الأحد 03 آب 2025

حين تواطأت الرياح مع الخرائط

مصطفى عبد الوهاب العيسى

حين تكون القضايا عادلة ، فإنها تمنح المناضلين والمؤمنين بها والمناصرين لها مساحة واسعة في الفكر والأدب ، ليهمسوا بها وللعالم همساً لطيفاً ، وبرقةٍ وأناقةٍ وهم يطرحونها ويعبرون عنها بأساليبهم المختلفة ، كقصيدة ، أو رواية ، أو مقال ، أو كتاب ، أو .. الخ ، وهذا ما يبدو جليَّاً في رواية حين تواطأت الرياح مع الخرائط للدكتور عمران علي ، والتي كان أول ما تبادر إلى ذهني بعد قراءتها : أطروحة رائعة ومتميزة في القضية الكردية .

ليست أطروحة متميزة في تناول القضية الكردية فحسب ، بل تتجلى روعتها فيما تطرحه بين السطور من عشرات القضايا – عند الغرق في تفاصيلها – كبراءة الطفولة ، وتشوه هذه الطفولة ، إضافة إلى مراجعة فهمنا لكثير من الأمور الغيبية ، وقد أبدع الكاتب في تحفيز القارئ على إطلاق العنان لخياله ، والتفكير في كمِّ ونوع القضايا التي تطرحها الرواية ، والمتاهة الممتعة التي يعيشها أثناء الحديث عن الخرائط التي باتت حديث الساعة سياسيَّاً في المنطقة .

تميل قوالب الدراسات النقدية التي تتناول الروايات عادة إلى الحديث – وبشكل شبه مؤكد – عن الاستفاضة لدى الكاتب ، وهو ما لا أتفق معه شخصيَّاً ، إذ أرى أن الإطالة ، وإن كانت تُعد لعنة في نظر البعض ، فهي من اللعنات المُحببة عندي ، وقد برز في هذه الرواية بشكل واضح مدى قدرتها على إدخال القارئ في حالة من التكامل ، وجذبه إلى جميع السرديات الفلسفية ، والنقاشات التي دارت بين الحيوانات ، بل وتعاطفه وتركيزه مع مختلف الحوارات التي كانت تجريها بعض القطط مثلاً كـ”بوزو” ، و”نيمران” ، و”بيلاو” ، و”دشتو” فيما بينها .

تُعد قدرة الكاتب على التعبير أمراً في غاية الأهمية ، غير أن تميُّز الرواية لا يكمن في ذلك وحده ، بل يتجلَّى في قدرتها على إثارة القارئ وشدِّه للغوص في عالمها ، والاندماج مع شخصياتها وأحداثها بشكل عميق ، وهذا ما جعلنا نعيش تناقضات الملا “إبراهيم” والملا “محمود” ، وكأننا قد مررنا بهذه الأحداث ، أو عايشنا مثل هذه الشخصيات من قبل ، سواء في جدالات جمشيد وهوشينكار ، أو في العبثية الممزوجة أحياناً بالحكمة في أحاديث النساء عموماً ، وأحاديث فتاة الليل “أسماء” على وجه الخصوص .

جاءت الرواية مؤكدةً على جملة من المبادئ التي تتبناها النخب المثقفة ، وكان أبرزها أن الانتماء لا يُقاس بالخرائط والحدود الجغرافية التي رسمتها أيدٍ بشرية ، كما حملت الرواية بين طياتها دروساً عميقة جعلتنا نُمعن النظر فيها بإجلال وحزن ، ومن تلك الدروس ما نحن بأمسِّ الحاجة إلى تصحيحه في واقعنا المعاصر ، كدرس العار الذي قيل فيه : ” لأن العار حين يطول يصبح مألوفاً ، وحين يصبح مألوفاً ، لا يعود عاراً ، بل عادة ” .

تدعو الرواية قراءها إلى الوقوف والتأمل والتفكُّر في عقيدة راسخة تقول : ” لأن الخرائط لا تموت والحدود لا تضعف ” ، كما تمتلك قدرة واضحة على التأثير، حتى في أولئك الذين يحملون وجهات نظر مغايرة لما تطرحه من حلول  في نقاشات الشخصيات ، ومثال ذلك ما يفكر به المؤمن مثلي بالنضال السلمي والسياسي أكثر من الكفاح المسلح ، إذ وجدت نفسي أتوقف طويلاً عند أحد الاقتباسات اللافتة : ” الخرائط تُرسم بالسكين ، لا بأصابع العاشقين ” ، لأُحدِّث نفسي ، وربما أتبنى – في ظروفٍ خاصة –  قناعةً بضرورة أن يجتمع النضال السلمي والمسلح معاً بين الحين والآخر .

مع الأسف الشديد نشهد تراجعاً ملحوظاً في معدلات القراءة وفقاً لما تشير إليه الإحصاءات ، وهذا ما يدفعنا إلى الدعوة المستمرة لتحويل مثل هذه الروايات إلى أعمال مسرحية أو سينمائية ، لتُمنح حياة أطول ، وتصل إلى جمهور أوسع ، وخصوصاً أولئك الذين تماهوا مع تكنولوجيا العصر ، ولم يعودوا يُقبلون على القراءة كما في السابق .

في الختام ، وكمنحازٍ بشكل عام إلى الرواية بوصفها أحد أهم الأشكال الأدبية ، فإن مثل هذه الأعمال هي التي تُعمِّق قناعاتنا وتثبتها أكثر فأكثر بما تحمله مثل هذه الأعمال من أبعاد فكرية وإنسانية ، وبما لها من أثر بالغ في الوجدان والثقافة ، وما تقدمه من نقاط تفوق للرواية في كل مناظرة أو حديث يتناول ما نفضل قراءته في ميادين الأدب وأروقته .