الخميس 03 تموز 2025

سطوة التاريخ وازدواج الهيمنة في قلب الشرق

د. محمود عباس

ربما يجب أن نسأل، بجرأة خارج ضوضاء التحليلات الآنية، هل الصراع الإيراني – الإسرائيلي هو امتداد مكشوف لصدام غائر بين الإسلام واليهودية منذ لحظة التماس الأولى في المدينة المنورة؟ وهل الدعم الأميركي الأوروبي لإسرائيل ما هو إلا استكمال لوجه آخر من وجوه الصراع المسيحي–اليهودي–الإسلامي؟ وإن كانت الوجوه قد تبدلت، إلا أن البنية العميقة بقيت، وظلت الصراعات الروحية والعقائدية تتلبّس الأقنعة الجيوسياسية، وتُدار تحت رايات “حقوق الإنسان” و”الشرعية الدولية”، لكنها في جوهرها لا تخرج عن كونها امتداداً لصراعات ديانات وإمبراطوريات متجددة.

تاريخ الشرق الأوسط، الممتد إلى العصور السحيقة، لم يكن يومًا صامتًا، بل ظل يئنّ تحت وطأة إمبراطورياتٍ تعاقبت عليه باسم “الخلاص” و”الإيمان” و”الرسالة” ومع بزوغ الإسلام من عمق الجزيرة العربية، بدا المشهد وكأنه انفجار في قلب الزمن الإمبراطوري، سقوط مدوٍّ للإمبراطورية الساسانية، وانحسار مذلّ للبيزنطية، وتدمير لحضارتين، وتوسّع مذهل للإسلام والغزاة العرب.

 لكن، هل انتهت الإمبراطوريات فعلًا؟

فرض العرب المسلمون لغة القرآن، وألغوا العملات الساسانية والبيزنطية، وأخضعوا الديانات المحلية كالزرادشتية والمزدكية والمانوية، وضغطوا على المسيحية واليهودية حتى حدود التهميش، لكنهم لم يتحرروا من بنيتهما الروحية العميقة. فقد تمكن الفرس، أو ما اصطلح على تسميته بـ “العنصر الإيراني”، من سرقة الروح الإسلامية من العرب، عبر دهاء فقهي وعقائدي، أسّس لنموذج الدولة الصفوية فيما بعد، حيث تلبّسوا الإسلام ليعيدوا عبره السيطرة على العالم العربي عبر بوابة التشيع الصفوي، ليستعيدوا، بلباس ديني، ما خسروه من سلطان قومي.

فكان التشيع إحدى أدوات إعادة الهيمنة الفارسية، كما أشار العديد من المفكرين، مثل الدكتور علي شريعتي الذي حذّر من “التشيّع الصفوي” في مقابل “التشيّع العلوي”، واعتبر الأول تشويهاً سياسياً فارسياً لجوهر الرسالة العلوية. ورغم التباس بعض المؤرخين في النسب، فإن الخلاف بين هذين النموذجين لا يتعلق فقط بنزاع مذهبي، بل بإعادة قولبة البنية الروحية للإسلام لخدمة مشروع استعادة الهيمنة الساسانية، واللافت أن الدولة الصفوية، التي ارتبط بها هذا التحول، لم تكن فارسية خالصة، بل كانت ذات أصول تركية آسيوية، تتكلم بالفهلوية، وعلى خلافٍ واضح مع الدولة الغزنوية، صاحبة الامتداد الثقافي الفارسي العريق، والتي احتضنت ملحمة الشاهنامه للفردوسي كمشروع قومي ثقافي.

وهكذا، لم يكن التشيع في نسخته الصفوية إلا مركبًا حضاريًا هجينًا، حُمِّل بأدوات الدين لخدمة أغراض الدولة، وسار على نهج التحالف بين التأويل الديني والدولة القومية، وهي المعادلة التي ستستمر في التشكل حتى عصرنا الحاضر في إيران الخمينية.

أما إمبراطورية الغرب صاحبة الحضارة، الذي بدا وكأنه فقد تأثيره المباشر في المنطقة بعد انحسار الانتدابيات والاستعمار، فقد ظلّ يدير خيوط اللعبة من خلف الستار، ومن بين مشاريعها دعم إسرائيل كامتداد توراتي لمشروعه الثقافي والديني، ويطوّق المنطقة بحلفاء يحمون مصالحه ويعيدون إنتاج تبعيته، وحيث الحداثة والحضارة، والتي تتناقض في العديد من مفاصلها مع الإسلام السياسي، وأحد قادتها إيران الشيعية.

وفي هذا المشهد الغرائبي، تبدو الشعوب العربية والإسلامية وقد فقدت مركزها، رغم أن أرضها ما تزال مركزًا للصراع، فهي تُستَخدم، وتُستدعى، ويُتحدث باسمها، لكنها ليست من يكتب النص الأخير.

والأغرب أن الدول المُسمّاة بالعربية، التي استردّت شكليًا جزءًا من سيادتها عقب تقاسم تركة السلطنة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سايكس – بيكو، لم تكن يومًا سوى أدوات في يد صراعات أكبر منها، فقد مُنحت هذه السيادة المؤقتة لا بوصفها استحقاقًا تاريخيًا، بل كمرحلة انتقالية تُمهّد لانهيار الإمبراطورية العثمانية، تلك التي اختبأت طويلاً خلف عباءة الإسلام واحتكرت تمثيله باسم الخلافة.

رغم تمسّك هذه الدول بلغة القرآن كهوية جامعة، وسعيهم الدائم لفرض ثقافتهم على شعوب المنطقة غير العربية، ظلّوا خارج موقع السيادة الروحية الكاملة، لم يمتلكوا ناصية المعنى الديني في جوهره، بل ظلوا أسرى لمسرحٍ تتقاطع فيه القوى الثلاث الكبرى التي سبقتهم على الخريطة، الفرس، والبيزنطيون، واليهود.

لم يكونوا أصل النزاع، بل كانوا جسده الحيّ؛ الكيان الذي عَبَرت من خلاله تلك الصراعات، وتجسّدت عليه آثارها. لقد خُيّل إليهم أنهم محور المعركة، بينما كانت مراكز القرار تُرسم دومًا خارج أسوارهم.

الصراع الإيراني–الإسرائيلي إذًا، ليس نزاعًا على نفوذ أو ملف نووي فحسب، بل هو تكرار حديث لصراعاتٍ قديمة بأدواتٍ معاصرة، فإيران، التي ترفع راية الإسلام الشيعي، تعيد بثّ الطموح الساساني من جديد، وإسرائيل تجسد وجعًا يهوديًا تحوّل إلى مشروع عودة الاستيطاني التوراتي التاريخي وبسند من النصوص السماوية الثلاث، ومدعوم بقوى عالمية لها حسابات تاريخية عالقة مع الشرق.

هنا، تتقاطع العقيدة بالجغرافيا، وتُستعاد الأساطير القديمة في هيئة قرارات سياسية، لم يكن الصراع على الأرض وحدها، بل على المعنى، على السلطة الرمزية، على من يملك الحق في تفسير العالم وتوجيهه.

والحكمة التي تستخلص من هذا السياق الطويل والمعقد:

“في الشرق، لا تموت الأساطير بل تغيّر قناعها، ولا تسقط الإمبراطوريات، بل تخلع أثوابها لتعود إلينا بوجوه أخرى ومن لا يقرأ تاريخه بوصفه نزاعًا مستمرًا على التأويل والهيمنة، سيظل وقودًا لحروبٍ يكتبها الآخرون باسمه.”

الولايات المتحدة الأمريكية

26/6/2025م