(بداية تحياتي لكم وأعتذر عن التأخير في الكتابة إليكم لأسباب صحية حيث أجريت عملية جراحية في القلب، وهاأنذا أعود إليكم مع الحب الكثير)

نظرا لطول المقال سيقسم إلى أجزاء مناسبة

(1) مفهوم التغريب:

يمكن تتبع موضوع التغريب بسهولة في معظم الروايات والقصص الشرقية وبالأخص العربية منها، مما يوضح كون الثيمة ظاهرة اجتماعية منتشرة في المجتمع الشرق أوسطي بغض النظر عن السلبيات أو الإيجابيات الناتجة عن التغريب.

ويرجع تغريب الفرد الأيزيدي وكذلك العائلة الأيزيدية الشابة على الأكثر إلى التأثر الكبير بالحضارة الغربية (الأوربية) الحديثة، وكذلك خلو بيئته الأصلية من مظاهر التمدن والمدنية، فنراه يسمع أو يقرأ أو يشاهد مظاهر التمدن والتحرر ولا يقدر أن يمارسها فيشعر بعقدة حاجة الحصول على تلك الخدمات، وممارسة تلك المظاهر وإن كانت غريبة عليه فيساير ذلك المجتمع وينغمس في ثقافته وأسلوب عيشه حال الدخول إليه حتى ينسى نفسه.

أما مفهوم التغريب في الغرب نفسه يختلف عمّا هو متداول ومتعارف عليه في الشرق، فهم يعترونه اندماجا، ومرافقة المجتمع في تقدمه وتطوره وإتقان لغته هو جزء من مدّ يد العون للغريب القادم إليهم لأسباب شتى.

(2) تأصيل التغريب والنوستاليجا:

ونرى فكرة التغريب أو محاولة الاندماج متأصلة في وجدان بطل رواية (تحت سماء داعش) فبدلا عن توطئة أو تقديم الرواية نرى الروائي (صلاح رفو) ـ وهذا هو عمله الأول متمنيا له الاستمرار في رفد المكتبة الأيزيدية بالمزيد من الأعمال الأدبية الراقية ـ أقول نراه يرتمي في حضن التغريب ـ وهذا ما أثار اهتماني قبل كل شيء ـ ويبدأ بالقول على لسان (خديدا) بطل الرواية:

“الشريط يمر أمام عيني الآن سريعا كسرعة قطار ألماني، ودهشتي الآن لا تقل عن دهشتي عند رؤيتي لقطار ICE)) وسرعته الهائلة لأول مرة عند دخولي الأراضي الألمانية”.

ويعترف البطل ـ وهو شاب هارب من ظلم الوطن له:

“لا وجع يشبه وجعي، ولا ألم أشد من ألمي”. وهو بهذا التصريح المرير يحاول اختزال حال جميع الهاربين والمهجرين من شعبه المسكين إلى أوربا الله الواسعة.

وفي نفس الصفحة الأولى وقبل أن نفقد (خيط أريان) الأسطوري عند مرافقته في مغامرته، وكأنه يريد أن يرينا نوستاليجا واضحة متمثلة بالوجه الآخر للعملة المعدنية التي يحملها. لا كما بطل فلم (شعلى) ـ جاي ـ الذي طوال الفلم كان يخدع صديقه ويخدعنا معه. لا فالوجه الآخر لا يشبه الوجه الأول فهو لا يحمل رأسا وإنما معبدا وأشجارا وماء، وبطريقة (الفلاش باك) يرجعنا لإيام وأحداث ماضية: وهو يتحدث عن خميرة الأرض (لالش) المعبد والمزار والطقوس اليومية التي ترافق حياة المريد في ساعات النهار داخل المعبد حاجا كان أم زائرا.

البطل في قرارة نفسه يتمنى لو يصبح أوربيا وهو متهيأ نفسيا لذلك فنراه يقول: “السيدة (بيجيك) التي رحبت بي كما ترحب الأم بابنها الضال”.

فهل الأم اعتبرت الشاب أبنها الضال؟

أم الشاب أعتبر نفسه أبنها الضال؟

إنه الشاب من يعتبر نفسه ابنا ضالا وقد رجع إلى حضن أمه ووطنه الذي طالما حلم به وفي رأي هذه أقوى عبارة في الرواية كلها فهي تلخص معاناتنا منذ سقوط بابل في عام 539 قبل الميلاد إلى وقت تهديم شنكال في 2014 ميلادي.

قد يفهم قارئ هذه الرواية وخاصة إذا كان غريبا وبعيدا عن الشعب الأيزيدي في العراق إن بطل هذه الرواية مزدوج الشخصية، وبالتالي فالفرد الأيزيدي يشبهه إلى حد بعيد ويحمل صفاته. ونرى البطل يمارس حياته ـ منذ اليوم الأول لغربته ـ كفرد يحاول التسلق على ما هو متاح له ومسموح له قانونا دون اعتبارات أخلاقية وروحيه شرقية يرجع إليها.

وفي الحقيقة هذا هو حال أكثر من %90 من المهاجرين الشباب فهم ذو وجهين حيث أنهم في النهار يلتزمون بالقوانين ويحاولون أن يكونوا ألمان أكثر من الألمان أنفسهم. يقول بطل الرواية في فصل (بداية القصة):

” بعد أن أنهيت كورسات اللغة الألمانية باجتهاد ومثابرة قروي بحاجة لإثبات نفسه في مجتمع متمدن”. ويصرح في فصل (آميلا) قائلا:

“نعم، لست إيطاليا، ولكن أي شخص يأتي إلى هذا المكان يصبح إيطاليا.

وفي المساء تراهم يجتمعون ويشربون ويسمعون آخر أغاني (دخيل أوصمان) الشعبية ويبكون ويتواصلون مع من تبقى في الوطن.

(3) أسباب التغريب:

هنالك أسباب عامة تشمل المجتمع ككل، وهناك أسباب خاصة يحملها كل شخص وبالتالي تتكون منه شخصيته الجديدة. وطبعا لبطل الرواية أيضا أسبابه الخاصة يعلنها في فصل (درس في التاريخ) قائلا:

” أنت لا تعرفين شيئا عن حياة الشرقيين وطريقة عيشهم، ونظرتهم غير المنصفة للآخر! كل الشعوب هناك يا حبيبتي تحتاج للتأهيل والانتشال من ذلك الواقع المزري الذي يعيشونه”.

نراه في الأساس غير راض عن حياة أهله البسيطة وطريقتهم وفلسفتهم في الحياة، أو على الأقل يرغب في تغيير نمط حياته وبشدّة.

“لا أود أن أكون جاحدا، ولكنني أستغرب من حجم الكآبة التي تنتابني أنا أقترب من الحدود البلدية لقضاء سنجار (فصل الأرض الكئيبة)”.

وإذا رجعنا إلى فصل (درس في التاريخ) نراه يقول مع نفسه:

“لا تعلم (آميلا) أني أنتمي لديانة مغلقة غير تبشيرية لا تقبل بالآخر جزءا منها مهما علا شأنه أو أيمانه بالمجموعة”.

قد يرجع تزحلق الشاب المهاجر في مستنقع التغريب رغم الفوائد الآنية التي سيجنيها إلى تمسك الأوربيين أنفسهم بأسلوب حياتهم حيث نرى صاحب المطعم الإيطالي التي يعمل (خديدا) فيه يقول له:

“سأطلق عليك اسما إيطاليا خفيفا وليكن (توتو) كي لا يتفاجأ الناس من اسمك”.

يتجلى انغماس (خديدا) في الغربة في سرد كيفية إعداد طبق سمك الزيزونكي الغريبة الشكل: ” نقشر الحراشف بسرعة ثم نخلع جلدها بسحبة واحدة؛ ليتم طهوها بقطعة زبدة كرويتا صغيرة على نار هادئة…”. هنا ربمّا القارئ يتساءل: أليس من الأجدى أن يتحدث البطل عن السمك المسكوف الذي يرجع تاريخ إعداده إلى العصر السومري الأول.

بات (خديدا) يشعر بأنه حقق أولى أهدافه في الغربة وذلك بالتساهل في لبس ثوب التغريب بل تعدى الأمر بكسره وتجاوزه التابوهات بتناوله (الخس) وبتقليم شاربه وارتداء اللون الأزرق بل تجاوزها جميعا بممارسة الجنس مع فتاة من ديانة أخرى.

(4) عود على بدء:

لا يمكن للفرد أن ينسى أو يتخلى عن بعض المبادئ والعادات التي شبّ عليها، وخاصة إذا ترعرع في مجتمع ريفي قاسي فنرى بطل الرواية مع كل التغيرات التي طرأت على شخصيته، يؤمن بالأيزيدياتي ومبادئ الأيزيدياتي مثل التناسخ مثلا فنراه يقول في فصل (أخبار غير منتظرة):

“لا أعرف ما المغزى بأن نكون معا في لحظات الوداع هذه أو في نهاية دورة الحياة الأخيرة لكائن ما… “. وكذلك نراه متمسكا بالطيبة والتسامح مع وضوح بوادر الكرم لديه، ففي فصل (الشقة الأليفة) يقول:

“وبمبادرة عفوية مني استغلها أغلب أصدقائي في المكوث في شقتي القريبة من مكان عملنا، حتى أصبح الجميع مع مرور الأيام جزء من الشقة ونظامها…”. أي اعتبروها وكأنها شقتهم بمبادرة منه.

وكذلك نرى تعامله مع زملائه الأسرى وأسلوب حديثه معهم ينم عم طيبة قلب وسمو أخلاق وهذه تنبت مع الفرد منذ الصغر وتبقى معه للنهاية وهذا هو ديدن الأيزيدي أينما ذهب. وهذا يقودنا إلى التساؤل التالي في الفقرة التالية:

(5) من هو المهاجر (المهجر) الأيزيدي؟

ربمّا هذه الفقرة هي خلاصة للعديد من المقالات والدراسات التي نشرتها حول الفرد الأيزيدي وكينونته، وبالاعتماد على ما ورد في أحداث وفصول رواية (تحت سماء داعش) لصديقي المرهف الحسّ (صلاح رفو) يمكنني تقسيم زمن المهاجر الأيزيدي إلى مرحلتين:

أولا: مرحلة ما قبل الهجرة:

وفيها يتحضر للهجرة بكل ما أوتي من قوة وحيلة خاصة بعد ما حث له في الثالث من آب 2014 ونراه قد هيأ ذاته نفسيا ليكون جزءا من العالم الأوروبي الغربي دون رغبة منه في الرجوع للديار. وبالتالي نرى هذا الأمر وقد أصبح ظاهرة اجتماعية يصعب اجتثاثها من المجتمع الذي هو نفسه يمر بمرحلة قلقة نتيجة ما حدث له. بل نرى بعض الأفراد والعوائل من غير المجتمع الشنكالي يستغلون الأمر ويهاجرون باعتبارهم شنكاليون أو أيزيديون وخاصة المجتمعات الكردية المسلمة في الشمال.

ولا مانع لدى بطل الرواية أن يتحدث بسلبية واضحة عن مجتمعه الذي تركه دون رجعة: ” أنت لا تعرفين شيئا عن حياة الشرقيين وطريقة عيشهم، ونظرتهم غير المنصفة للآخر! كل الشعوب هناك يا حبيبتي تحتاج للتأهيل والانتشال من ذلك الواقع المزري الذي يعيشونه… من فصل (درس في التاريخ) “.

” أستغرب من حجم الكآبة التي تنتابني أنا أقترب من الحدود البلدية لقضاء سنجار… من فصل (الأرض الكئيبة) “أنتمي لديانة مغلقة غير تبشيرية لا تقبل بالآخر… من فصل (درس في التاريخ) “.

ثانيا: مرحلة ما بعد الوصول للمنافي:

وفيها ينسلخ الأيزيدي من مجتمعه القديم ويرمي جلده ليبدأ حياة جديدة بأسلوب حياة جديدة تماما كما فعل (خديدا) بطل الرواية وهذا ضوء ساطع سلطه الروائي على بؤرة غير مرغوب في إظهارها من قبل المجتمع في مجتمعه الذي تخلص للتو من ظلم الوطن والجيران، وربما لا يدري (خديدا) بانه زاد الطين بلة بتخليه عمّا كان يملكه من صفات نقية ودم نقي وهو بذلك كان قد حافظ على نفسه ومجتمعه طوال هذه السنوات نقيا صادقا مخلصا للأيزيدياتي التي مات في سبيله مئات الآلاف على عدد الفرامين التي تعرض له.

هذا هو الجيل الأول من المهاجرين الشنكاليين إلى أوربا وبالذات إلى ألمانيا:

“لا يمكن لأفضل الأفلام السريالية والغريبة أن تضاهي قصتي هذه. هكذا يصرح بطل الرواية المهاجر في بداية فصل (تحت سماء داعش)”. أما الجيل الثاني أي أولاد المهاجرين فستراهم لن يختلفوا عن الألمان بشيء في تسيير أمور حياتهم ولن يختلفوا عن أي ملحد في عدم الاعتراف بأديان ومذاهب تحدد وتؤطر منهج حياتهم المبني على الانفلات في بلاد الحرية. نرى البطل يعترف في فصل (الأرض الكئيبة):

“… سرعان ما اكتشفت إن البيئة وطبيعة عمل الناس تغيّر معظم الطباع التي أعتاد عليها المرء… فأرى السؤال عن طبيعة عملي وما أجنيه من نقود وعلاقتي بالجنس الآخر أسئلة ملغمة لا معنى لها…”.

(6) قراءتي لرواية (تحت سماء داعش):

بداية قد تكون شهادتي بما كتبته أنامل (صلاح رفو) مجروحة فهو صديق عزيز له مواقف شهمة معي في بداية الفرمان علينا، ومع ذلك تناولت ثيمة التغريب لما لها وضوح وبروز في الرواية أولا وهو موضوع تناوله العزيز صلاح بجرأة لا يجرؤ الآخر أن يفكر به رغم أنه يمارسه يوميا وهذه سابقة يزيح فيها الكاتب الغشاء عن عيوننا لنرى أنفسنا عراة أمام مرآة الواقع، فمرحى صلاح.

أنا نفسي لست ناقدا، بل قارئ. وربمّا يجد آخرون ثيمات أخرى في متن الرواية تستحق الكتابة عنها ومناقشة وتحليل ما حدث فيها فالرواية نفسها وثيقة إدانة واقعية وحقيقية تحتوي على مواقع وأسماء لأماكن حقيقية يمكن استخدامها ضد (داعش) في المحاكم المحلية والدولية.

ولو سألتني كقارئ محترف يقرأ ليكتب: ماهي نقاط ضعف الرواية فسأقول لك رغم إنه العمل الأدبي الأول للكاتب إلا إننا نرى فيه أحيانا شيئا من التقريرية، وكذلك تلك النصوص المكتوبة بالكردية كان يمكن الاكتفاء بالترجمة العربية لها.

(تحت سماء داعش) تضعك كمهاجر سواء كنت من ضمن ال %10 المحافظ وربما الأقل من هذه النسبة فلدي حكاية هنا بهذه المناسبة:

لدي صديق عزيز وهو كاتب وباحث أيزيدي مرموق ومعروف يسكن مدينة بيليفيلد قال لي بالحرف الواحد (رغم وجود الآلاف من الملة في هذه المدينة إلا إن المرء يحتار أحيانا أن يصاحب مَنْ للذهاب إلى مكان ما!!!)  أو ضمن ال %90 تضعك هذه الرواية تحت رحمة مرآة واقعك الذي اخترته بنفسك.

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية