الكرد والدولة في إيران : تشكيل الهوية الكردية
مراجعة: محمد شمدين
عنوان الكتاب بالانكليزية: Kurds and The State in Iran_ The Making Of Kurdish Identity
الكاتب: عباس ولي *
دار آي. بي. توريس للنشر عام 2011
عدد الصفحات: 225
تتناول هذه الدراسة تشكل وتطور الهوية الوطنية الكردية في إيران الحديثة، منذ نشأتها في العصر الدستوري إلى تطورها في ظل الحكم البهلوي، وصولاً الى نضجها في الجمهورية الكردية التي تمثلت في تجربة مهاباد عام 1946. يتناول عباس ولي بشكل رئيسي تشكيل القومية الكردية في إيران.
يتألف الكتاب من خمسة فصول. في الجزء الأول، يشرح تشكيل وأصول الهوية القومية الكردية في إيران. وفي الجزء الثاني، يناقش ظهور (Komalay Jiyanaway/ كوملاي جياناواي واختصارا Komalay JK) والطريق إلى جمهورية مهاباد. في الجزء الثالث، يناقش تأسيس جمهورية مهاباد وقوتها السياسية. وفي الفصل الرابع، يشرح التناقضات في خطاب الجمهورية. أما في الجزء الأخير، يتم تقديم تقييمات عامة لمجمل المراحل السابقة.
ورغم أن الأحداث التي تشكل محور هذه الدراسة وقعت في الماضي، فإن عمل ولي ليس تاريخياً، كما لا يهدف إلى تقديم تاريخ لتشكل وتطور القومية الكردية في إيران بالفترة الواقعة بين أعوام 1905 – 1947. يقدّم الكتاب رؤية “أنطولوجيا للحاضر”، ويركّز على الأحداث التي تشكلها الصراعات بين السلطة السيادية الإيرانية وبين المجتمع الكردي لأجل بسط هيمنة الدولة، والوقوف تالياً على دلالات ذلك في المجالات السياسية والثقافية والعسكرية.
يتقدم الكتاب زمنياً ليناقش المخاض الكردي ابتداءً من الفترة البهلوية وحتى انهيار جمهورية كردستان “جمهورية مهاباد”. أما من الناحية المنهجية، فقد تم استخدام التحليل المعمّق للحالات، وفي الجزء الأخير، تم استخدام منهجية علمية لتحليل الخطاب، ذلك أن الكتاب أكاديمي صرف، والمنهج البحثيّ والإطار النظري اللذين اعتمدتهما هذه الدراسة يفترضان دراسة مفهوم الهوية السيادية، أي هوية السلطة السياسية في إيران في الفترة قيد الدراسة. بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام لغة بسيطة يمكن أن تروق لجميع القراء، كذلك تم شرح المصطلحات المستخدمة بوضوح.
ينطلق الكتاب من سؤال كيفية تشكل الهوية الوطنية الكردية في إيران. ولأجل ذلك يراجع ولي القومية الكردية وصور تشكّلها في إيران، ويركز أيضاً على القومية الكردية في إيران. يشير مصطلح كردستان المستخدم في الكتاب إلى المجتمع العرقي اللغوي تحت الحكم الإيراني. ويفسر ولي القومية الكردية بمفهومي “الآخر” و”الثقافة المهيمنة”، حيث تعبّر الثقافة المهيمنة عن الهوية الوطنية الإيرانية التي تشكّلت خلال الفترة البهلوية، فيما مفهوم “الآخر” فيتمثّل في الحالة الكردية، فقد تم استبعاد الكرد إبان صياغة الهوية الوطنية الإيرانية، ويحدد عباس ولي العملية بين الآخر والثقافة المهيمنة على أنها سياسة قمع الآخر/الكرديّ. تقوم الخلفية النظرية للكتاب على النهج البنائي، حيث أن الهوية مثلاً، التي يشير إليها النهج البنائي، يتم تفسيرها من خلال مفاهيم الهوية الوطنية وفي ضوء الماضي.
مصطلح “كردستان“
إن مصطلح “كردستان” المستخدم في هذه الدراسة يشير إلى مجتمع عرقي لغوي خاضع للسيادة الإيرانية. يفتقر المصطلح إلى حدود جغرافية محددة، ولا يتمتع بوحدة قانونية سياسية ككيان إداري إقليمي متماسك، كما يفتقر إلى السلطة لإصدار عمليات وممارسات إدارية واجتماعية وثقافية موحدة.
إن أولوية الاختلاف الإثني اللغوي في عملية بناء المجتمع الكردي تعني أن الإثنية واللغة الكرديتين كانتا بالفعل من مبادئ الشرعية السياسية التي حددت شروط لقائها بالسلطة السيادية قبل ظهور الجمهورية الكردية في عام 1946. وكانت تلك السلطة السيادية قد استهدفت بالفعل الاختلاف الإثني اللغوي، فيما تجلّت المقاومة الكردية لاستراتيجيات الهيمنة والسيطرة في النضال من أجل الدفاع عن الحقوق الإثنية واللغوية. وهذا الدفاع عن الإثنية واللغة الكرديتين من منظور خطاب الحقوق “الحقوق الطبيعية” يعني أنهما كانا بالفعل قيد الاستحضار والنشر كمبادئ للشرعية السياسية داخل المجتمع الكردي (ص 2)، ولهذه الحجة آثار مهمة على تصورات الإثنية والأمة وفق هذه الدراسة.
إن القومية لا تربط بين الإثنية والحقوق فحسب، بل تربط أيضاً بين الحقوق وشكل السلطة. ولكن لنفترض أن القومية تشكل الإثنية كمبدأ للشرعية السياسية. وفي هذه الحالة، إذا كانت القومية تخدم في صياغة علاقة مفاهيمية بين الحقوق والسلطة في عملية النضال القومي، فإن ذلك يعني أن نتيجة هذه العملية لابد وأن تشكلها القومية أيضاً. وهذا يعني أن الأمة لابد وأن تُدرَك وتُحلَّل وتُنظَّر على مستوى القومية. وهذه الحجة النظرية تدعم المفاهيم البنائية للأمة في الفكر السياسي والاجتماعي المعاصر. ويزعم البنائيون أن القومية لها الأولوية باعتبارها السبب الرئيسي لظهور الأمة والهوية الوطنية. وبالنسبة لهم، فإن الأمة هي نتيجة للسياسة القومية، واختراع سياسي، وبالتالي فهي ظاهرة حديثة. وتشكل حداثة الأمة والهوية الوطنية السمة المميزة لجميع المناهج البنائية في التعامل مع أصول القومية (ص 3).
خلال نقده البارز في مقدمة الكتاب، يتجاهل ولي عملية التطور في مرحلة الحداثة. إن المركزية وتعزيز السلطة التي ينتقدها هي جوهر الحداثة. ولهذا السبب، فإن الجهود المبذولة لإنشاء أمة واحدة أمر لا مفر منه. وتدعم عمليات التحديث في البلدان الأخرى هذا الرأي. بالإضافة إلى ذلك، لم يتم تضمين آثار الحرب العالمية الثانية وما بعدها في المنطقة بشكل كافٍ في الدراسة. وخاصة الصراع البريطاني والسوفييتي في المنطقة تم تجاهله.
ينقسم الكتاب الى خمسة فصول:
في الفصل الأول، يشرح المؤلف أصول القومية الكردية التي يجدها في أدبيات ثورة الشيخ عبيد الله النهري. يرى الكاتب أن:
القومية الكردية في إيران ظاهرة حديثة، وهي نتيجة للاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الناجمة عن الحداثة الفاسدة والمنحرفة، التي أعقبت ظهور الحكم المطلق البهلوي بعد الحرب العالمية الأولى، وردود الفعل الكردية لسياسات إيران كانت في الواقع نتيجة لسياسات إيران حيث حددت الردود الكردية لسياسات المركزية الإقليمية والعملية الثقافية لبناء هوية “وطنية” إيرانية موحدة التي انتهجتها الدولة البهلوية الظروف الخطابية وغير الخطابية لتشكيل الحركة القومية، التي بلغت ذروتها في جمهورية مهاباد، هذا الطرح في خلاف مع الدراسات التاريخية التي ترجع بأصول القومية الكردية في إيران الى حركة الشيخ عبيد الله النهري (ص 1).
يعارض ولي هذا الفهم التاريخي القائل بأن القومية الكردية في إيران نشأت مع التحديث المشوّه الذي تطور بعد الحكم المطلق البهلوي. وفي هذا الفصل، يشرح ولي بالتفصيل تحديث إيران الذي بدأ في الفترة البهلوية ودستور عام 1906. ويزعم أن الهوية الوطنية كانت في هذه العملية من جانب واحد وأن القومية الكردية نشأت كرد فعل عليها. فضلاً عن ذلك يرى الكاتب أنه لم تنشأ حركة كردية ذات ميول قومية في هذه الفترة. ويستشهد إلى ذلك بأسس المجتمع الكردي كسبب لذلك. والسبب في هذا هو المناطق الكردية المتخلّفة، حيث السكان الحضريون من الطبقات الفقيرة، والزراعة تعتمد على الطبقة المالكة للأراضي. ومع عملية التحديث، أدى نزع سلاح القبائل وإعادة تعريف ملكية الأرض إلى دفع الكرد للمشاركة في الوضع السياسي القائم وفي العملية السياسية. هناك العديد من الأسباب التي تجعل ولي يُرجع ولادة القومية الكردية إلى فترة البهلوية، ففي هذه الفترة، قيل إن اللغة الكردية حظرت كلغة مكتوبة وتم حظر ارتداء الملابس المحلية. باختصار، تم تهميش القيم الثقافية للكرد. أدت هذه السياسات إلى وضع الكرد في موقف “الآخر”. لم يظهر الفكر القومي إلا في أربعينيات القرن العشرين. تعد منظمة كوملاي جياناواي، التي أسسها الكرد البرجوازيون، مؤشراً على ذلك. مع انهيار نظام رضا شاه في عام 1941، ساعدت هذه المنظمة في إعادة تأسيس المجتمع المدني الكردي، وبدأ الكرد يهيمنون على كل المجالات مرة أخرى.
في الفصل الثاني، يناقش الكتاب تحول كوملاي جياناواي إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني والتأثير السوفياتي فيه. هنا، تتم مناقشة وجهات النظر القومية من يمين الوسط والآراء الشعبوية الماركسية. وفقاً لرؤية القوميين من يمين الوسط، فإن الكرد كانوا مجرد بيادق وجزءاً من اللعبة السوفياتية في تشكيل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني. ووفقاً للرأي الشعبوي الماركسي، انحرف الكرد عن الخط الماركسي وخانوا عموم الديمقراطية الشعبية. عن هذه المرحلة، يقول ولي إنه لا يمكن التوصل إلى استنتاج بشأن البنية الطبقية ومصالح الطبقة المتوسطة الكردية، حيث إن:
“الرأي القومي السائد يرى أن هذا التحول المشؤوم كان متوافقاً مع التطور الطبيعي للتاريخ والسياسة الكرديتين، وأن الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني تبنى أساسيات المشروع السياسي لكومله ومثّل موقفها الإيديولوجي. إن مسألتي الغياب الملحوظ لخطاب كومله الزراعي ذي الصبغة الشعبية عن الخطاب الموجه حول كردستان، وهي(كومله) الهيئة الرسمية للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، إلى جانب استبعاد أعضاء رئيسيين في اللجنة المركزية (وخاصة رئيسها المثقف عبد الرحمن ذبيحي) من قيادة المنظمة الجديدة، إما أنه يُنظر إليهما على أنهما غير مهمين أو يُعزيان إلى “الظروف المتغيرة”، وهي عبارة شاملة نادراً ما يتم تحديدها في كتابات وخطب القوميين السائدين. إن هذا الرأي، على الرغم من انتشاره بين أعضاء وأنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، منحاز بوضوح. إنها لا تولي اهتماماً كبيراً للظروف السياسية والأيديولوجية التي تحكم عملية التحوّل، ولا تولي اهتماماً كافياً للطريقة التي حددت بها هذه الظروف الخصوصية السياسية والأيديولوجية لنتائجها على الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، ومن ثم الجمهورية. (ص 26)”
من وجهة النظر هذه، ينتقد الكاتب النهج الماركسي لكونه اختزالياً. وباستخدام مصطلحات ولي، فإن العوامل التي تحدد الهوية الوطنية في إيران هي العلاقة بين الذات والآخر. لذلك، لا يمكن تفسيرها وفق “المصلحة الطبقية”. إن البراغماتية السياسية، وليس الإيديولوجية، هي التي تحدد العلاقة السوفياتية – الكردية. إن سياسة السوفيات هي الحفاظ على النظام الاجتماعي والاستقرار السياسي. لذا فقد طوروا التعاون مع بعض قطاعات السكان المحليين. كما مهد نزع سلاح القبائل الذي قام به رضا شاه الطريق لهذا التعاون. بالنسبة للقوميين فإن أفضل طريقة لإبعاد الجيش الإيراني عن المنطقة هي الحماية السوفياتية. وفي هذا القسم، توصل ولي إلى الاستنتاج التالي:
بالاستناد إلى الوثائق الرسمية البريطانية الأمريكية، حيث لا توجد سياسة سوفياتية واحدة وثابتة؛ فالسياسة السوفياتية تتشكل تبعاً للظروف. كما تتأثر علاقات السوفيات السياسية بالكرد بعلاقاتها مع تركيا والعراق، ذلك أن السوفيات رأوا في تركيا حصناً ضد النفوذ الألماني. من ناحية أخرى، كانت تركيا تشك في الأنشطة السوفياتية في كردستان الإيرانية، لذا خشيت تركيا من خلق تأثير مزعزع للاستقرار في مناطقها الشرقية وجنوبها الشرقي (كردستان الشماليّة) . أما العراق فقد خشي أن تؤدي الحركة القومية المتنامية إلى زعزعة استقرار كردستان العراق، لذلك كان العراق يضغط على السوفيات لاستخدام نفوذه في هذه المنطقة.
كانت منظمة كوملاي جياناواي في الأصل عبارة عن تشكيل سياسي محلي. وبعد ذلك، كان هناك اهتمام شديد بالمنظمة من قبل سكان مهاباد. اكتسبت منظمة كومله القوة وأنشأت سلطة سياسية وتعاونت مع ملاك الأراضي والزعماء القبليين. لكنها فشلت في تكوين قاعدة مؤسسية. ولهذا السبب، جرى الإعداد لتشكيل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني. من الملاحظ أن ولي خلال تحقيبه لم يضمّن فترة الحرب العالمية الثانية والفترة التي تلتها في هذا القسم بشكل كافٍ.
في الفصل الثالث من الكتاب، سعى عباس ولي إلى شرح مرحلة تأسيس جمهورية مهاباد والوقوف على بنيتها. إذ تأسست جمهورية مهاباد عام 1946 جنوب أذربيجان، بالقرب من الحدود الإيرانية، ولم تحظَ باعتراف الأمم المتحدة، وقد تم إنشاء هيكلها المؤسسي من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني. تأسس الكيان الكردي في البيئة الآمنة التي وفرها الوجود السوفياتي. بسبب وجود الجيش الأحمر في شمال خط سقز-بانه، حيث تم إبعاد الجيش الإيراني. وفقا لولي، هذا هو التأثير الوحيد للسوفيات على الجمهورية. في الأساس، لا يريد السوفيات إنشاء الجمهورية. ومع ذلك، أعلن قاضي محمد الجمهورية بدعم من الشعب وضغط القوميين. هنا، كان الهدف الرئيسي للسوفيات جعل القوميين الكرد يقبلون الخطة الأذربيجانية، وخطة الأذربيجانيين كانت تطمح لأن يصبح الكرد جزءاً من جمهورية أذربيجان ويعيشون داخل الإدارة الأذربيجانية المحلية تحت الحكم الإيراني.
لم يستطع الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني الصمود أمام الضغوط السوفياتية، لذا قام بتوقيع اتفاقية مع الحكومة الأذربيجانية. وبموجب هذا الاتفاق تم استبعاد الكرد رسمياً من العملية. وانتهت الجمهورية في عام 1947 بانسحاب السوفيات. وفي حياتها القصيرة أظهرت الجمهورية المزيد من سمات الإدارة الحضرية. وكانت السلطة السياسية توفرها وحدات عسكرية صغيرة وعبر فرض الضرائب التي مثّلت مصدر الدخل الرئيسي للجمهورية. لكن البنية الاجتماعية للجمهورية بقيت غير متجانسة. وكان ملاك الأراضي المؤيدين للقومية الكردية يتألفون من البرجوازية الصغيرة المدينيّة والبرجوازية التجارية.
كان السبب وراء ضعف الجمهورية عدم قدرتها على قطع الصلة مع اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني. وقد أدت هذه العلاقة الوثيقة إلى حقيقة مفادها أن مركز القوة ليس في الحكومة، بل في سلطة الحزب.
تمتّعت السلطة السياسية بنفوذ بين القبائل. وقد أدى دور الوحدات العسكرية الصغيرة التي وفرتها القبائل لأن تحظى تلك القبائل بوضع مستقل. ووفقاً لولي، فإن الصراع بين تياري التقليد والحداثة ساهما في تدمير السلطة، وبالتالي لم يكن من الممكن تعزيز الهوية الوطنية:
“إن غلبة القوة العسكرية في بنية السلطة السياسية ضمنت استقلال الزعامات القبلية في الجمهورية. وكان لزاماً على زعامة الجمهورية أن تعترف بهذا الاستقلال (ولو على نحو واقعي) وأن تحاول أن تتصالح مع عواقبه السياسية؛ ولكنها فعلت ذلك بثمن باهظ. ذلك أن الظروف التي ضمنت الاستقلال السياسي لملاك الأراضي القبليين كانت تقوّض أيضاً شروط السيادة السياسية الحديثة في الجمهورية. وكانت الجمهورية الكردية عبارة عن بنية سياسية حديثة تدعمها العلاقات التقليدية. العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، التي كانت قائمة قبل الرأسمالية، قد أجبرت زعاماتها القومية على التنازل عن الشرط الأساسي للهوية الوطنية الحديثة. وكان المشروع السياسي المستقل، الذي تبنته الزعامة الجمهورية رسمياً، بمثابة أساس لهذه التسوية، حيث كان يعبّر عن القوى الحديثة والتقليدية، وليس مجرد استجابة محافظة للظروف الجيوسياسية السائدة. ولقد فشل هذا المشروع في تأمين الظروف اللازمة لتعزيز الهوية الوطنية الناشئة. لقد ظلت الهوية القومية الكردية هشة، رغم أنها استمرت في تأكيد ذاتها في كل حالة من حالات الصراع بين الحداثة والتقاليد التي ميزت صعود الجمهورية وانهيارها. وكان ذلك في قلب حالة الغموض والنشوز الذي ميز الخطاب السياسي وممارسات القيادات.” (ص 81)
أما الفصل الرابع، تم مناقشة مضامين مجلة كردستان التي نشرت 113 عدداً خلال الفترة التي تمتع فيها الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني بالحصانة القانونية وقبل أن يتم حظره وملاحقته من قبل حكومة الشاه. جرى في هذا الفصل مناقشة مفاهيم مثل “القومية الكردية” و”ما هو الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني” و”جمهورية مهاباد” وأيضاً مفاهيم مثل “الهوية والهوية القومية”. في هذا القسم أيضاً، يجد ولي مقداراً من التناقضات في الخطابات والأفعال، فعندما ننظر إلى الفترة المبكرة من عمر المجلة، نشعر بتأثير الثقافة واللغة الفارسية على اللغة المستخدمة في مواد المجلة. ولكن، في الفترات اللاحقة من عمر هذه المجلة، يتضاءل تأثير اللغة والثقافة الفارسية. كما تم تقليص دور وتأثير منظمة كومله، من خلال منحها مساحة صغيرة جداً في مواد المجلة، ويفسر ولي هذه الخطوة، من جانب هيئة التحرير، بأنها محاولة لإزالة أفكار وآثار المنظمة من الذاكرة القومية للأنصار والقراء. في هذا القسم، تم تحليل تطوّر مفاهيم مثل “الأمة الكردية” و”الإدارة الذاتية” والقومية الاثنية ومعاداة الإمبريالية:
“إن الخطاب الناشئ المناهض للإمبريالية، على الرغم من بدائيته، استلزم تشكيلاً جديداً للعلاقات والقوى الاجتماعية والسياسية، وتصوراً جديداً للصديق والعدو على المستوى العالمي، الذين تم تحديد هويتهم من حيث علاقتهم الحقيقية أو المفترضة بالإمبريالية. وبهذا المعنى، بدا الأمر وكأن الخطاب الناشئ المناهض للإمبريالية يمكن أن يوفر أرضية سياسية جديدة لإعادة تعريف الهوية الوطنية الكردية. ذلك أنه، على الرغم من شكله البدائي، لم يتردد في إعادة تعريف العلاقة بين الشعب الكردي والدولة الإيرانية من خلال وضع الأخيرة في المعسكر الإمبريالي، في معسكر “الآخر” العالمي الجديد. ولكن التناقض الشعبي الإمبريالي، الذي حدد حدود الذات والآخر في سياق السياسة العالمية الجديدة، لم يتمكن من توفير الأساس النظري الضروري لإعادة تعريف الهوية الوطنية الكردية. وذلك لأن تعريف التناقض في السياق الإيراني افترض تمييزاً مفاهيمياً وسياسياً واضحاً بين الشعب/الأمة والدولة/الحكومة. لقد تم تصور الشعب الإيراني/الأمة الإيرانية وتم تمثيلها كعنصر مكون للكتلة المناهضة للإمبريالية، وهي قوة متجانسة سياسياً، تتميز داخلياً بالعلاقات العرقية. هذه العلاقات، التي حددت حدود المجتمعين الفارسي والكردي داخل الأمة الإيرانية، كانت خاضعة بشكل أكبر لمقتضيات التناقضات الشعبية الإمبريالية. وبالتالي، بدا الأمر وكأن الخطاب المناهض للإمبريالية لا يمكنه تعريف العلاقة بين المجتمعين الكردي والفارسي إلا من منظور عرقي بحت، من حيث العلاقة بين مجتمعات عرقية أقلية وأغلبية تتقاسم على ما يبدو مصيراً سياسياً مشتركاً: إقامة دولة ديمقراطية شعبية في إيران”. (ص 105)
وفي الفصل الخامس والختامي، أجرى ولي تحليلاً للاستبداد البهلوي، أو بعبارة أخرى، السلطة السيادية. ويعرّف ولي القومية الكردية بأنها عملية تحول من مجتمع لغوي ثقافي إلى مجتمع إثني. ومن المفيد لإعادة قراءة هذا الفصل الختامي عرض بعض الاقتباسات التي تعكس رأي وتحليل عباس ولي في ما تمّ عرضه وتحليله في الأقسام الأربعة السابقة:
“لقد كانت عملية تشكيل الهوية الكردية مدعومة بالتحول التاريخي للمجتمع الكردي من مجتمع لغوي في المقام الأول قبل الثورة الدستورية عام 1905 إلى مجتمع إثني في ظل الحكم المطلق البهلوي في ثلاثينيات القرن العشرين. وقد بدأت الدولة الحديثة في إيران هذا التحول الحاسم وكان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بجهودها الرامية إلى إنشاء هيكل سياسي وقانوني وإداري مركزي، وبناء هوية وطنية إيرانية موحدة. وكانت العلاقة التاريخية بين تطور الدولة الحديثة والهياكل المتغيرة للمجتمع الكردي هي القوة الرئيسية في ديناميكيات الحركة القومية الكردية التي ولدت في عامي 1941 و1942 بمدينة مهاباد واستمرت في الانتشار في المنطقة خلال السنوات التالية.” (ص 114) ويتشكل هذا التحول تبعاً لمسار تطور السلطة السيادية، والهدف من السلطة السيادية هنا هو الاستبعاد، كما أن التحديث هو محض مشروع للسيطرة على الآخر:
“إن العمليات والممارسات السياسية والثقافية التي ضمنت تسييس العرقية واللغة الكردية أدت في الوقت نفسه إلى تحويل حدود المجتمع الكردي، وإعادة تعريفه على أسس جديدة. إن مفهوم الهوية في الاختلاف الذي تم نشره في هذه الدراسة يشير إلى الدور التكويني للاختلاف في بناء الهويات السيادية والكردية. لكن العرقيات الفارسية والكردية، والاختلافات التكوينية للهويات الكردية والإيرانية على التوالي، تم وضعها في علاقة إنكار-اعتراف، وقمع-مقاومة من خلال العمليات والممارسات السياسية والثقافية التي نشرتها القوة السيادية لتأمين الهيمنة في المجتمع الكردي. “(ص 126)
في نهاية عمله هذا يصل ولي إلى نتيجة متوجهاً بها إلى النخب الإيرانية العلمانية منها والدينية، بقوله:
“إن الاعتراف الديمقراطي بالاختلاف والحقوق المدنية والديمقراطية المترتبة على ذلك أمر ضروري إذا كان للديمقراطية أن تتغلب على المشاكل السياسية والقانونية والثقافية الأساسية الناجمة عن التعريف العرقي للسلطة السيادية والهوية في مجتمع متعدد الجنسيات والثقافات مثل إيران. فإن الديمقراطية الجمهورية التي تم تصميمها على أساس النظريات الجوهرية للديمقراطية على غرار فرنسا لا تقدم إجابة على المشاكل السياسية والقانونية والثقافية التي تدعم وتعيد إنتاج القضية الكردية في إيران. وستظل القضية الكردية قائمة ما دامت العلاقة النظرية والقانونية السياسية التي تربط الهوية السيادية بقوة بالعرقية والثقافة السائدتين لم تنقطع. إن كسر هذه الصلة وإنهاء هذه العلاقة المشؤومة من شأنها أن تبيّن الطريق إلى حل ديمقراطي للقضية الكردية في إيران.” (ص 137)
لكن، في المقابل يشرح الكاتب معاني تجربة جمهورية مهاباد بالنسبة للكرد جميعهم متوجهاً بذلك للكرد ولغيرهم بالقول:
“إن انهيار الجمهورية لا يقدم لهم (الكرد) درساً تاريخياً فحسب. فهو بالنسبة لهم ليس مجرد حدث وقع في الماضي، بل إنه أيضاً حدث يعيش في الحاضر، ويحرك فيهم ليس الذكريات فحسب، بل وأيضاً الخطابات والممارسات الراهنة. ومن خلال هذا الحدث يفكرون في ماضيهم، ويواجهون حاضرهم ويتخيلون مستقبلهم. الجمهورية هي العلامة التي يعيشون تحتها حياتهم كمقاومة ونضال. وهذا النضال والمقاومة يشكلان الخيط المشترك الذي يمر عبر حياتهم، ويعطي الوحدة لمجتمعهم والتماسك لتاريخهم. إن استمرار نضالهم هو تعبير عن رغبتهم غير المحققة في الحرية. إن رواية النضال باعتباره رغبة غير محققة في الحرية تؤكد على ضرورة قوة الكفاح من أجل الحرية. وهي تشير إلى أن القوة هي جوهر الحرية، وأن الحرية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الممارسات التاريخية المشبعة بالقوة. إن الوضع الحالي للكردي، وإنكار هويته وقمعه، هو فقط الذي يعطي معنى لسعيه إلى الحرية. إن الحرية تنشأ من هذه العلاقة المتعارضة، وهي بالتالي مشبعة بالقوة. والحرية لا تنشأ في غياب القوة. ولا ينبغي للكرد أن يسمحوا لحقيقة هذا الدرس أن يمر عليهم مرة أخرى. ويتعين عليهم أن يعززوا من قدراتهم إذا كانوا يريدون أن يُسمع صوتهم في إيران الديمقراطية” (ص128)
في بنية الدراسة وطابعها العام
إن كتاب (الكرد والدولة الايرانية)، يشرح تشكل الهوية القومية الكردية في إيران بشكل وافٍ، فوفقاً لـولي، فإن الهوية القومية الكردية في إيران هي في الأساس هوية حديثة. وقد نشأت علاقة الذات بالآخر مع هذه الهوية. وباستخدام النهج البنائي، يشير ولي إلى مفهومي الهوية والهوية القومية.
إن هذه الدراسة كتاب أكاديمي من حيث الأسلوب والإطار المفاهيمي، كما أن الكاتب حاول أن يثبت ذلك من خلال شرحه لحججه ونظريته في بداية الكتاب وعرضه لمراجعه. إن العلاقة التي جهد ولي لتبيانها بين الذات والآخر/السلطة السيادية هو الأمر الذي يجعل العمل فريداً من نوعه. وبطبيعة الحال، فإن حقيقة أن عباس والي آتٍ من منطقة مهاباد التي يعرفها جيداً يشكل عاملاً مساعداً لتقديم رؤية أكثر شمولاً. ولهذا السبب، تقدم هذه الدراسة مساهمة مهمة في الأدبيات حول القومية الكردية، وتأثيرات مفاهيم الدولة والأمة والقومية والهوية الإثنية، والتي تتجاوز النظريات العرقية والبنائية الحالية، مما يجعلها قراءة أساسية لأي شخص مهتم بالكرد أو تطور الهويات القومية والدولة في الشرق الأوسط. وسيكون الكتاب، مع إطاره العام، مصدراً مهماً للدراسات حول القومية الكردية، وخاصة ذلك الذي يخص تطوّر القومية الكردية في إيران.
*عباس ولي Abbas Vali) ) مفكر وباحث سياسي واجتماعي كردي-إيراني متخصص في الفكر السياسي الحديث والمعاصر وسياسة الشرق الأوسط الجديث، عمل أستاذاً في قسم العلاقات الدولية بجامعة ويلز وعمل استاذاً لعلم الاجتماع السياسي في عدة جامعات. من مؤلفاته: إيران قبل الرأسمالية تاريخ نظري، 1993- أبحاث في منشأ القومية الكردية، 2003 – الحداثة واللادولة: الكرد والسلطة في إيران، 2005.
المصدر: المركز الكردي للدراسات
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=52255