رستم محمود
في كل تفصيل من بنودها العشرة، فإن مذكرة التفاهم الموقعة مؤخراً بين كل من السويد وفنلندا مع تركيا، ثمة تطابق مع مذكرات واتفاقيات نظيرة، كانت تركيا وقعتها مع أنظمة دولٍ قمعية، مثل سوريا والعراق.
ففي مختلف هذه المعاهدات ثمة إقرار بالأولوية القطعية لأمن الدولة التركية، ورغم كل ما تمثله من نظام دولاتي، قائم قومية شمولية وعسكرة مطلقة، تقمع الحريات وتنتهك أبسط قواعد مساواة الجماعات، وتمحق أكثر حقوق الإنسان أولية وبداهة، كالحق في اللغة الأم، وتحمل على يدها دماء إبادة العديد من الشعوب وإخراجها من التاريخ، مثل الأرمن والسريان واليونان، وراهناً الأكراد، ودون أي شعور بالذنب أو الاستعداد لمراجعة ذلك التاريخ والحاضر.
في هذا المقام، يبدو من العدل القول إن نظامي وحكومتي السويد وفنلندا، اللتين كان يُفاخر بهما باعتبارهما أيقونتا الديمقراطية المثالية على مستوى العالم، قد صارتا فعلياً بمثابة نظامي حزب البعث الشموليين في كل من سوريا والعراق، اللذان كانا يستمدان روحهما القومية المطلقة ومؤسساتهما العسكرية الطاغية من الأب التركي المؤسس لمثل هذه النزعات في منطقتنا.
صحيح، الحكومتان السويدية والفنلندية بعثتا رسائل دعائية لداخلهما، تقول إن مثل هذه الاتفاقية أُقرت تحت الضغط الهائل الذي صارت تشعر به جراء الحرب الروسية على أوكرانيا. وهو فعل آخر مطابق للفعل البعثي، الذي كان يدعي بأن التنازلات لتركيا مصدرها استعداد النظامين للتفرغ لمعركة أكبر، هي “مواجهة إسرائيل”.
على أن الجامع المشترك الأكبر بينهما قائم على إلغاء الضحية، وجوده وحقه المبدئي في مساواة ما، والتحلي ببعض العدالة والحقوق الآدمية، حسب أبسط القيم والمعايير الديمقراطية. الضحية التي هي “الشعب الكردي” في جميع تلك الاتفاقيات، كطريد وطرف مستضعف، يُمكن مبادلته في بازار المداولة بين الأقوياء هؤلاء.
فإذا كانت كُل من السويد وفنلندا تعتبران حزب العمال الكردستاني “تنظيماً إرهابياً”، وتجاوزاً لكل نقاش واجب بشأن ذلك، فما علاقة قوات سوريا الديمقراطية وحزب الاتحاد الديمقراطية بذلك الكرديان السوريان بذلك!!، وهما الجهتان اللتان كانت الدولتان السويدية والفنلندية تعبرهما رأس الحربة في مواجهة الإرهاب وحماية السلام الاجتماعي والأمن القومي للدولتين، حتى قبل أسابيع قليلة، وصارت حسب المُذكرة الموقعة تنظيمات يُحرم التعامل معهما!!.
الأكثر إثارة للاهتمام، هو إعلان الدولتين، حسب المذكرة الموقعة، استعدادهما لإجراء تعديلات في قانونيهما الجنائيين، المنبثقين بالأساس من جوهر نظمِهما الديمقراطية، ليتبدل ويصبح القانون الجنائي في البلدين ويُصبح مطابقاً للإرادة والمعايير التركية، وسعيها الدؤوب لمحق تطلعات شعب كامل. ستقر الدولتان قانونين يسمحان بتسليم فاعلين سياسيين أكراد مقيمين الدولتين، بمن فيهم الحاصلين على حق اللجوء السياسي، وفقط استناداً للتقارير والمعلومات التي سترسلها تركيا عن هذه الشخصيات، حتى لو كانوا فاعلين سياسيين على مستوى الكتابة والنشر وإبداء الرأي والتحركات المدنية!!.
فعلياً، هذه المذكرة، المُنتهكة لكل المعايير والقيم الديمقراطية، ليست بين تركيا والدولتين الإسكندنافيتين فحسب، بل هي بين تركيا ومنظومة “الغرب الديمقراطي”، التي يمثلها حلف الناتو في هذا المقام، راعي المذكرة، والتجلي الأعلى لهذا “الغرب الديمقراطي”، كما يصرح دوماً، ويدعي بأنه منظومة عسكرية لحماية تلك القيم واستطالاتها السياسية والاجتماعية والثقافية والروحية.
لكن المذكرة أيضاً ليست “بيضة الديك” الوحيدة في هذا المقام، بل يكاد تاريخ العلاقة المشتركة بين تركيا الحديثة و”منظومة الغرب الديمقراطي” قائمة منذ قرنٍ كامل على ذلك النوع من التواطؤ المتبادل، حيث تتنازل تلك المنظومة لصالح تركيا دوماً، أياً كان مدى انتهاكها للمعايير والقيم الديمقراطية، التي تعتبرها المنظومة الغربية واحداً من أرفع مقومات علاقتها مع الآخرين.
فهذه المنظومة الغربية غضت النظر فعلياً، ولقرن كامل، عن الحدث التأسيسي للنظام السياسي التركي الحالي، المتمثل في الإبادة الجماعية للشعوب الأرمنية السريانية والهيلينية.
كذلك قادت المنظومة الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى أكبر عملية محق في التاريخ الحديث لصالح تركيا، بعدما سمحت للجيش التركي بمحق نظيره اليوناني عام 1922، وهجرت أكثر من أربعة ملايين يوناني من أراضيهم ومدنهم التاريخية في تركيا الحالية، نحو الأراضي اليونانية.
مع تلكم الحدثين، سمحت نفس المنظومة لتركيا عام 1952 بدخول حلف الناتو، وغضت النظر عن جرائم الدولة التركية في إبادة المنفضين الأكراد من كل حدب، وطوال عقدين كاملين قبل ذلك.
بقيت منظومة الناتو تحتفظ بتركيا عضوا في فضاءها، بالرغم من أن رئيس الوزراء التركي المُنتخب – عدنان مندريس- الذي وقع اتفاقية انضمام تركيا إلى حلف الناتو، قد ذهب به انقلاببو عام 1960 إلى حبل المشنقة، الانقلابيون الذين كانوا من أشد ولاة حلف الناتو، وفي ظلال رعايته.
في عهود لاحقة، تجاوز النظام الحاكم لتركيا كل المعايير والقيم الديمقراطية، أحدث أربعة انقلابات عسكرية، قمع مختلف اشكال الحريات العامة، بما في ذلك حرية الدين والحق في العبادة، أباد الجغرافية والمجتمع الكردي في البلاد، خاض غزوة عسكرية ضد دولة مستقلة هي قبرص، ورعت الدولة خلال عقود طويلة أعتى أنواع العصابات المنظمة، وهكذا كان كُل تفصيل آخر من الحياة العامة داخلها. ومع كل ذلك، بقيت تركيا الطفل المدلل لدى المنظومة الغربية، بكل ما تدعيه من التزام بالديمقراطية وقيمها العُليا كمقياس معياري لعلاقتها مع باقي أطراف العالم.
في العمق، ثمة ثلاثة أفكار ورؤى جوهرانية تُشييد هكذا سلوك من المنظومة الغربية/الديمقراطية تجاه تركيا. أفكار تسمح بخلق مثل هذا الاختلال البنيوي، بين ما تدعيه المنظومة الغربية من مقاييس ديمقراطية، وما تمنحه لتركيا من إمكانية لأن تكون عكس ذلك تماماً.
فتركيا – ومعها دولة ألبانيا- بالنسبة لأعضاء المنظومة الغربية هي الكائن الكياني الوحيد المتدفق إليهم من “سُلالة أخرى”، لا تشبه باقي أعضاء منظومة العالم الديمقراطي، كيان متأت من خارج الجغرافيا الغربية/المسيحية وثقافته وقيم مجتمعه ومنظومته السياسية، تلك الجغرافيات التي شهدت تحولات نهضوية وسياسية واجتماعية شديدة التعقيد والمراكمة والتأثير على البنية الإنسانية طوال ثلاثة قرون مضت.
فضمن فضاء هذا التحالف الغربي/الديمقراطي ثمة إحساس بضرورة غض النظر عن تركيا وأفعالها المنافية للقيم الديمقراطية، لأنها ليست بوارد وإمكانية الالتزام بشيء من تلك المعايير، وأن الإصرار على دفعها لفعل ذلك بالرغم عنها، سيقودها لأن تخرج من هذا النادي تماماً، وهو ما ليس في مصلحة ذلك التحالف.
المسألة الأخرى تتعلق بما تمثله تركيا من أداة موازنة لهذه المنظومة الغربية مع روسيا، التي تشكل الخطر التاريخي الداهم على هذه المنظومة، جغرافيا واقتصاديا وقيميا ومجتمعا، بعدما فقد الإسلام التاريخي تلك المكانة التقليدية في الوعي الغربي.
فجميع الأحداث والاستراتيجيات المتواطئة، التي اتخذتها المنظومة الغربية تجاه تركيا، منذ المساهمة في هزيمة الجيش اليوناني أمام نظيره التركي في العام 1922، وحتى مذكرة التفاهم الأخيرة بين تركيا والدولتين الاسكندنافيتين، يمكن تفسيرهما وقراءتهما في ظلال الحضور والتوازن المطلوب مع روسيا، ومثلها يمكن فهم الأشياء الأخرى كلها.
أخيراً، فإن تركيا في وعي المنظومة الغربية هي الدولة والكيان الأكثر قابلية لخلق تداخل وضبط للعلاقة بين هذه المنظومة الغربية والعالم الإسلامي. فهي وريثة أكبر إمبراطوريات هذا العالم، وأكثر دوله الحديثة خبرة وقدرة على التأثير على مساحات واسعة منه، من القوقاز والبلقان، مروراً بالشرق الأوسط وأواسط آسيا، هذه القيمة المضافة التي تستحق غض نظر كبير عما ترتكبه من تجاوزات، حسب تفكير تلك المنظومة.
تكشف هذه النوعية من علاقة الغرب/الديمقراطي مع تركيا واحدة من أكثر خصائص الديمقراطية الغربية تغليفاً وانطواء، تلك التي تقول: “الديمقراطية جيدة، لكن فقط لنا”.
المصدر: الحرة