من سوء حظ الشعب الكوردي أنهم ابتلوا بأنظمة ضعيفة في نفسها، غير واثقة من ذاتها، خبيثة وفاسدة إلى حد التخمة، خالية من الروح العاقلة غارقة في الأوبئة الفكرية، تحاول تغطيتها باضطهاد كل من يخالفها الرأي، والكورد في كل مواقفهم يصنفون في الطرف الأخر، لذا يحكمون عليهم بمنطق الأعداء، فيجدون الاضطهاد سبيلهم الأوحد للحفاظ على السلطة، علما أن الأنظمة العصرية الواثقة من نفسها لا تحتاج إلى ذلك حتى ضد الخارجين عنهم.
تعددت الآراء في المجتمع الكوردي حول معظم القضايا، رغم إيجابياتها لكنها لم تجتمع حول القضية القومية، وظلت الروح العاقلة غائبة، فلم تبلغ مرحلة تحديد موقف سياسي صحيح من الأنظمة المحتلة، المنوهة إليها، فشلت في تقديم مشروع مشترك وطني متكامل، و لا يزال التفرد في القرارات وتسيير الأمور الداخلية والتعامل الخارجي مهيمنا، وهو ما قد يكون من عوامل خسارة المكتسبات التي حصل عليها الشعب الكوردي خلال العقدين الماضيين.
فرغم تكاثر الأحزاب، ظلت عاجزة في توضيح الهدف، والغاية من تكوينها، أغلبهم تاهوا ما بين النظرية والواقع العملي، بدأت تتزايد النزعة الإقليمية وعزلها عن القضية الكوردستانية، وأصبحت تختفي سماتها للقوى الخارجية كما وجعلوها ضبابية في الداخل، مثلما تناولتها قوى الإدارة الذاتية تحت منهجية الأمة الديمقراطية والتعامل الإنساني مع جميع المكونات القومية، فعلت مثلها الأحزاب في العقود الماضية أو المنضوية تحت خيمة المجلس الوطني الكوردي وتحت حجج متنوعة لتلافي ظلم الأنظمة الإجرامية، إلى أن تناسوا الجدلية البسيطة وهي أن القضية يجب أن تطرح بكليتها وتدرس في المحافل الدولية كما تطرحها الحركات التحررية الوطنية عادة، لكن الكوردستانية بدأت تتراجع كلما رفعت سقف الخلافات الداخلية، وعلى خلفيتها ازداد تهميش القوى الكبرى لهم مع تصاعد لهجة التخوين والطعن في البعض، ومعها تفاقمت عنجهية الأنظمة المحتلة واضطهادها دون رد فعل مناسب من العالم الخارجي.
مع كل ذلك نأمل من الحراك الكوردستاني والأحزاب الكبرى حصراً، التركيز على توعية المجتمع، ومواجهة الأنظمة المحتلة، بتشكيل المؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ودعم الموجودة والتي معظمها نتاج أعمال فردية أو لبعض الأشخاص الغيورين على الوطن والقضية، وجلهم يعتمدون على إمكانياتهم المادية شبه المعدومة.
فمن أحد معضلات الأقطاب الحزبية، التركيز على تجميع الأحزاب ضمن طرفين، وتكوين الذات مع غياب المؤسسات العصرية. ففي غربي كوردستان، طرف يفرض الإيديولوجية على القضية، ويسخر خامات الشعب الكوردي لإقناع الأخرين بمفاهيمه، وأخر يتباهى بالتحالفات الخارجية مع أداة تخدم المحتل، ويأمل أن يخرج بقضيته الحزبية وليست القومية إلى العالم الخارجي من خلال نشاطات تلك الأداة. وهذا العبث من دلالات غياب الروح العاقلة، المصطلح الذي استخدمه ماركوس أوريليوس قبل ألفي عام، فالحركات التحررية الناجحة هي التي ملكت العقل الواعي الشامل، والروح الكوردية العاقلة هي التي ترى وتشكل ذاتها بمؤسسات متنوعة، وتجتاز عالم الأنظمة المحتلة بحنكة سياسية لتحقيق غايتها.
كثرة الأحزاب قد تكون حالة صحية فيما لو اهتمت بالسياسة واتفقت على هدف واحد وأدركت أن المحتلين الذين أخذوا الأرض وغيروا الديمغرافية الكوردية في الأجزاء الأربعة، ويسيطرون على المسيرة السياسية، ويعمقون الخلافات الداخلية، لكنهم لم يتمكنوا حتى اليوم من سلب الإرادة، وهو ما يجب أن تساعدهم لتسخير الروح الكوردستانية الحرة العاقلة لتصحيح كل ما عبث به المتربصون بالأمة، وإعادة تركيبة ما خلفوه من السلبيات في الشارع الكوردي، وهذه من أولويات الحراك الثقافي، والذي يجب تناولها بالنقد الحكيم، حيث النصيحة غير الجارحة، والتنوير الخالي من منطق المحاضرة أو انتزاع إعجاب القراء، ونعني بها الشريحة الرصينة، قدوة الكتاب والنقاد الذين تخلى كلماتهم من العصبية والغضب، وتتحلى بالمرونة والحكمة.
ليس سهلا عليهم الانتقال من منهجية التحزب إلى ممارسة السياسة حيث الروح العاقلة والتي تتحكم في إرادة الإنسان، وعواطفه، بدونها تسود العشوائية والفوضى، وهو ما يعيشه اليوم حراكنا الحزبي، الذي ورغم العقود الطويلة من هيمنة مدارسها، لا زالت تدرس على أن السياسة نفاق وخدع، مع تقصير تأثير العقل المبصر على المجتمع.
ففيما لو تمكنت الأحزاب الكوردية في غرب وجنوب كوردستان، التحرر من الذهنية الكلاسيكية، ووضعت فاصل بين ممارسة التحزب والعمل السياسي، وعرفت متى يجب ممارسة أي الحالتين، لملكت قدرات إنقاذ ذاتها والشعب من الصراعات الداخلية، ولن يكون صعبا عليهم الاتفاق على القضايا الوطنية، وإيجاد الحلول لخلافاتهم، ولتمكنوا من خلق نواة قوة ذاتية بمستويات دولية، وكل الأطراف ستنجح وتتقدم حتى ولو استمروا على خلافاتهم الفكرية، علما أن عالم الخلافات يعوم ما بين الجنون والعقل، إما أن تدمر وتخلق الحروب والكوارث، أو تبني الحضارة وتطور المجتمعات.
نطالب المجلس الوطني الكوردي والـ ب ي د، بفتح أبواب الحوارات، وتشكيل لجان متنوعة تبحث في القضايا المعيشية والوطنية وعلى كل المستويات شريطة أن تملك قدرة القرار دون العودة إلى القيادة بعد كل اتفاق، ويجب ألا تقف الاجتماعات الدورية حتى ولو خرجوا خالي الوفاض بعد كل لقاء، ويتطلب من اللجان المنتخبة للحوارات التحلي بمنطق قبول الأخر، فعدم قدرة الاتفاق على أبسط الأمور نابعة من هيمنة ذهنية السلطة الحزبية على المدارك السياسية، وهي لا تختلف عن ذهنية الأنظمة الشمولية. ففي الأولى تنعدم المصالح الوطنية وفي الثانية تعوم وتنعدم المصالح الذاتية والحزبية.
وخير مثال على ما يعانيه غرب كوردستان، التجربة التي مرت على جنوب كوردستان قبل فترة، وعدم أتفاق أحزابها الكبرى هناك على دخول الانتخابات بقوائم مشتركة، مفضلين المصلحة الحزبية على الوطنية والتي عكست ضحالة الروح العاقلة، وجهالتهم بعالم السياسة رغم ادعائهم ممارستها. لولا الأنانية الحزبية لتمكنوا من السيطرة المطلقة على محافظتي كركوك والموصل، ولتمكنوا من إعادة المناطق المتنازعة عليها إلى الحاضنة الكوردستانية، وهي ذاتها في غربي كوردستان، لو اجتمعت واتفقت على بعض النقاط واشتركت في بعض المجالات التنظيمية والإدارية لقطعت الحجج عن ادعاءات المحتل التركي على أنه يحارب حزب الـ ب ي د والعمال الكوردستاني، وليس الشعب الكوردي.
للأسف وفي الجزأين، خبراتهم الواسعة في الصراع الحزبي، وإخراجها على العامة بالوجه السياسي، تعدم الآمال بحاضر ناجح، وتعتم دروب المستقبل، ولتفاديها يجب التركيز على تنمية الروح الكوردستانية العاقلة، والتي سترسخ ما حصل عليه شعبنا من المكتسبات، وستزيد من احتمالات تطوير وتوسيع الموجودة، ومن أهم جزئياتها الانتقال من التعامل بين بعضهم بالذهنية الحزبية إلى المنطق السياسي.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
20/12/2024

شارك هذه المقالة على المنصات التالية