نفّذت مقاتلات حربية تركية عند منتصف ليل السبت-الأحد، غارات جوية، استهدفت عدة مواقع في شمال وشرق سوريا، ويبدو من الواضح في هذه الغارات، التركيز على استهداف مدينة كوباني، ذات الرمزية الكردية الخاصة، والتي تحوّلت إلى رمز لمقاومة الإرهاب والتصدي له، كان لها الدور الأكبر في تشكل التحالف الدولي لمحاربة داعش، وتشكيل قوات سوريا الديمقراطية، وتدفق الدعم الدولي لهذه القوات، فضلاً عن تحوّل هذه المدينة إلى قضية رأي عام عالمي، بعد البطولة التي أبداها المقاتلون والمقاتلات الكرد في هذه المدينة، ومنعها من السقوط بيد تنظيم داعش، في الوقت الذي كانت الجيوش النظامية في العراق وسوريا تنسحب من أمامه.

وتأتي هذه الغارات، بعد أيامٍ من حادثة التفجير الذي وقع في شارع الاستقلال وسط إسطنبول، في 13 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، حيث اتهمت تركيا قوات سوريا الديمقراطية بالوقوف وراء التفجير، وتوعدت بالرد واستهداف هذه القوات.

لم تتوقف تركيا عن استهداف المنطقة منذ 2019، على الرغم من اتفاقيتي وقف إطلاق النار بين تركيا وكل من الولايات المتحدة وروسيا، وقد تبدو هذه الغارات الأخيرة استمراراً لهذه الخروقات.

إن حادثة تفجير إسطنبول، التي لا تبدو مقنعة بدرجة كبيرة للكثير من المراقبين، من شأنها دفع تركيا إلى القيام برد فعل – وإن كان ما حدث أمراً مخططاً له – وذلك لحفظ ماء الوجه أمام الداخل التركي من جهة، بسبب ضعف التفاعل مع هذه الحادثة، سواءً داخل تركيا أو على المستوى الدولي، حيث لم يتجاوز هذا التفاعل حدود تصريحات تعبر عن التضامن مع تركيا ومع ذوي الضحايا، ومن جهة أخرى إظهار أنّ تركيا مستهدفة من قبل “الإرهاب”، وبالتالي التبرير لأي عمل عسكري تقوم به في شمال وشرق سوريا، بعد جسّ نبض التحالف الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن إذا تمعنّا في أسباب هذا التصعيد التركي وتوقيته، لوجدناه متزامناً مع ما يجري في إيران من انتفاضة شعبية ضد نظام الجمهورية الإسلامية، منذ ما يقارب ثلاثة أشهر، وتصدر المدن الكردية مشهد هذه الانتفاضة، سيما وأنّ شرارتها انطلقت من هذه المدن، وبات من الواضح أنها تقود صراعاً سلمياً قوياً ومنظماً لإسقاط النظام الإسلامي، ويمتد تأثير هذه المقاومة إلى مختلف المناطق الإيرانية، وبالتالي خلق حالة فريدة من التضامن بين مختلف مكونات الشعب الإيراني، لم تكن تشهدها الحركات الاحتجاجية السابقة.

ففي التوقيت ذاته الذي تحركت فيه الطائرات التركية ضد مناطق سمال وشرق سوريا، كان الشعب الإيراني يطلق نداءات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لنصرة مدينة مهاباد الكردية، التي أصبحت مركز ثقل لهذه الانتفاضة، وذلك بعد ورود أنباء بنقل النظام الإيراني قطعات من الجيش والحرس الثوري إليها، لقمع الاحتجاجات، بهدف السيطرة على الحركات، من خلال إخماد بؤرتها، وذلك نظراً لانعدام أية استراتيجية أخرى لدى السلطات الإيرانية في التصدي للحراك واسع النطاق الذي شمل جميع المحافظات الإيرانية.

تتميز مدينة مهاباد برمزية خاصة في أذهان الشعب الكردي، ففيها تأسست أول جمهورية كردية عام 1946، والتي استمرت لأحد عشر شهراً، بعد تخلي الاتحاد السوفييتي حينها عن دعمها، وإعادة السيطرة عليها من قبل جيش الشاه.

هذه الرمزية اكتسبتها أيضاً مدينة كوباني في الوقت الراهن، بعد تحولها لرمز نضالي ليس في شمال وشرق سوريا وحسب، وإنما في مختلف أرجاء العالم، وقد غذّت مقاومتها تطلعات الشعوب المضطهدة في المنطقة، والتي تسعى إلى التحرر من نير استبداد حكامها.

يمكننا اعتبار كوباني، بشكلٍ من الأشكال، مصدر إلهام للحراك الذي يجري في إيران اليوم أيضاً، فقصص التصدي البطولي للمقاتلات الكرديات لتنظيم داعش، حرّك في نفوس نساء إيران اللاتي يعانين من قمعٍ ظلاميٍّ لا مثيل له من قبل سلطات بلادهنّ، دافع الثورة على النظام الإسلامي، وهذا التأثر والتماهي العميق مع مقاومة كوباني، تجلى في رد فعل النساء الكرديات في شرق إيران، من خلال المظاهرات الحاشدة التي كنّ المغذّي الرئيسي لها، وأصبح شعار “المرأة، الحياة، الحرية” الذي أطلقته النسوة والرجال على حد سواء، خلال مراسم دفن ژینا/مهسا أميني في مدينة سقز، بمحافظة كردستان الإيرانية، شعاراً رئيسياً للحراك النسوي في إيران، فيما بعد.

هذا الشعار هو ذو طابع كردي بحت، وقد انتقل من النساء الكرديات في تركيا، خلال تسعينات القرن الماضي، اللاتي كنّ يتظاهرن ضد قمع الدولة التركية للكرد، وتبنته أيضاً المقاتلات الكرديات في شمال وشرق سوريا خلال محاربتهنّ داعش، لينتقل بعدها إلى كرد إيران، ومنهم إلى عموم الشعب الإيراني المتطلع للحرية.

مما لا شك فيه أنّ النظام الإيراني يدرك جيداً أنّ روح المقاومة لدى الشعب الكردي تتميز عن غيرهم من شعوب إيران، فالكرد كانوا سباقين إلى مناهضة نظام الجمهورية الإسلامية، بُعيد تأسيسه عام 1979، ما دفع الخميني إلى إصدار فتوى الجهاد ضدهم، وشنّ حرب دموية على المناطق الكردية خلفت عشرات الآلاف من الضحايا.

بالتالي سيسعى هذا النظام إلى محاولة السيطرة على الحراك في المناطق الكردية، من خلال القمع، ليتم احتواء المظاهرات في باقي المدن الإيرانية، والتي تقلّ حدتها نسبياً عن المناطق الكردية.

وما يفسر هذا التوجه لدى النظام الإيراني في قمع نواة الاحتجاجات في المناطق الكردية، هو القمع المضاعف لهذه المناطق، وقصف المواقع المحاذية للحدود الإيرانية في إقليم كردستان العراق، واستهداف مقرات الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة، والتي يرى النظام الإيراني أنّ لها دوراً كبيراً في تحريك الشارع الكردي في إيران وتوجيهه. ووصل الأمر إلى تهديد قائد فيلق القدس “إسماعيل قآني” باجتياح بري لمناطق في إقليم كردستان، وذلك خلال زيارته الأخيرة لبغداد.

إذاً، يمكننا فهم مدى تخوّف تركيا من توسع الحراك الشعبي في إيران، سيما وأنّ الكرد يتصدرون هذا الحراك. فالإطاحة بالنظام الإيراني ستعتبر خسارة استراتيجية كبيرة لتركيا، وهذا من شأنه أن يعمل على تعزيز الكابوس التركي فيما يتعلق بالقضية الكردية، سيما إذا تشكل نوع من الحكم الذاتي في كردستان إيران، الأمر الذي سيزيد من مخاوف انتقال التجربة إلى المناطق الكردية في تركيا.

من هنا، نجد أنّ لتركيا والنظام الإيراني في هذه المرحلة هدف واحد رئيسي مشترك، وهو السعي لضرب هذا المشروع في مهده، وبالتالي فإنّ ما يقع على عاتق تركيا في هذه المرحلة، هو التصميم على ضرب الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، والتي يتفق الطرفان التركي والإيراني على الوحدة العضوية بينها وبين أي مشروع ذي طابع كردي آخر.

وعليه، ومن خلال إلقاء نظرة على ما يجري الآن في مدينة مهاباد، وتحشيد القوات العسكرية تمهيداً لقمعها، وعلى ما يجري في مناطق شمال وشرق سوريا، وعلى وجه التحديد مدينة كوباني، لتبيّن لنا أنّ هناك تنسيقاً مكثفاً بين النظامين الإيراني والتركي، والذي قد يزداد مع اتساع رقعة الاحتجاجات في إيران ودخولها مراحل متقدمة.

لكن إلى أي مدى ستتمكن تركيا من توسيع نطاق عملياتها في شمال وشرق سوريا، في ظل وجود الضامنين الروسي والأمريكي، وقوات التحالف الدولي على الأرض؟ هذا ما ستكشفه الأيام القليلة القادمة، بانتظار مواقف هذه الأطراف من هذا التصعيد.

المصدر: مركز الفرات للدراسات

شارك هذه المقالة على المنصات التالية