من المذكرات إلى الذاكرة الجماعية: گەلاوێژخان شاهدة عصر

بورهان شيخ رؤوف
الترجمة: قسم اللغة العربية – موقع گلاوێژخان
إن كتابة السيرة والتأمل في مسيرة الشخصيات الكاريزمية والرموز الشعبية ليست بالأمر الجديد، لكنها تظل على الدوام ذات قيمة كبرى وأهمية خاصة، سواء من المنظور التاريخي أم من الناحية الأدبية. فالكتابة السيروية – في جوهرها – لون من ألوان التأريخ، بما لها من تماس مباشر مع التجربة الفردية. صحيح أن هذه التجربة تعكس في المقام الأول خبرة الكاتب ومعارفه وحدسه، لكن السيرة، قبل كل شيء، هي استعادة للأحداث، ولعلّ أهميتها تتضاعف حين يكون الكاتب شاهدًا قريبًا من وقائعها أو طرفًا فيها.
وعلى ضوء هذا الفهم، يمكن أن نضع مذكّرات گەلاوێژخان في منزلة وسطي بين السيرة الذاتية والتدوين التاريخي، لأنها جمعت الاثنين معًا. فـ گەلاوێژخان لم تكن مجرّد زوجة للأستاذ إبراهيم أحمد – سكرتير الحزب الديمقراطي الكردستاني، والشاعر والروائي الكبير – بل كانت شريكة حياة له، وصديقة درب، ورفيقة خوضٍ في السياسة والفكر، حتى غدت شاهدًا على أزمنة فاصلة في تاريخ الكرد، بعمقها السياسي والاجتماعي.

إن ما يميز گەلاوێژخان عن نساء عصرها أنها لم تكتفِ بما اكتفين به من حضور عائلي أو اجتماعي، مثل عادلة خانم أو مستورة ئەردەڵانی، بل أمسكت القلم لتسجل مذكراتها بوعي المرأة المفكرة، لتضيء بذلك زوايا منسية من تاريخ الحركة الكردية، يستفيد منها الباحث والمؤرخ في الحاضر والمستقبل.
في كتابها «مذكّرات لا تُنسي»، قدّمت گەلاوێژخان نصًا مفعمًا بالصدق والعاطفة، أشاد به الدكتور كمال غمبار واعتبره شهادة فريدة. أما أنا، فكنت قد قرأت الكتاب، فوجدت فيه من الأمانة ما دفعني إلي إعادة قراءته مرة بعد أخرى.
لقد كانت گەلاوێژخان ابنة بيئة بادينان (الكرمانجية الشمالية)، لكنها كتبت لاحقًا بالسورانية (الكرمانجية الجنوبية)، فأبدعت في صياغة روايات ومذكّرات تروي آلام الكرد وآمالهم، وتوثّق حياتهم في شمال وجنوب كردستان، في ظل الدولة العراقية الحديثة. وهذا الامتداد اللغوي والفكري ما هو إلا إرث من خالها االاستاذ حمزة عبد الله، الذي ترك أثرًا عميقًا في وعيها المبكر.
وتقف گەلاوێژخان طويلًا عند طفولتها، إذ عاشت تحت سطوة القمع والحرمان، حتي إنها تقول: “لم نذق طعم السعادة، وما عرفنا إلا القهر والاضطهاد، إلا في سنتين قصيرتين خلال حكم عبد الكريم قاسم.” كما تذكر تفاصيل حياتها في البصرة، وذكريات الطفولة مع أنواع التمور التي حفظتها الذاكرة كما يحفظ المرء أسماء أحبته.
وتسجل في مذكراتها الدور الوطني الكبير الذي قام به الكرد الفيليون في بغداد، خاصة في سوق الشورجة، حيث كان لهم نفوذ اقتصادي ساعد الثوار الكرد سياسيًا وماليًا.
أما عن مشاعرها تجاه أبنائها، فتكتب بفيض من الحنان: “ما كان يصيب أحد أطفالي مرض إلا أصابني معه. كثيرًا ما أمسكت أمي بيدي باكية، وهي ترجوني أن آكل شيئًا حفاظًا على صحتي، فأجيبها: لا أستطيع أن أبتلع لقمة وطفلي يتألم.”
وعلى الرغم من أن المجتمع الشرقي ظلّ أسيرًا لفكرة تفضيل الذكور، فإن الاستاذ  إبراهيم أحمد كان يرى في ابنته هيرو امتدادًا له. وقد صدقت نبوءته حين غدت هيرو رمزًا في الحياة السياسية والثقافية، خصوصًا بعد مرض ووفاة زوجها الرئيس جلال طالباني.
وفي مذكّراتها عن ثورة 14 تموز 1958، تذكر گەلاوێژخان اللحظة التي سمع فيها العراقيون لأول مرة من إذاعة بغداد: “هنا إذاعة الجمهورية العراقية.” ثم تمضي لتسرد وقائع الثورة الكردية، وتفاصيل صعود الرئيس جلال طالباني كزعيم شاب، حتى صار وجهًا مألوفًا واسمًا حاضرًا في وجدان الناس.
وتتوقف مطولًا عند شخصية معروفة باسم اڕەئیس كمال مفتي ودوره البطولي في عمليات حاسمة قرب جبال حمرين، حين كانت الثورة في أوجها. وقد أكّد لي والدي، شيخ رؤوف كێلەبەرزە، أنه كان شاهدًا علي تلك الأحداث، وأنها ستبقي محفورة في الذاكرة الوطنية.
ولئن أكدت گەلاوێژخان أنها لم تكن حزبية ولا سياسية، فإنها كانت ناطقة بلسان الوطنية الصادقة، مؤمنة أن وحدة الكرد فوق كل خلاف: “قد نختلف في الرأى، لكن لا ينبغي أن ينكسر صفّنا أمام العدو.”
وفي خاتمة الكتاب، نقرأ نماذج من شعرها العفوي، الذي وإن لم تعتبر نفسها شاعرة، فقد عبّر عن حبها العميق لكردستان:
كردستان، يا حبي الأبدي
بعد الله، بكَ أستجير
فيك وجداني، وإليك حنيني
أنتَ أرض الآباء والأجداد
ومهوي قلوب الشهداء والمحرومين.

Scroll to Top