لم يعدل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قراره بتنفيذ عملية عسكرية خامسة داخل سوريا، فيما يبدو بأن الغرض من العملية/الاحتلال هو كسب نقاط في معركته الانتخابية المقبلة، واحتواء الأصوات القومية التي بدأت تشعر بالتململ من الوعود المتصلة بتجاوز الأزمة الاقتصادية ووقف تسرّبها إلى صفوف المعارضة، وبذلك يفهم من الخطاب الحربيّ على شمالي سوريا، بأنه مسنن في المكينة التي تحصد أصوات الناخبين الأتراك. وفي السياق ذاته تأتي تهديدات أردوغان لليونان ورغبته السيطرة على جزرها الشرقية في بحر إيجا.

وإن شئنا محايثة التهديدات التركية، فإننا نلحظ بأن الحرب الخارجية والتوسّع كانا جزءاً من فلسفة الحكم، وأما في حالة الرئيس التركي الحالي، فإن الحرب ورقة لا يمكن نزعها من “كاتالوغ” السلطة لرئيس بات يوصف في عداد القادة السلطويين في العالم، وإذا استعرنا العبارة المفتاحية لرواية جورج أورويل 1984 “الحرب هي السلام” فإننا نعثر على تجسيدها الحي في المقاربة التركية لفكرة الحرب على شمالي سوريا.

في إزاء ذلك تنشط قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتحاول توسيع مروحة خيارات التصدّي للاحتلال التركي المتوقّع، وتريد “قسد” القول بأنها والسوريين جنوب الحدود التركية لا ينبغي عليهم أن يتحوّلوا مرغمين إلى محض أصوات تصب في صناديق أردوغان الانتخابية، كما لا يجب أن تُصبح الأراضي الواقعة تحت سيطرتها مختبراً لسياسات تركيا في الاحتلال الاستيطاني والتغيير الديمغرافي، ثم أن النهم التركي لقضم الأراضي السورية لن يسد شهية الأتراك لاحقاً، وعليه فإن البحث في الخيارات المتاحة على صعوبتها بات قدر “قسد” في هذه الأثناء.

وفيما تبحث تركيا عن ثغرات تؤمّن لها جواز عبور إلى الحرب عبر الضغط على الولايات المتحدة أو المساومة مع روسيا، فإن “قسد” تقوم بسد تلك الثغرات عبر دعوة دمشق لتشكيل حلف دفاعيّ تكون مهمّته الرئيسية إفشال العملية التركية، ودائماً بالاعتماد على موسكو، وفي الوقت عينه تضغط “قسد” على واشنطن بحكم المصالح المشتركة في محاربة “داعش”. ولعل مراهنة القائد العام لقوات قسد، مظلوم عبدي، على حاجة واشنطن لدور قوّاته، يؤمّن غطاءً مناسباً للضغط على أمريكا التي أفصحت مراراً أن العملية التركية من شأنها تقويض جهود مكافحة الإرهاب، وقد كان قائد “قسد” أوضح أن قوّاته “لا يمكن أن تخوض حربين في آنٍ معاً”، وعليه فإن المهمّة الوحيدة التي ستتفرّغ لها قسد ستكون مواجهة القوات التركية الغازية، وهو ما لن يسرّ التحالف الدوليّ بحال.

من حيث لا تحتسب دفعت التهديدات التركية “قسد” للبحث عن توسيع مروحة تحالفاتها، فالتعاون الدفاعي المتوقّع مع دمشق لن يتعارض بالضرورة مع تحالفها والولايات المتحدة، وإذا كانت دمشق تتحزّم بتحالف متين مع موسكو وطهران فإن من شأن هذه التحالفات التضييق على تركيا حال قيامها بأعمال عسكرية جديدة، وبطبيعة الحال لن يكون لواشنطن الحق في المطالبة بوقف هذا التعاون طالما أنها لا تستطيع وقف العملية التركية، وإذا كانت واشنطن تزعم أن مناط عملها هو شرق الفرات ولا يمتد تحالفها على المناطق الواقعة إلى الغرب من الفرات، منبج وتل رفعت، فإن مثل هذه المزاعم تطلق يدي “قسد” للتعاون مع دمشق وموسكو، ذلك أن ما رشح من تصريحات القيادة العامة لقسد حول مواجهة الغزو التركي وأنها “لن تقتصر على المناطق المستهدفة فقط، إنما ستوسع نطاقها لتشمل مناطق أخرى داخل الأراضي السورية المحتلة”، يشي باحتمال أن تشن “قسد” هجوماً على منطقتي رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض، الأمر الذي سيضع الولايات المتحدة في قلب المشهد ولن تفيد بذلك سياسة النأي بالنفس التي اتّبعتها واشنطن إبان الحرب على عفرين 2018.

وخلال استهداف الجيش التركي ومليشيات المعارضة المسلّحة لرأس العين وتل أبيض أواخر عام 2019، كان الخيار الوحيد المتاح أمام “قسد” آنذاك هو الدفاع عن المناطق المستهدفة، وبالتالي لم تشن قوّاتها عمليات خارج أرض المعركة، في حين أن تواجد القوات التركية في مناطق سورية محتلة، كما هو عليه الآن، يسمح لقسد بتوسيع بنك الأهداف والانتقال من مرحلة الدفاع إلى الهجوم داخل الأراضي السورية، وهذا الخيار الإضافي من شأنه إرباك القوات الغازية وبالمثل فإنه يضع واشنطن وموسكو أمام التزاماتهما بوقف إطلاق النار والحفاظ على هدوء الجبهات، رغم حالات الخرق التركي اليومية والاعتداءات على تل رفعت وعين عيسى وزركان.

ولعل الأثر الأكبر للتهديدات التركية هو ذاك المتصل بأفق التعاون بين “قسد” ودمشق، الأمر الذي يضع العلاقة بين الطرفين في مرحلة اختبار جديدة وتطبيع لاحق قد يتجاوز التعاون الدفاعيّ، ورغم أن قيام علاقة بهذا الشكل، واحتمال تطوّرها، سيؤثّر على العقوبات الأميركية “قانون قيصر” وسيبدّد مفاعيل الإعفاءات التي خصّتها واشنطن لشمال شرقي سوريا، وأما الأمر اللافت حتى اللحظة فهو عدم تسجّل أي اعتراض على سعي “قسد” التعاون مع دمشق، وهو ما يعكس اقتناعاً أميركياً بأن المشكلة الأساسية تكمن في نزوع الرئيس التركي للحرب وأفكاره الرامية إلى هدم الاستقرار النسبي الحاصل.

وإلى اللحظة تبدي واشنطن رغبتها في الحفاظ على وقف إطلاق النار واتباع إجراءات خفض التصعيد، بيد أن الرغبة الأميركية هذه تصطدم مراراً بالعناد التركي، وهو ما قد يدفع واشنطن إلى اتخاذ إجراءات زجرية تجاه أنقرة، لكن تلك الإجراءات لن تعني لقسد وللسوريين الذين سيتعرّضون للخطر والتهجير الشيء الكثير، كما أن حاجة موسكو للدور التركي المعطّل لانضمام السويد وفنلندا للناتو، وما يستتبعه من اضطراب في العلاقة الأميركية التركية، يدفع للاعتقاد باحتمال منح موسكو ضوءاً أخضر للأتراك، والحال أن الخيار الذي تراه “قسد” مناسباً في هذه الأثناء هو التعاون مع دمشق بصرف النظر عمّا سيؤول إليه هذا التعاون الدفاعي.

شورش درويش
المصدر: نورث برس

شارك هذه المقالة على المنصات التالية