حين تتحوّل الصحافة إلى تبييض للإرهاب، ويصبح الكذب “تحليلاً سياسياً”

د. محمود عباس

ما كُتبه عمر الهويدي في 3 كانون الأول/ ديسمبر تحت عنوان «عامٌ على السقوط.. والجزيرة على صفيح ساخن» ليست قراءة تحليلية، ولا توصيفاً صحفياً، ولا حتى اختلاف رأي مشروع؛ بل هو نموذج فجّ لانهيار المصداقية الفكرية، وتدويرٍ رخيص لمفردات السلطة الجديدة، وتمرير واعٍ أو غير واعٍ لخطاب داعش بلغة ناعمة.

أولاً: الجريمة الأصلية، قلب الضحية إلى جلّاد

ينطلق الكاتب من معادلة مقلوبة أخلاقياً وتاريخياً:

يتحدّث عن الدمار في الرقة ودير الزور وكأنه نتاج “قسد” أو “الإدارة الذاتية”.

ويتجاهل، عن سابق إصرار، أن هذا الدمار سببه تنظيم داعش، ثم الحرب الدولية عليه، ثم خذلان العالم للمدن التي قاومت أبشع تنظيم إرهابي عرفه التاريخ الحديث.

الرقة سُوّيت بالأرض لأنها كانت عاصمة داعش، لا لأنها اختارت نموذج إدارة ذاتية، ولا لأنها خرجت عن “الدولة المركزية”.

هذا التزييف ليس خطأً، بل كذب سياسي متعمّد.

ثانياً: النفاق الفاضح… مقارنة غير أخلاقية ولا واقعية

يصل الكاتب إلى ذروة العبث حين يعقد مقارنة بين:

مناطق الإدارة الذاتية، ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام / الحكومة الانتقالية.

وهنا لا بد من كلام واضح لا لبس فيه:

أي منطق أخلاقي يسمح بتقديم مناطق تسيطر عليها أيديولوجيا خرجت من رحم القاعدة وداعش، على أنها “نموذج دولة”، بينما تُتهم مناطق تعيش فيها الكرد والعرب والسريان والآشوريون معاً بالاحتلال والقمع؟

في مناطق الإدارة الذاتية:

لا تُقتل على الهوية.

لا تُفرض الشريعة بالسوط.

لا تُسبى النساء.

لا يُكفَّر المختلف.

لا تُمنع اللغات.

لا تُقصى المكونات.

أما في مناطق هيئة تحرير الشام – الحكومة السورية الانتقالية:

فالدين سلطة، والقتل على الهوية.

والسلاح هو القانون،

والاختلاف جريمة،

والمرأة وظيفة، وسبيها شريعة.

والاقتصاد ريعي/أمني،

والمستقبل مؤجل إلى فتوى.

يكفر المختلف، وتمنع اللغات، وتقصى المكونات.

أي وئام هذا الذي يتحدثون عنه؟ وأي قمع هذا الذي يخترعونه؟

ثالثاً: تحريف الحقيقة، وتحريف الفيدرالية

الأكثر خطورة منطق من يدعم هذا النص ليس فقط انحيازه، بل انقلابه الفكري.

ومن الغرابة أن الكاتب محي الدين اللاذقاني، الذي يسير في فلك منهجية هذا الكاتب، كان يدافع عن الفيدرالية، فإذا به اليوم:

يفرغها من مضمونها، بناء على مثل هذه المفاهيم الضحلة والكاذبة، أو لربما على خلفيات أخرى لا تزال غير واضحة أدت به وهو الكاتب الديمقراطي المعروف، ان يغير من موقفه الوطني بهذه الحدة والغرابة.

يحوّلها إلى أداة تفاوض بيد حكومة انتقالية خاضعة للقوى الإقليمية، ويعيد تسويق المركزية القسرية بلباس “الدولة الواحدة”. هذه ليست مراجعة فكرية، بل انتهازية سياسية.

الفيدرالية ليست خريطة تُرسَم من دمشق، ولا من أنقرة، ولا من الدوحة، بل عقد اجتماعي بين مكوّنات البلاد.

رابعاً: حين تُستباح الحقيقة، يُستباح النص الإلهي، ولا تطبق على مبدأ الأغلبية أو الأكثرية، بل يتم المطالبة بها لإنقاذ شعب، يفرض عليه منطق الأقلية، من الاستبداد ومنطق الأغلبية.

حين يفقد الكاتب معاييره الأخلاقية، يسهل عليه تحريف كل شيء:

الواقع، التاريخ، وحتى النصوص الدينية.

وما يفعله بعض الكتّاب، ومنهم صاحب هذا الطرح، هو توظيف الدين لا بوصفه قيمة، بل سلاحاً سياسياً، تماماً كما فعلت داعش، ولكن بلغة أكثر “تهذيباً”.

الفارق الوحيد:

داعش كانت صريحة، وهؤلاء يقدّمون النسخة “المهذّبة” من الفكرة نفسها.

خامساً: الجزيرة ليست صفيحاً ساخناً، بل مرآة كاشفة

الجزيرة السورية ليست:

“خارجة عن التاريخ”، ولا “معلّقة خارج الجغرافيا”، ولا “عبئاً على الدولة”.

الجزيرة هي اختبار سوريا الحقيقي:

إما دولة تعددية لا مركزية، أو سلطة جديدة بوجه قديم.

وكل كاتب يهاجم الجزيرة لأنه لا يحتمل فكرة الشراكة، لا يدافع عن سوريا، بل عن امتيازات ضائعة.

هذا النص لا يدين “قسد”، بل يدين كاتبه.

لا يكشف مأساة الجزيرة، بل يكشف خواء الخطاب الذي يحاول تبييض حكومة خرجت من رحم الفكر الداعشي.

ولا يطرح أسئلة المستقبل، بل يهرب من عرض حقيقة واحدة بسيطة:

لولا الإدارة الذاتية وقسد، لكانت الرقة ودير الزور والحسكة اليوم نسخة ثانية من الموصل، أو أسوأ.

ومن لا يستطيع قول هذه الحقيقة، لا يكتب تحليلاً، بل يبيع وهماً.

وهنا، لا يعود الصمت حياداً، بل تواطؤاً.

الولايات المتحدة الأمريكية

3/12/2025م

Scroll to Top