إسحاق الشعير
في قامشلو، تلك المدينة التي تتكئ على فسيفساء الألوان البشرية والذاكرة الحية، وُلد نور الدين صوفي، ابن الأرض التي تنبت من ترابها الحكايات كما تنبت القمح والقطن. لم يكن ميلاده حدثًا عابرًا في سجل المدينة، وإن كان صامتًا في يومه الأول، إلا أن حياته تحوّلت فيما بعد إلى صوت عالٍ في سجل النضال.
عام 1989، التحق نور الدين بكلية “ر. ف. ك”. في حلب، حاملاً معه أحلام شابٍ يبحث عن المعرفة، لكنه لم يجد نفسه بين الجدران الجامدة للمحاضرات، فقد كانت روحُه تطلب ميدانًا أوسع، حيث تتقاطع الحكاية مع الفعل، والحلم مع التضحية. وبعد عام واحد فقط، في 1990، اتخذ قراره المصيري، تاركًا مقاعد الدراسة ليلتحق بصفوف حزب العمال الكردستاني، مدفوعًا بإيمان عميق بقضية شعبه، وإحساسٍ متقد بضرورة النضال.
وفي تلك المرحلة، حظي بفرصة استثنائية للتدريب والتأهيل تحت إشراف القائد الأممي عبد الله أوجلان، حيث لم تكن التدريبات عسكرية فقط، بل كانت مدرسة فكرية وفلسفية فتحت أمامه آفاقًا جديدة لفهم الحرية، والعدالة الاجتماعية، ودور الفرد في خدمة مجتمعه. لقد تأثر بعمق بفلسفة القائد أوجلان القائمة على حرية المرأة، وأخوة الشعوب، والديمقراطية القاعدية، فأصبحت هذه المبادئ ميثاقًا شخصيًا يرافقه في كل خطوة.
في صفوف الحزب، خاض سنوات طويلة من النضال المسلح والسياسي، تدرج خلالها حتى بلغ مستوى قيادة القوات العسكرية، وهو موقع لا يمنحه الحزب إلا لمن خبر الساحات، وامتحنته الليالي الطويلة، وجعلته التجربة أكثر حكمة وصلابة.
لكن ما جعل اسمه محفورًا في ذاكرة الثورة السورية، هو أنه كان من أوائل الذين عادوا إلى الوطن مع بدايات أحداث عام 2011، حين كانت البلاد تغلي بالأسئلة والمخاطر. لم تكن عودته خطوة عاطفية، بل كانت خطة مدروسة لاستثمار خبرته العسكرية في حماية الأرض والناس. فقد كان من أصحاب البصمة الأولى في تشكيل وحدات حماية الشعب (YPG)، واضعًا أسسها العسكرية والتنظيمية، قبل أن يشارك في وضع اللبنات الأولى لتأسيس قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي أصبحت لاحقًا أحد أبرز القوى الميدانية في الصراع السوري.
النضال من أجل الحرية، كما عرفه نور الدين، ليس شعارًا يرفع في المناسبات، بل هو فعل يومي، يبدأ من الذات وينتهي بالآخرين. هو صبر على العوز، وثبات أمام الخوف، واستعداد لأن يدفع الإنسان أثمن ما يملك من أجل أن يحيا الآخرون بكرامة. في قاموسه، لم تكن الحرية مجرد كلمة، بل كانت خبزًا على موائد الفقراء، ومدرسةً مفتوحةً للأطفال، وبيتًا دافئًا لكل مشرّد.
كان يدرك أن طريقه محفوف بالموت، وأن كل يوم يعيشه قد يكون الأخير، لكنه كان يبتسم، كأن الموت عبور نحو المعنى الأكبر. وفي ساحات القتال، لم يكن قائدًا يأمر من بعيد، بل كان في المقدمة، يشارك جنوده البرد والجوع والخطر. وهذه خصيصة جوهرية من خصائص المناضلين الحقيقيين: “أن يقودوا بالقدوة لا بالكلمات”.
وليس غريبًا أن نرى في مسيرته انعكاسًا لسير مناضلين آخرين من شعوب مختلفة. فغاندي في الهند لم يحمل سلاحًا، لكنه حمل عزيمة كسرت عروش الاستعمار البريطاني، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا قضى 27 عامًا في السجن ليخرج ويكمل درب العدالة والمساواة.
ورامون ميركادير في أميركا اللاتينية، كانوا جميعًا على يقين بأن الحرية ليست خيارًا شخصيًا، بل قدراً جماعياً. المشترك بينهم جميعًا، وبين نور الدين، هو الإيمان العميق بأن الإنسان لا يُقاس بعمره أو بماله، بل بمقدار ما يقدمه من أجل قضية عادلة.
النضال من أجل الحرية عبر التاريخ يتسم بخصائص لا تتغير، مهما تغيّرت الأزمنة:
. الإيمان بالحق: مناضل مثل نور الدين لا يخرج إلى الميدان إلا لأنه يوقن أن قضيته عادلة، وهذا اليقين هو وقود الصبر عند اشتداد المحنة.
. التضحية الشخصية: الاستعداد للتنازل عن الراحة والأمان والحياة الخاصة، تمامًا كما فعل الشهداء من فيتنام حتى الجزائر.
. القدوة العملية: القيادة بالمثال، وهي ميزة جعلت قادة الثورة الجزائرية ورجال المقاومة الفرنسية رموزًا خالدة.
. رؤية أوسع من الذات: النضال ليس للمناضل وحده، بل لأجيال لم تولد بعد، وهذا ما جعل نور الدين يسير في خطٍ يرى المستقبل بعين الحاضر.
وفي عام 2021، ترجل الفارس عن صهوة الحياة، ليعتلي صهوة الخلود شهيدًا كما عاش، مرفوع الرأس، تاركًا إرثًا من الشجاعة والإيمان العميق بعدالة القضية، ومبادئ راسخة استقاها من مدرسة القائد عبد الله أوجلان الفكرية. لكن رحيله لم يكن غيابًا، بل تحوّل إلى حضور آخر، حضور في الذاكرة الجماعية التي تحفظ أسماء الذين جعلوا حياتهم جسرًا لعبور الآخرين إلى ضفة الأمان. لقد كان أحد أولئك الذين وصفهم محمود درويش حين قال: “الشهيد يحضر عند غيابه، ويغيب عند حضوره”.
في رثائه، لا نملك سوى أن نرفع رؤوسنا فخرًا، ونعاهد روحه أننا سنواصل الدرب الذي شقّه بعرقه ودمه. فالحرية التي حلم بها ليست منحة تُعطى، بل ثمرة تُنتزع، ووصيته كانت واضحة: لا تتوقفوا.
سلام على روحه في علياء الشهداء، وسلام على الأمهات اللواتي أنجبن رجالًا يعرفون أن أعظم ما يمكن أن يقدمه الإنسان هو حياته، إذا كانت ثمناً لحرية شعبه. نور الدين صوفي لم يكن اسماً، بل كان فعلًا في زمن كثرت فيه الأقوال وقلّت الأفعال.
صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=73751