غضب الطبيعة تربية النفس

كوردأونلاين |

عبد الله رحيل

غضب الطبيعة قِران الموت والحياة، وتزاوج المصير بالأمل، وانهزامية التكبّر، والجبروت، ملتحما بالتواضع، وبالتخاذل، ضد أنفة النفس، وهالة عظمتها، التي تمتحن الصبر في احتمال التوازن التكويني، لصفائح صخرية قاسية أشاحت عن وجهها وداعة الحمام، وبراءة الأطفال؛ لمّا سمعت أنّات المظلومين، وآلمها جحد حقوق الآخرين، فملّت التموضع، وسئمت جور البشر، فاصطبرت، وصبَّرت مكوناتها ضد ما يُحمل عليهما من الألم، والظلم المتواتر، يرجعه كثير من الخلق إلى الجنس البشري، وإلى ما أنتجته أدمغتهم من تكنولوجيا، عبثت كثيرا في جمال الأرض الخلاّب، غضبٌ تصدره أسباب مجهولة المصدر، بعضها يتعلّق بتوازن الطبقات لحماية الضعف فيها، وبعضها حمم تغلي في الأعماق كالمرجل، فتثور ثورة الكريم إذا أُهين، لا يدوم طويلا، ويمتدُّ مسافات شاسعة، وبالوقت نفسه، بين الشرق والغرب، ينتفض كالعملاق المسجون، وكالعفريت المظلوم، وكنار تلتهم الهشيم، وكريح صرصر عاتية، ثم يختفي بصمت، فتغدو الخلائق سكرى هائمة، وأديم الأرض تذروه الرياح، ومعالم تختفي، وتظهر عملاقة أخرى، ويكثر العويل، والصراخ، وتبتسم الأرض، وتأخذ أعزاء اشتاقت إليهم، خلقٌ فوق خلقٍ، صغار وكبار، وطفولة، وساحات كبيرة من الدمار والهلاك بأصقاع الأرض المترامية كلها، أو بعضها، هذا الغضب التكويني، إن شاء دام برهةً، وإن شاء لحظة، وإن شاء أياماً متوالية، إن حدث ذلك؛ فقد بلغ سن اليأس بتماهي خطأ الإنسان، وآثامه، وإيقاف شروره، والتعدي المباشر، وغير المباشر على جمال الحياة، والتوقف عن التغزل بزهرها، ووردها، وجبالها، وعبير وديانها، وآلمه الاقتتال والقتل، والجنون العقلي في الخراب، وتشريد البشر بين الخرائب، وسجن مستوى العقل بين الأنقاض والنقائض، فيثور غضب الأرض السحيق، ثورة اندفاع وتغيير، وثوراناً فعّالاً لتقليم الأظفار، ولاستبدال الضغينة بالود، ولجم جماح السادة المتكبِّرين المتعالين على جمال الأرض، فيغدو جرس إنذار ومنبهاً، لِعَين رأت الجنون الإنساني، يوم يكونون كالفراش المبثوث، فيلتحم العدو، والصديق في مواجهته، لكنهم لا يستطيعون.

هناك في تلك اللحظة الغاضبة، يصبح الإنسان بقوته، وبعظمته، وجبروته، لا يقوى في مقاومة جناح بعوضة، ولا دفع موت حتمي، أكفانه الحجر، وغُسله وطهره الثرى، ولا يدع له هذا الغضب إدارة أسلحته النووية، التي تدمّر الأرض بمقبض صاروخ، أو مدفع طائرة تتجاوز سرعتها الصوت، والضوء، فيغدو مهجَّرًا برغبته، من مكان سعيد مؤتلف، تسكنه السكينة إلى خيمة ممزَّقة الدثار، أشعثاً مغبرًّا، قد رأى ما قدمته يداه، وإقامة بناء شامخ يعانق النجوم، والغيم إلى حطام من ركام فيه الموت، والبؤس، والتشرد، يبحث عن ناجين فيه؛ ليستقيم نظره في استكانة المودع العاجز، وقد برئ في تلك اللحظة من آثامه، ومن فِكَره الهدامة، ومن قطع سبيل المعروف، ومن تلويثه للقمة الهانئة، في تلك اللحظة، التي تخرج عن معقولية الجواب، وعن منطق الحياة، يتعطّل فكره النيّر الثاقب سوى بنفق ضيق للخروج، والنفاذ نحو الحقيقة ونحو الحياة، ونحو ملجأ في الأرض، التي سعى دائما لتلوينها فلفظته مرغما، يَودُّ عندئذٍ بجلسة سكون في أحضان الطبيعة، التي غضبت منه، حينما لها كثيرا بعينيها الجميلتين، فهي مخاصمة له، لا يعنيها منظره، ولا تقبل صفحه، ولا مسامحته، ولا اعتذاره، فهي المستغنية عنه. لكن هذا الغضب التكويني لجيولوجيا الأرض الخلابة، يحتضن الأحبة الكُثر، بعد أن مرت عليهم نظرة المنون، فيرقدون رقدة أبدية ترعاهم اللُّحُد المظلمة الصغيرة، بعد أن كانوا في ناطحات سحاب، وقصور وارفة الظلال، ثم تتحد البشرية جمعاء في التغلب عليه، وهو يمر سريعا بين ناظريهم، لا أحد يقوى على مجابهته، ولا أحد يستطيع ردَّ فعله، وإسكات صياحه بهم، يسخر من قوتهم العظيمة، فلا جنود، ولا مدافع، ولا طائرات له، ولا يستطيعون فهم مآربه، لا ينفعه رشوة ولا مصلحة، ولا تملُّق ولا تزلُّف، هو من الطبيعة الصامتة، هو حالة من الفوضى والغضب، سرعان ما يهدأ، ثم يترك الورى بعده في أشد حالة من الرثاء، وطلب الرحمة والغفران والصفح، والنجدة، ومن ثم الاعتذار له، وكل ظني أنه لا يغفر لهم، ولا يصفح، لكنه يُعِيرِهم بعض سكونه، ومن جميل هدوئه.

“إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ” إذا يحدث هذا الغضب بزلزال مأمور، يحدث أخباره العملية في الدمار، والهلاك، والإنذار بعد ذلك، عما يحدث في المستقبل، فيصدر الناس من رقدتهم، يركضون إلى دون وجهة، ولا هدف يسعون إليه أشتاتا متفرقين، لا أحد يعلم عن أحد، ولا أحد يهمه مصير أحد، ليروا أعمالهم، وما صنعته أيديهم من عبث بجمال وجه الأرض والكون، فالإنسان يتحد مع الآخر، لصنع الخراب والدمار، ولقيامة الحروب، والتفنن في صنع الفتن والاقتتال والتشرد، والضياع والهجران، واستهجان الظلم الأبدي، لشعب اقتلع من جذوره حينا، وقتل في الأحيان الأخرى، وهجر بين خيم وسط الثلج المتجمد، لا يرعاه أحد، ولا يهتم لبشريته أحد، ولا يتضرع إلا لخالقه، مستعطفا جبروته، ثم يأتي هذا الجبروت، ولو بعد حين.

فعد أيها الإنسان إلى الخير، الذي خُلق معك، واقترن بين جنبيك وفي قلبك، حين ولدتك أمك، وعد إلى الحنان، الذي ملأ قلبك، يوم كنت جنيناً وديعاً في حضن أحشاء أمك، تسبح في هذا الحب العميق، فمالك تغدو عدواً للتي ولدتك؟! ثم علّمتك احترام الآخرين والوفاء لهم، والود معهم، وعلّمتك أن الزهور الحمراء هي للحب، وليس للون الدماء، ومنحتك الحياةُ الأمان، تسير فيها أينما اتجهت، عدّ إلى إنسانيتك المُثلى في إيجاد، وخلق الخير، وكن وسيلة لصنع قلم، يكتب الأشعار الجميلة، ويكتب الذكريات المتفائلة، بدل أن تلم حديد الأرض، وتصنع منه أداة قتل للحياة، التي حبتك كل كنوزها، فلا تبخل عن الحياة ببعض حبٍّ، حتى لا يأتيك غضبها بغتة، وعندئذ لا ينفع الندم، وكن على مسافة مدروسة من غضب الدنيا، والكون، فاسمع إلى حديثها في لسان أبي الفرج الساوي:

“هي الدنيا تقول بِملء فِيِها

حَذارِ حذارِ من بطشي وفتكي

 فلا يغرركم حسن ابتسامي

فقولي مضحكٌ والفعل مبكي

دعي يا نفس فكرك في أناس

مضوا بل لانقراضك ويك فابكي

فلا يغني هلاكُ الليث شيئاً

عن الظبي السليب قميص مسكِ

هي الدنيا كمثل الطفل بينا

يقهقه إذ بكى من بعد ضحكِ

ألا يا قومنا انتبهوا فإنا

نحاسب في القيامة غير شكِّ

​الثقافة – صحيفة روناهي  

شارك هذه المقالة على المنصات التالية