق سورية.
في الحقبة العثمانية (1516– 1918)، استقرّ الأكراد في قرى مثل عامودا وديريك ورميلان، لكن النظام العثماني تجاهل هُويّتهم القومية، ما دفعهم إلى الحفاظ على لغتهم وتنظيماتهم داخل مجتمعات مغلقة. لاحقاً، خلال فترة الانتداب الفرنسي، تصاعدت موجات هجرة الأكراد إلى سورية نتيجة قمع الثورات القومية الكردية في تركيا، خاصة بعد ثورة الشيخ سعيد بيران (1925) وأحداث ديرسم (1937–1938). استغل الفرنسيون هذا التوافد لتحقيق توازن سكاني يخدم أهدافهم السياسية.
الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 والمرسوم التشريعي 93
شكّل عام 1962 نقطة تحوّل حاسمة في العلاقة القانونية بين الدولة السورية والأكراد، وذلك بعد صدور المرسوم التشريعي رقم 93 الذي نصّ على إجراء إحصاء سكاني استثنائي في محافظة الحسكة. بموجب هذا المرسوم، أُجري إحصاء في محافظة الحسكة بهدف التمييز بين “المواطنين السوريين” و”المتسلّلين”، في إشارة إلى اللاجئين الأكراد القادمين من تركيا. ونُفّذ هذا الإحصاء في ظروف تفتقر إلى العدالة والشفافية، حيث طُلب من السكان تقديم وثائق رسمية تثبت إقامتهم في البلاد منذ عام 1945، وهي مستندات نادراً ما كانت متوفّرة لدى الفلاحين في المناطق الريفية.
كانت النتائج كارثية. إذ جُرّد أكثر من 120 ألف كردي من جنسيّتهم السورية، وقُسّموا إلى “أجانب الحسكة” الذين مُنحوا بطاقات إقامة من دون أيّ من حقوق المواطنة، و”مكتومي القيد” الذين لم يُعترف بوجودهم أصلاً، فحُرموا من التعليم، والتملّك، والعمل، وحتى من تسجيل الزواج أو الوفاة. هذا الإجراء خلق جيلاً من عديمي الجنسية، وأرسى حالة من التهميش المؤسّسي الذي ظلّ مستمراً لعقود.
أيديولوجيا حزب البعث وتجاهل التعددية القومية
عندما تسلّم حزب البعث السلطة في عام 1963، ساد خطاب قومي عربي جعل من العروبة الهوية الوحيدة المقبولة في الفضاء العام السوري. لم تعترف الدولة بالتعدّدية القومية، بل صَنّفت كلّ تعبير عن الهُويّة الكردية تهديداً مُحتملاً للوحدة الوطنية. تمّ بذلك حظر اللغة الكردية في المؤسّسات العامة، ومُنعت الأسماء الكردية للأطفال عند تسجيلهم، كما حُظر تداول المطبوعات الثقافية باللغة الكردية، وتعرّض النشطاء الكرد للملاحقة والاعتقال. على الرغم من الشعارات البعثية التي تروّج الحريةَ والاشتراكية والوحدة، ظلّ الأكراد خارج دوائر التأثير والتمثيل السياسي، وتعرّضوا لسياسات إقصائية منهجية.
ضمن هذه السياسات، برز مشروع “الحزام العربي” الذي أُطلق في عام 1973، بوصفه واحداً من أخطر المحاولات الرامية إلى تغيير البنية السكانية في شمال شرق سورية. استهدف المشروع إنشاء شريط ديمغرافي عربي على طول الحدود مع تركيا، حيث صودرت أراضٍ زراعية يملكها أكراد بحجّة أنها أملاك دولة، وجرى توطين عشائر عربية قادمة من محافظة الرقة في قرى نموذجية أُنشئت خصيصاً لهذا الغرض. تزامن ذلك مع تهجير السكان الأكراد من مناطقهم الأصلية، وتعريب أسماء المدن والبلدات الكردية، وفرض قيود شديدة على حقوق التملّك والبناء والحصول على الخدمات الأساسية.
لم تقتصر سياسة التهميش التي اتبعتها الدولة السورية بحقّ الأكراد على الجانب القانوني فحسب، بل امتدّت لتشمل مظاهر الحياة الثقافية واللغوية. ففي السياق التعليمي، لم يُسمح بتدريس اللغة الكردية، لا في المناهج الرسمية ولا ضمن إطار أنشطة ثقافية خاصة، حيث اعتُبر استخدامها في المؤسّسات التعليمية مخالفة قانونية. هذا الحظر لم يقتصر على التعليم، بل انسحب أيضاً على النشر والطباعة، إذ مُنعت المطبوعات الكردية من التداول، حتى وإن كانت ذات طابع أدبي أو تراثي، وصودرت العديد من الكتب تحت ذرائع تهديد الوحدة الوطنية أو التحريض على الانفصال.
ومن المظاهر الرمزية التي عبّرت عن التقييد الثقافي أيضاً، تجريم الاحتفال بالمناسبات القومية الكردية مثل عيد “نوروز”، إذ كانت السلطات تنظر إلى هذه الفعاليات بوصفها تحرّكات سياسية، وغالباً ما واجهت المشاركين فيها بقمع أمني واعتقالات، بذريعة التحريض الطائفي أو الإخلال بالأمن العام. وحتى على صعيد الأسماء الشخصية، فُرضت قيود على اختيار الأسماء الكردية عند تسجيل المواليد في دوائر الأحوال المدنية، ما دفع العديد من العائلات إلى اللجوء إلى أسماء عربية تجنّباً للرفض أو الملاحقة.
التحوّل الجزئي بعد عام 2011
مع اندلاع الثورة الشعبية في سورية عام 2011، وجدت السلطات نفسها مضطرة إلى تقديم بعض التنازلات الرمزية في محاولة لاحتواء الاحتقان الشعبي، خصوصاً في المناطق ذات الغالبية الكردية. في هذا السياق، صدر المرسوم التشريعي رقم 49 لعام 2011، والذي نصّ على إعادة الجنسية إلى فئة من أكراد “أجانب الحسكة”، إلا أنّ هذا الإجراء لم يشمل فئة “المكتومين”، الذين استمرّ تجاهل أوضاعهم القانونية رغم حرمانهم التام من الحقوق الأساسية.
إلى جانب ذلك، تمّ تخفيف بعض القيود الثقافية بشكل محدود، حيث سُمح بتنظيم فعاليات ثقافية كردية ضمن ضوابط أمنية مشدّدة، ولكن من دون أن يُترجم ذلك إلى اعتراف فعلي بالهُويّة القومية الكردية أو إدماجها في البنية الدستورية والمؤسّساتية للدولة. بقيت هذه الخطوات في إطار المعالجة الأمنية، من دون أن ترتقي إلى إصلاحات شاملة تعكس تحوّلاً في النظرة الرسمية تجاه التعدّد القومي في البلاد.
توصيات تشريعية لمعالجة الوضع القانوني للأكراد في سورية
تمثّل قضية الهوية القانونية والثقافية للأكراد في سورية نموذجاً صارخاً لسياسات التمييز المنهجي، التي تجاوزت حدود سحب الجنسية أو تقييد الحقوق السياسية لتطاول الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية بعمق. ولمعالجة هذا الملف معالجة جذرية وعادلة، تبرز الحاجة إلى تسوية قانونية شاملة تستند إلى مبادئ الإنصاف والاعتراف والعدالة التاريخية.
تبدأ هذه التسوية بإقرار دستوري صريح بالتعدّدية القومية، والاعتراف بالأكراد مكوّناً وطنياً أصيلاً يمتلك كامل الحقّ في التعبير عن لغته وهويته وثقافته في إطار دولة مدنية ديمقراطية موحّدة. كما تتطلّب استعادة الحقوق القانونية المسلوبة عبر منح الجنسية لجميع الأشخاص المكتومين والمتضرّرين من نتائج إحصاء عام 1962، ضمن آلية شفافة وعادلة.
بالتوازي، ينبغي مراجعة شاملة للتشريعات السورية القائمة بهدف إلغاء القوانين ذات الطابع التمييزي ومواءمتها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، إلى جانب إعادة الاعتبار إلى اللغة الكردية والهُويّة الثقافية من خلال السماح بإنشاء مؤسّسات تعليمية وثقافية مستقلة بعيداً عن أيّ وصاية أمنية. ولضمان عدم تكرار الانتهاكات، لا بُدّ من إنشاء آليات مؤسّسية دائمة تراقب السياسات المتعلّقة بالأقليات، وتعزيز ثقافة قانونية ومجتمعية تحترم التنوّع القومي والتعدّد الثقافي باعتباره عنصر قوّة لا تهديداً.
وفي النتيجة، لا يمكن أن تنجح مقاربة القضية الكردية في سورية ضمن حلول أمنية ظرفية أو تسويات مؤقتة، بل تتطلّب إرادة دستورية حقيقية تعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الحقوق المتساوية، وتقرّ بأنّ الاعتراف بالتعدّد القومي ضرورة لبناء دولة قانون حديثة تقوم على العدالة والمساواة والتنوّع.
المصدر: العربي الجديد
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=66946