عام على السقوط.. حين تتبدل الأقنعة وتبقى الدماء

الصحفي محمد مروان

ليس ثمة ما يمكن أن يسمى “عيد تحرير” إذا كانت الأيام اللاحقة له قد جرت فوق هدير المقاصل. فالسوريون لم يستيقظوا على دولة جديدة بقدر ما استيقظوا على سلطة جديدة ترتدي الملابس نفسها بلونٍ آخر.

مستبد ديني بلحية وربطة عنق، وجماعات مسلحة لم تخلع عن وعيها خطاب الإقصاء، بل حملته معها فوق ظهر الدولة الوليدة. لم يكن التحرير، حينذاك، سوى تبديل للممثلين بينما بقيت خشبة المسرح نفسها غارقة بالدم. والدم، هذه المرة، لم ينتظر طويلًا كي يصعد إلى السطح.

مجازر الساحل التي بدأت في 6 من آذار الماضي واستمرت لثلاثة ايام، قدمت حسب رواية سلطة الامر الواقع : “أن عناصر وضباط من جيش النظام السابق هاجموا دورية للأمن العام في ريف اللاذقية، ضمن عملية انقلاب على حكم الشرع”!

وما أريد أن يقدم “انقلاباً، كان في الحقيقة أقرب إلى رواية تبرير لما تكشف في اليوم التالي بوصفه واحدة من أكبر موجات القتل الانتقامي عقب سقوط النظام.

تحقيق لوكالة “رويترز” وثّق مقتل 1479 شخصًا من أبناء الطائفة العلوية واختفاء عشرات آخرين، جُمعت شهاداتهم من 40 موقعًا مختلفًا تحولت، خلال أيام، إلى مسارح قتل منظم.

لم تكن الأحداث مجرد فوضى سلاح، بل عملية واسعة النطاق شارك فيها 12 فصيلًا، يتبع بعضها لوزارة الدفاع السورية الجديدة، وبعضها الآخر لـ “هيئة تحرير الشام” التي حُلّت شكليًا واستمرت فعليًا بأذرعها مثل لواء عثمان والوحدة 400.

ولم يقتصر المشهد على تلك الفصائل؛ ففصائل مدعومة من تركيا مثل فرقة الحمزة ولواء السلطان سليمان شاه دخلت على الخط، وكذلك فصيل يحوي عناصر أجنبية، إضافة إلى وحدات من جيش الإسلام القادم من ريف دمشق.

كانت سلسلة كاملة من القوى، لكلٍ منها راية وهيئة شرعية وخطاب تبريري، لكنها جميعًا شاركت في القتل تحت مبرر واحد: “قمع فلول النظام”. كان ذلك اليوم إعلانًا غير مكتوب بأن “المستبد الذي سقط” ترك وراءه مرآة ضخمة تسابق إليها كثيرون ليجربوا وقفتهم الأولى أمام سلطة بلا رقيب.

بعد أربعة أشهر، وفي 13 من تموز الماضي، انفجر العنف في الجنوب؛ إذ وثّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 169 سوريًا في محافظة السويداء، بينهم خمسة أطفال وست سيدات، وإصابة أكثر من 200 آخرين بجروح متفاوتة. قُتل معظمهم في عمليات اقتحام واصطدامات مباشرة مع مجموعات محلية.

السلطة الجديدة، التي صعدت على أكتاف قوة عسكرية مشدودة، اختارت السلاح قبل السياسة، والفتوى قبل القانون، والاتهام قبل التحقيق. هكذا تحولت مدينة عُرفت تاريخيًا بالهدوء إلى ساحة مفتوحة لعنف يرفع شعار “فرض النظام” بينما يزرع بذور الفوضى.

وفي العاصمة أيضًا، لم تكن الكنائس بمنأى عن الانفلات؛ فالتفجير الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق، مهما بدا صغيرًا في أعداد الضحايا، كان كبيرًا في دلالته. كان رسالة كاشفة بأن الخطاب الذي يَعِد بحماية الأقليات لا يملك القدرة على حماية كنيسة في قلب العاصمة، لتجد سلطة الأمر الواقع مخرجًا حين نسبته إلى عناصر مرتبطة بداعش.

أما الدولة الجديدة، مثل التي سبقتها، فكانت تتحدث بوصفها حامية وراعية، بينما يكشف الواقع أن الأمن هش، وأن السلاح المتفلت يفرض منطقه على الجميع.

وفي حمص، لم تكن الهجمات التي نفذها أبناء العشائر على أهالي الطائفة العلوية قبل أقل من أسبوعين مجرد احتكاك، بل توتر طويل قابل للاشتعال بين ساعة وأخرى، يؤشر إلى أن الجغرافيا التي انشطرت ذات يوم لا تزال تحمل في باطنها كل أسباب الانفجار.

إننا أمام لوحة كاملة لا يمكن الاحتفال فوق حطامها. فالتحرير الذي يُراد تحويله إلى عيد قومي ليس سوى تاريخ ميلاد جديد للمأساة؛ لأنها لم تولد من فراغ، بل من غياب الدولة، ومن استمرار حكم الجماعات المسلحة التي تحرس المدن بعقلية ثأرية، ومن خطاب ديني يقصي ثم يبرر القتل.

السوريون لا يحتاجون عيدًا آخر، بل يحتاجون دولة تحاسب القتلة لا تنسّق معهم، دولة تحفظ ذاكرة الضحايا لا ذاكرة الفصائل، دولة تستطيع أن تقول “كفى” ويُسمع صوتها. أما ما نعيشه اليوم، فهو مجرد استبدال قناع بآخر وتقديمه للناس بوصفه تحريرًا، وهذه أكبر الأكاذيب

المصدر: syrnb.com

Scroll to Top