دجوار أحمد آغا
قلة من الكرد لم تسمع باسم نوري ديرسمي، ابن ديرسم البار، الشخصية الوطنية الثائرة من أجل حقوق الكرد المشروعة، وحامل لواء الدفاع عنهم في مختلف مراحل عمره.
 وديرسم وحدها قصة عشق وحياة، فعندما يتم ذكر ديرسم يذهب خيال، وفكر الإنسان مباشرة الى كردستان، وإلى المقاومة، وسيد رضا، وعلي شير وزوجته ظريفة، نوري ديرسمي، والعشرات لا بل المئات، والآلاف من المقاتلين، والثوار، الذين واجهوا الظلم والاضطهاد، والاحتلال التركي، ورفعوا راية الحرية.
لكن العالم لم يكن مهيأً للكرد كما هو الآن. العالم دوماً يقف إلى جانب القوي، ولم يكن للكرد قوة، ولا من يسندهم ويدعمهم سوى إرادتهم الفولاذية في المقاومة، وفي الحياة بحرية. بينما تركيا كانت دولة ذات جيش مسلح بالمدافع، والدبابات، والطائرات الحربية، حتى أنها استخدمت الأسلحة الكيماوية ضد الثوار المنتفضين في ديرسم، وتم ارتكاب المجازر بحقهم.
بدايات الوعي السياسي
نعود إلى شخصيتنا اليوم المناضل، والثائر الكبير نوري ديرسمي. ولد الدكتور نوري ديرسمي في قرية “أخزونيك” العائدة لولاية ديرسم في باكور كردستان سنة 1894م، لأب يُدّعى إبراهيم، وأم اسمها زليخة. عاش طفولة مثل بقية أطفال عشيرة ملان الكردية.
 لكنه فقد والدته، وهو ما يزال صغيراً، رباه عمه بعد ذلك، تلقى تعليمه الأساسي في بلدة “هوزات” الكردستانية.  أكمل دراسته الإعدادية في خاربوط، التي هاجر إليها برفقة والده، حيث بدأ نشاطه السياسي، وهو شاب في مقتبل العمر، فشارك مع زملائه جعفر، وقهرمان، وحيدر ابن تيمور باشا، بتأسيس اتحاد طلبة كردستان واستمر نشاطه حتى المرحلة الثانوية.
أيام إسطنبول
هاجر مع والده إلى إسطنبول المدينة الكبيرة، ومحط أنظار الجميع، حيث درس في كلية الطب البيطري عام 1911 لكن الحرب العالمية الأولى كانت على الأبواب، ونوري كانت ميوله القومية واضحة، لذا أرسلته القيادة العسكرية العثمانية الى جبهة الحرب في الشرق على حدود أذربيجان، هناك أيضاً لم يخلُ الأمر من نشاطات قومية كردية، رغم الحرب المستعرة. فقد تواصل نوري ديرسمي مع الكرد في أذربيجان، وحثهم على عدم خوض الحرب إلى جانب العثمانيين.
غضب القادة العثمانيون من تحركاته، فقاموا بإرساله الى منطقة “كيره سون” على البحر الأسود، ليبعدوه عن الكرد، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، عاد مرة أخرى الى كلية الطب البيطري في إسطنبول، فأنهى دراسته، وتخرّج كطبيب بيطري.
تحضيرات انتفاضة “كوجكيري”
تزوج نوري من ابنة حاجي آغا، وهو أحد وجهاء منطقة ديرسم، واستمر في عمله السياسي، فانضم الى جمعية (تعالي وترقي كردستان) وساهم في التحضيرات التي كانت تجري على قدم وساق للقيام بانتفاضة كردية في منطقة “كوجكيري” حيث استطاع أن يؤمن 1500 بندقية حربية، وقام بتوزيعها على الكرد في إسطنبول. هذه التحركات أثارت حفيظة العثمانيين مجدداً، وقاموا باعتقاله لكنه استطاع الهرب منهم بمساعدة رئيس الديوان الحربي نمرود مصطفى الكردي الأصل.
حاول مصطفى كمال (أتاتورك) استمالته إلى جانبه في حربه المسماة “حرب الاستقلال” من خلال مراسلته وطلب اللقاء معه خلال فترة وجوده في سيواس، لكنه رفض عقد اللقاء الأمر، الذي تسبب في اعتقاله مرة أخرى وهذه المرة من جانب والي سيواس بتأثير مباشر من مصطفى كمال.
لكنه استطاع التحرر من السجن، والالتحاق بصفوف الثوار في انتفاضة “كوجكيري” التي قام بدور كبير فيها.
بعد فشل الانتفاضة أصدر العثمانيون حكم الإعدام عليه بتاريخ 25 حزيران 1921م، لكنه استطاع الوصول الى منطقة ديرسم الحصينة والعصية على العدو.
دوره في انتفاضة ديرسم
كان سيد رضا يستعد للقيام بثورة عارمة ضد المحتل. تم تكليفه بالتواصل مع العشائر وحثها للانضمام إلى الثورة. فقام بأداء عمله على أكمل وجه، حيث بدأ بتعبئة الجماهير من أجل الثورة وتعليمهم اللغة الأم الكردية.  خلال انتفاضة ديرسم 1936 / 1937 كان له دور بارز في العمليات القتالية، وفي إحدى غارات دولة الاحتلال التركي الوحشية سقط ابنه الوحيد “علي” شهيداً. تألم كثيراً لذلك لكنه استمر في ممارسة واجباته بكل تفانٍ وإخلاص. لدى اشتداد المعارك والقصف التركي الهمجي، قرر قائد الثورة سيد رضا إرساله الى الخارج؛ لتوضيح ما يجري من إبادة، ومجازر بحق الكرد للعالم. لكنه تراجع فيما بعد عن قراره خشية أن تقوم الدول الأوروبية بتسليمه إلى الأتراك، وقرر إرساله إلى سوريا التي دخلها في 11 أيلول 1937م.
الانتقال الى سوريا
سوريا وقتذاك كانت تحت الانتداب الفرنسي، وقررت فرنسا تسليمه إلى الأتراك في بادئ الأمر، لكنها عدلت عن قرارها فيما بعد، وطلب منه مندوب الانتداب الفرنسي، أن يذهب الى الأردن، بالفعل توجه الدكتور ديرسمي إلى عمان، وبقي حتى عام 1940حيث عاد واستقر في مدينة حلب السورية، بعد أن حصل على الجنسية السورية بفضل وجود وثيقة لديه تثبت أنه من لواء إسكندرون.
لم يهدأ الدكتور نوري ديرسمي، ولم يتوقف عن النضال من أجل شعبه وقضية وطنه المحتل، حيث بدأ في العمل على تأليف كتاب سماه (ديرسم في تاريخ كردستان) كيف لا وهو شاهد حي على كل ما جرى من فظائع وأهوال بحق أبناء جلدته على يد العثمانيين، ومن بعدهم الأتراك. طبع كتابه في مطابع حلب سنة 1952م، وأسس جمعية “المعرفة والتعاون الكردي” عام 1956 مع حسن هشيار، عثمان أفندي، روشن بدرخان، حيدر حيدر. حيث عملت هذه الجمعية على تطوير وإنماء اللغة، وآداب، وتاريخ الكرد، وقامت بطباعة، ونشر العديد من البحوث، والمقالات عن تاريخ الكرد وكردستان.
وفاته ووصيته المقدسة
طوال عمره، الذي ناهز 81 عاماً، خدم قضية شعبه ووطنه إلى أن وافته المنية في الثاني والعشرين من آب عام 1973م، في مدينة حلب حيث دفن جثمانه في مقبرة “زيارة حنان” الواقعة على طريق حلب -عفرين، بناء على وصيته، فكان قد أعد بنفسه قبراً له ولزوجته منذ عام 1963م. كما أوصى بأن يمر موكب جنازته أمام القنصلية التركية في حلب، وأن يوضع تحت رأسه حفنة من تراب مسقط رأسه ديرسم. يُذكر أن زوجته فريدة قد توفيت عام 1991م، وتم دفنها إلى جانبه حسب وصيته.
الاعتداء على الضريح
بعد الاحتلال الجائر لمنطقة عفرين لدولة الاحتلال التركي ومرتزقتها، قام جيش الاحتلال التركي بتدنيس مزار حنان التاريخي، والذي يقع جنوب قرية “مشعلة” على الطريق العام حلب – عفرين من خلال عمليات التخريب الممنهج بحق المزارات، والآثار العريقة في المنطقة، وكل ما يمت بصلة إلى تاريخ الكرد، مثلما تقوم بتدنيس مزارات الشهداء في باكور كردستان والمناطق، التي تحتلها، قامت هنا أيضاً بتخريب ضريح الدكتور نوري ديرسمي، ولأنها تريد الانتقام منه بعد وفاته، لأنها لم تستطع أن تنزع شعلة الروح القومية وحب الوطن، والقضية من قلبه، وهو حي.

​المصدر: صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية