الخميس, يناير 30, 2025

عفرين: التقرير السنوي لـ تآزر حول الاعتقال التعسفي، الإخفاء القسري، والتعذيب خلال عام 2024

مقدّمة:

في أيلول/سبتمبر 2024، قرر “شيروان” العودة إلى مسقط رأسه في عفرين بعد سنوات قضاها كمُهجّر في حلب. كانت عودته مشحونةً بالأمل، رغم إدراكه لتعقيدات الوضع الأمني والإنساني في المنطقة التي تخضع منذ عام 2018 لسيطرة “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا. لكنه لم يكن يتوقع أن تكون عودته بداية لتجربة قاسية غيّرت مسار حياته بشكل مأساوي.[1]

فور وصوله إلى عفرين، اعتُقل “شيروان” على يد عناصر من “الجيش الوطني” وتمّ اقتياده إلى وجهة مجهولة، لتبدأ رحلته مع المعاناة، في غياب أي إجراء قانوني أو حق للدفاع عن نفسه. على مدار الأيام الخمسة الأولى من احتجازه، تعرض لتعذيب جسدي ونفسي شديدين، شمل الضرب بالعصي والخراطيم البلاستيكية، مصحوباً بإهانات وشتائم مستمرة، إلى جانب الحرمان من الطعام والماء، في ظروف اعتقال غير إنسانية. زاد الأمر سوءاً تعرضه للتهديد والترويع المستمر، حيث كان يُوقَظ ليلاً بإلقاء دلاء من الماء البارد عليه.

ورغم كل هذه الانتهاكات، لم تُوجه له أي تهمة رسمية. كان السؤال الوحيد الموجه له يدور حول علاقة مزعومة بـ “قوات سوريا الديمقراطية (قسد)”، وهو ما نفاه بشكل قاطع، مؤكداً أنه لا علاقة له بأي جهة سياسية أو عسكرية.

بعد عشرين يوماً من الاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي، أُطلق سراح “شيروان” دون تقديم أي تفسير أو اعتذار. تُرك في أحد شوارع عفرين، وهو في حالة نفسية وجسدية مزرية. كانت آثار التعذيب بادية على جسده، أما الصدمة النفسية فكانت أعمق وأشد إيلاماً. صرح “شيروان” لاحقاً بأنه ظل عاجزاً عن الحديث عن معاناته لعدة أيام، وكأن لسانه انعقد من شدة الصدمة.

اليوم، لا يزال شيروان يعاني من آثار نفسية عميقة، أبرزها القلق والخوف المستمر. قصته ليست استثناءً، بل هي صورة مصغرة لانتهاكات واسعة النطاق تُمارس ضد المدنيين في عفرين، حيث باتت الاعتقالات التعسفية والتعذيب والاختفاء القسري ظواهر يومية في ظل غياب المساءلة القانونية.

سياق أوسع لانتهاكات منهجية:

خلال عام 2024، وثقت رابطة “تآزر” اعتقال 527 شخصاً، بينهم 15 طفلاً و41 امرأة في مناطق عفرين على يد فصائل “الجيش الوطني السوري”. شاركت قوات الأمن والاستخبارات التركية في 49 حالة اعتقال. حتى نهاية عام 2024، تمّ الإفراج عن 115 شخصاً فقط بعد دفع ذويهم فدى مالية باهظة، بينما لا يزال 412 محتجزاً مجهولي المصير.

شهد شهر كانون الأول/ديسمبر ذروة حالات الاعتقال، حيث سُجلت 152 حالة اعتقال، وهو ما يمثل قرابة ثلث إجمالي الحالات خلال عام 2024. ورغم سقوط “النظام السوري” في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 وإطلاق سراح آلاف السجناء والسجينات من سجونه، استمرت فصائل “الجيش الوطني السوري” في اعتقال المدنيين، وخاصة الكُرد العائدين إلى ديارهم.

وفي تطور لافت، شهد “سجن الراعي” في ريف حلب في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، عملية فرار جماعي لأكثر من 300 محتجز، بينهم نساء حوامل. نفذ المعتقلون استعصاء داخلياً، تمكنوا خلاله من كسر أقفال الزنازين والهرب. الغالبية العظمى من الفارين هم من كُرد عفرين الذين تعرضوا لانتهاكات مروعة على يد فصائل “الجيش الوطني”.

هذا الاستعصاء جاء نتيجة الإحباط من قرار العفو العام الصادر عن “الحكومة السورية المؤقتة” التابعة للائتلاف الوطني السوري “المُعارض”، حيث لم يشمل العفو معظم المحتجزين/ات الكُرد، الذين استمر احتجازهم دون محاكمة أو تهمة واضحة. ردّاً على ذلك، أضرب المئات عن الطعام ونفذوا العصيان الذي انتهى بالفرار الجماعي.

اكتسب “سجن الراعي” سمعته السيئة نتيجة ممارسات التعذيب والانتهاكات الممنهجة التي تُرتكب داخله، حيث شهد مقتل العديد من المحتجزين تحت التعذيب، في مشهد يُعيد إلى الأذهان أساليب وأدوات التعذيب التي كانت تُمارَس في مراكز الاحتجاز التابعة للأجهزة الأمنية السورية. شهادات عديدة من الناجين/ات أكدت أن هذا السجن يمثل أحد أبرز الأمثلة على غياب القانون واستمرار المعاناة الإنسانية في المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المدعومة من تركيا.

بموجب قرار العفو العام، أُفرج عن عشرات المحتجزين/ات من سجون “الجيش الوطني” في مناطق مختلفة، بما في ذلك سجن معراته، سجن راجو، وسجن أعزاز. ومع ذلك، يثار تساؤل حول نزاهة تطبيق القرار، بسبب استثنائه العديد من المعتقلين الكُرد واستمرار ممارسات الاحتجاز التعسفي، فضلاً عن غياب الشفافية بشأن المعايير المتبعة للإفراج.

تعكس هذه الانتهاكات استمرار حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن في المناطق التي تحتلها تركيا في شمال سوريا، وغياب العدالة والمساءلة؛ إذ أن عدم وجود آليات انتصاف فعالة للضحايا يعني أن الجناة والمنتهكين يظلون بعيدين عن المساءلة، مما يشجع على استمرار هذه الانتهاكات، في ظل عجز أو عدم رغبة النظام القضائي في تلك المناطق في التعامل مع هذه التجاوزات بشكل عادل وفعال.

لم يقُم “الجيش الوطني السوري” بالتحقيق في ممارسات قواته، التي تستمر في اعتقال المدنيين، إخفائهم قسراً، وانتهاك حقوقهم، كما لم تفعل الحكومة التركية، التي تمارس السلطة والقيادة الفعلية على تلك القوات، ما يكفي لتغيير سلوكها التعسفي، بل يتضح في كثير من الحالات أنها كانت شريكة في ارتكاب تلك الانتهاكات.

لذا فإن الانتهاكات التي ترتكبها فصائل “الجيش الوطني السوري” قد تنطوي على مسؤولية جنائية للقادة العسكريين الأتراك الذين كانوا على علم بالجرائم أو كان ينبغي أن يكونوا على علم بها، أو لم يتخذوا جميع التدابير اللازمة والمعقولة لمنع أو قمع ارتكابها.

بصفتها قوة احتلال، على السلطات التركية ضمان عدم قيام مسؤوليها ومن تحت قيادتهم في “الجيش الوطني السوري” باحتجاز أي شخص تعسفياً أو إساءة معاملته، كما أنها ملزمة بالتحقيق في الانتهاكات المزعومة وضمان معاقبة المسؤولين عنها بالشكل المناسب.

في المجمل، يعكس تكرار هذه الحوادث وجود بيئة قمعية لا تُشجع على العودة الطوعية والآمنة للنازحين والمهجرين قسرياً إلى مناطقهم التي تحتلها تركيا، مما يؤدي إلى استمرار النزوح وعدم الاستقرار الاجتماعي في المنطقة.

تصاعد وتيرة الاعتقالات في عفرين عام 2024:

شهدت مناطق عفرين خلال عام 2024 زيادة ملحوظة في وتيرة الاعتقالات التعسفية، حيث وثقت رابطة “تآزر” ما لا يقل عن 527 حالة اعتقال، بينهم 15 طفلاً و41 امرأة. بالمقارنة مع العام 2023، يظهر ارتفاع بنسبة 57% في أعداد المعتقلين، حيث تمّ توثيق 336 حالة اعتقال خلال ذلك العام، شملت 20 امرأة و15 طفلاً.

روى الناجون من هذه الاعتقالات أنهم تعرضوا لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وتلقت رابطة “تآزر” بلاغات من عائلات كثيرة طُلب منها دفع فدى مالية مقابل إطلاق سراح أحبائهم. في إحدى الحالات طُلب من ذوي محتجز دفع مبلغ 100 ألف دولار أمريكي لإطلاق سراحه، بينما تراوحت المبالغ في حالات ابتزاز أخرى بين 2000 و8000 دولار.

تشير هذه الوقائع إلى أن الاعتقالات التعسفية في عفرين تُستخدم كأداة للابتزاز المادي، إضافةً إلى ممارسة الضغط على السكان لإجبارهم على إخلاء ممتلكاتهم، لا سيما مزارع الزيتون التي تمثل مصدر رزق أساسي لآلاف العائلات. تُفرض الفدى المالية على الأهالي تحت التهديد، وغالباً ما يستمر احتجاز ذويهم حتى يتم دفع المبالغ المطلوبة أو جزء كبير منها، بعد عمليات تفاوض. وصرّح أفراد عائلات ثلاثة محتجزين كُرد لرابطة “تآزر” إن أحبّاءهم ما زالوا رهن الاحتجاز، حيث يتعمد قادة “الجيش الوطني” إخفاء مصيرهم ومكان وجودهم نتيجة عجز عائلاتهم عن دفع الفدى المالية المطلوبة.

تركزت الاعتقالات التعسفية في مدينة عفرين التي سجلت النسبة الأعلى بواقع 176 حالة، تلتها ناحية جنديرس بـ 116 حالة، بينما توزعت بقية الاعتقالات على مناطق أخرى، حيث شهدت ناحية شيراوا 81 حالة، وراجو 45 حالة، ومعبطلي/موباتا 34 حالة، وبلبل 33 حالة، وشيه/شيخ حديد 30 حالة، وشران 12 حالة.

تنوعت الجهات المسؤولة عن تنفيذ الاعتقالات التعسفية في عفرين خلال عام 2024، بما في ذلك قوات “الشرطة العسكرية”، الشرطة المدنية، القوات المشتركة (تقودها فرقة الحمزة وفرقة السلطان سليمان شاه – العمشات)، وفرقة السلطان مراد. كما ساهمت قوات الأمن والاستخبارات التركية في تنفيذ 49 حالة اعتقال.

استندت رابطة “تآزر” في توثيقها لهذه الانتهاكات على شبكة باحثيها الميدانيين، وشهادات ذوي المعتقلين وشهود العيان، بالإضافة إلى التحقق من المعلومات المتوفرة عبر المصادر المفتوحة. على الرغم من الجهود المبذولة، تُقدّر الرابطة أنّ العدد الحقيقي للاعتقالات قد يكون أعلى مما تمّ توثيقه والتحقق منه، بسبب التحديات الميدانية وغياب الشفافية.

تكشف هذه الإحصائيات عن استمرار تدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية في عفرين، حيث يستخدم “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا الاعتقال كوسيلة للقمع والابتزاز، كما أنّ استمرار غياب المساءلة يُفاقم معاناة المدنيين.

الاعتقال كنمط ممنهج واسع النطاق:

وثّقت رابطة “تآزر” في العديد من تقاريرها استمرار ظاهرة الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، حيث نشرت في 23 كانون الأول/ديسمبر 2024 تقريراً بعنوان “العدالة المفقودة وثّقت فيه النمط المنهجي والمستمر من الاحتجاز التعسفي، الإخفاء القسري، والتعذيب، الذي تُمارسه فصائل “الجيش الوطني” المدعومة من تركيا في شمال سوريا.

كما قدمت الرابطة رسالة إلى الإجراءات الخاصة بمجلس حقوق الإنسان بشأن الاحتجاز التعسفي والتعذيب في شمال سوريا، تدعو فيها الأمم المتحدة إلى إعطاء هذه القضية أولوية قصوى نظراً لخطورة الانتهاكات المُرتكبة وغياب الحماية القانونية لمئات الآلاف من المدنيين المعرّضين للخطر.

كانت غالبية عمليات الاحتجاز في مناطق عفرين بدافع الابتزاز وتحقيق مكاسب مادية من الضحايا وعائلاتهم، بينما اعتُقل آخرون بهدف الترهيب ودفعهم إلى مغادرة المنطقة. كما وُثّقت حالات اعتقال لمجرد مطالبة الضحايا باسترجاع ممتلكاتهم، بما في ذلك اعتقال ثلاثة أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، بينهم امرأتان، على يد فرقة السلطان سليمان شاه (العمشات).

في مقابلات أجرتها “تآزر”، أفاد ستة أشخاص بأنهم تعرضوا للابتزاز لدفع فدى مالية، واضطرت أُسرهم لدفع مبالغ تراوحت بين 2500 و7000 دولار لضمان الإفراج عنهم. على سبيل المثال، قال عبد الله (32 عاماً) إن فرقة “الحمزة” احتجزته تعسفياً لمدة ثمانية أشهر، ووجهت له اتهامات بالتعامل مع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). لاحقاً، فاوضت أسرته على دفع مبلغ 5000 دولار، قبل أن يتمكنوا من التوصل لاتفاق بدفع 2500 دولار مقابل إطلاق سراحه.

دور الاستخبارات التركية في الاعتقالات:

تلعب الاستخبارات التركية دوراً محورياً في الإشراف، أو على الأقل على الاطلاع الواسع، على عمليات الاعتقال والإخفاء القسري التي ترتكبها فصائل “الجيش الوطني السوري”، وكذلك صنوف التعذيب المرافقة لهذه العمليات.

في هذا السياق، صرّح آدم كوغل، نائب مدير قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”: “الانتهاكات المستمرة، بما في ذلك التعذيب والاختفاء القسري لأولئك الذين يعيشون تحت السلطة التركية في شمال سوريا، ستستمر ما لم تتحمل تركيا نفسها المسؤولية وتتحرك لوقفها“. كما أكّد تقريركل شيء بقوة السلاح” الصادر عن هيومن رايتس ووتش، بتاريخ 29 شباط/فبراير 2024، أنّ “الجيش التركي ووكالات المخابرات متورطة في تنفيذ الانتهاكات والإشراف عليها”.

ووفقاً لإحاطة استخباراتية من “معهد نيو لاينز” في كانون الأول/ديسمبر 2022. جاء في الإحاطة أن “ضباط الجيش والمخابرات الأتراك الذين يرأسون هذه المراكز ينسّقون توزيع المسؤوليات العسكرية المستمرة، ويتخذون جميع القرارات، ويُبلغون القادة السوريين الذين ينفّذون بعد ذلك الأوامر”. وقد وثّقت تآزر ما لا يقل عن 22 حالة اعتقال قامت بها قوات الاستخبارات التركية بنفسها منذ بداية عام 2024.

إن استمرار، تكرار، وتصاعد حالات الاعتقال في هذه المناطق يُظهر أن هذه الممارسات ليست حوادث فردية أو عشوائية، بل هي جزء من سياسة قمعية منهجية. تشير هذه الانتهاكات إلى استراتيجية تهدف إلى ترهيب السكان المحليين، وخاصة الكُرد، لإجبارهم على مغادرة مناطقهم الأصلية أو الرضوخ لابتزاز مالي لضمان حريتهم. هذه الممارسات تُبرز الحاجة المُلحة إلى تدخل عاجل يضع حداً لهذه الانتهاكات ويُحاسب المسؤولين عنها.

ظروف احتجاز لاإنسانية:

لم يلتزم “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، بأي معايير إنسانية ينبغي تطبيقها على الأشخاص المحتجزين لدى قواته، حيث تمّ احتجاز جميع من تمت مقابلتهم في أماكن مكتظة أو في زنازين انفرادية ولفترات طويلة دون تبرير، كما فُرِضت على جميع الضحايا ظروف احتجاز لاإنسانية كان المسؤولون عنها يبتغون منها إما زيادة الضغط على الضحايا للحصول على اعترافات أو معلومات أو فدية من العائلة، وإما دون غرض محدّد ولمجرّد التسبّب بالمزيد من المعاناة للضحايا.

وقد اشترك معظم الضحايا في تجربة الحرمان من النوم والتعريض للبرد الشديد والحرمان من أي وسائل للتدفئة؛ أقلها الأغطية، ولم يذكر أي ضحية أنه حصل على تغذية كافية أو مياه شرب نظيفة. كما تعرض جميع الضحايا للشتائم والعبارات والتصرفات التي تمس العرض والشرف وفق المعايير الاجتماعية السائدة.

للاحتجاز تأثير متعدد الأوجه على الرجال والنساء والأطفال، ويشمل ضروباً من الأذى الجسدي والنفسي على حد سواء، إذ وصف معظم الناجين معاناتهم من آلام جسدية مُزمنة ناجمة عن التعذيب الذي تعرضوا له، ومن اضطرابات نفسية لاحقة للصدمة، نوبات هلع، وخوف مستمر، وقلق، مع تكرار الكوابيس التي تزيد من حالة الصدمة.

 

التعذيب وسوء المعاملة:

في آب/أغسطس 2024، تعرّض 16 فرداً من عائلة واحدة، بينهم نساء وأطفال، للاعتقال والتعذيب على يد قوات الشرطة العسكرية في عفرين، خلال حملة اعتقالات جماعية زعمت ارتباطهم بتفجير في مدينة إعزاز. شمل التعذيب أساليب قاسية كضرب الضحايا بخراطيم بلاستيكية على الظهور والأقدام، بالإضافة إلى تعرُّض بعض النساء للتعذيب على يد عناصر رجال.

تمّ الإفراج عن 11 شخصاً بعد يوم ونصف من التحقيق تحت التعذيب، بينما بقي ستة آخرون قيد الاحتجاز، بينهم امرأتان نُقلتا إلى المستشفى العسكري نتيجة إصابات خطيرة على خلفية التعذيب الذي تعرضن له أثناء التحقيق.

تعكسُ أنماط التعذيب وسوء المعاملة التي تمّ توثيقها على يد “الجيش الوطني السوري”؛ صورة مما كانت “النظام السوري” السابق يرتكبه في فروعه الأمنية المختلفة، حيث فصّل الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات مختلف أشكال التعذيب التي تعرضوا لها، أو شهدوها أثناء احتجازهم. فبالإضافة إلى اللطم والركل والصفع، تم ضرب الضحايا بالعصي وخراطيم المياه والأسلاك الكهربائية.

كما تعرض عدة ضحايا للشبح بواسطة البلانكو وما يُعرف بالفروجة ولإطفاء السجائر في أجسادهم. وتمّ تعليق بعض الضحايا إلى السقف، وضربهم بأعقاب البنادق، وتعرضوا للصعق بالكهرباء. وكان بعض الضحايا قد تعرضوا لأشكال أخرى من التعذيب مثل الإغراق في الماء، تكسير الأصابع، إحداث جروح بواسطة آلة حادة، والجر خلف عربة عسكرية.[2]

ورافق التعذيب الجسدي أذى نفسي أيضاً، حيث تعرض أغلب الضحايا للإهانة، فيما أُجبِر البعض منهم على مشاهدة تعذيب أفراد آخرين بطريقة أشد قسوة، وهُددوا بالتعرض للمثل إن لم يتعاونوا ويعترفوا بما هو مطلوب منهم. كما تعرض معظم الضحايا للتهديد بالقتل، وبعضهم تمّ توجيه السلاح فعلاً لرؤوسهم. وانتهى الأمر بالبعض بالموافقة على التوقيع على اعترافات لم يُدلوا بها.

تجدر الإشارة إلى أن ضباطاً أتراك كانوا موجودين بصفة منتظمة في مرافق الاحتجاز التابعة للجيش الوطني السوري، وأفاد محتجزون سابقون، أنّ مسؤولين أتراك كانوا حاضرين أثناء جلسات استجواب استُخدم فيها التعذيب، إذ أنّ الجيش التركي ووكالات المخابرات متورطة في تنفيذ هذه الانتهاكات والإشراف عليها.

وقد وثّقت رابطة “تآزر” في تقرير مُشترك نشرته بتاريخ 26 حزيران/يونيو 2024 بعنوان في غياب المساءلة: التعذيب كسياسة ممنهجة في شمال سوريا، أنّ التعذيب وسوء المعاملة باتت ممارسة منهجية واسعة النطاق في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري” في شمال سوريا، وذلك على مرأى من القوات التركية أو بمشاركتها.

الإطار القانوني:

  • التزامات المجموعات المسلحة من غير الدول وفقاً للقانون الدولي:

في سياق القانون الدولي الإنساني النافذ على المناطق التي تتناولها هذه المراسلة، ينظم هذا القانون القضايا المرتبطة بشكل كافٍ بالنزاع المسلح القائم. تمارس المجموعات المسلحة من غير الدول السيطرة على السكان المدنيين بحكم وجود نزاع مسلح تنخرط فيه تلك المجموعات في النزاع ضد الدولة. بناءً على ذلك، ينطبق القانون الدولي الإنساني لحماية هؤلاء السكان من ممارسة السلطة التعسفية من قبل أطراف النزاع في ظل غياب أو تعطيل الحماية التي يفترض أن تكون ممنوحة لهم بحكم القانون الوطني.[3] وبالتالي فإن المجموعات المسلحة من غير الدول مُلزمة بمجموعة من القواعد القانونية التعاقدية والعرفية في تعاملها مع المدنيين خلال النزاع المسلح ومن ضمن ذلك وعلى الأقل “الحماية المقدمة للجرحى والمرضى؛ حماية المستشفيات؛ مبدأ المعاملة الإنسانية؛ حظر العقوبات الجماعية والنهب والانتقام؛ وأخذ الرهائن؛ حظر الترحيل والنقل القسري؛ والحق في الإجراءات القانونية الواجبة والضمانات القضائية”.[4]

على الجانب الآخر، فعلى الرغم من أن الدول هي المسؤولة الأولى عن احترام وحماية وإنفاذ حقوق الإنسان بموجب القانون الدولي، هناك دعم متزايد للموقف القائل أن المجموعات المسلحة من غير الدول التي تسيطر على أراضٍ وبالتالي السكان، تتحمل التزامات القانون الدولي لحقوق الإنسان من اجل تجنب حدوث فجوة حماية.[5] وقد أيدت الأمم المتحدة هذا الموقف.[6] كما أشار مجلس حقوق الإنسان إلى “أنه يُعتبر على نحو متزايد أن الجهات الفاعلة من غير الدولة يمكن أن تكون ملزمة، في ظل ظروف معينة، بالقانون الدولي لحقوق الإنسان”.[7] كما خلص خبراء حقوق الإنسان في الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان في بيانهم إلى أنه “يتعين، كحدّ أدنى، على الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدولة التي تمارس وظائف شبيهة بوظائف الحكومة أو تسيطر بحكم الأمر الواقع على أراضٍ وسكان، احترام حقوق الإنسان الخاصة بالأفراد والمجموعات وحمايتها”.[8]

  • التعذيب والمعاملة اللاإنسانية:

يعتبر حظر التعذيب والعقوبة أو المعاملة القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة من القواعد الآمرة في القانون الدولي (jus cogens)، ولا يخضع هذا الحظر في هذا السياق لأي تبريرات أو قيود أو ذرائع متعلقة بالشخصية القانونية للجهة المعنية. فالحظر مطلق في زمن السلم والحرب، وينطبق على الجميع دون استثناء.

وفي هذا السياق، تحظر المادة المشتركة الثالثة من اتفاقيات جنيف المنطبقة خلال النزاعات المسلحة غير الدولية، المعاملة القاسية والتعذيب وكذلك الاعتداء على الكرامة الشخصية (المعاملة اللاإنسانية)، ولا سيما المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، وهذا الحظر يعتبر انعكاساً للقانون الدولي الإنساني العرفي.[9] والجدير بالذكر، أن مفهومي التعذيب والمعاملة اللاإنسانية المحظورين خلال النزاعات المسلحة لا يتطلبان مشاركة أو وجود مسؤول حكومي أو أي شخص آخر له سلطة في عملية التعذيب[10] على غرار ما تفرضه اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وبالتالي، يتحمل أفراد وقادة المجموعات المسلحة بصفتهم، تلك المسؤولية القانونية لارتكاب الأفعال التي ترقى للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية دون الحاجة للمجادلة حول مسؤولية الدولة في ذلك. وارتكاب التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية خلال النزاع المسلح غير الدولي يترتب عليه مسؤولية جنائية فردية في حال استوفى الفعل أركان جريمة حرب التعذيب أو المعاملة  اللاإنسانية كما ورد في مواثيق المحاكم الجنائية الدولية.[11] وتجدر الإشارة إلى أن واجب المعاملة الإنسانية ينطبق في جميع الظروف ولا يخضع للضرورة العسكرية أو للتقيّد المتبادل من قبل الطرف الآخر في النزاع.[12]

كما تنص المادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”. وبالمثل، تلزم المادة 2 من اتفاقية مناهضة التعذيب الدول الأطراف بالامتناع عن أعمال التعذيب واتخاذ تدابير تشريعية وقضائية وإدارية فعالة لمنع أعمال التعذيب على أراضيها. تُلزم المادة 16 من اتفاقية مناهضة التعذيب الدول الأطراف بحظر ومنع الأفعال الأخرى للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي لا ترقى إلى مستوى التعذيب في نطاق ولايتها القضائية. وتنص المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”.

وتنص المادة 2 (2) من اتفاقية مناهضة التعذيب على أنه “لا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية، سواء كانت حالة حرب أو تهديد بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلي أو أي حالة طوارئ عامة أخرى، كمبرر للتعذيب”. وبالمثل، توضح المادة 4 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أن الالتزام المنصوص عليه في المادة 7 (حظر التعذيب) لا يمكن الانتقاص منه في أوقات الحرب أو أي نوع من حالات الطوارئ العامة.

  • الحرمان التعسفي من الحرية:

يُعتبر الحرمان التعسفي من الحرية محظوراً كأحد قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي،[13] وينطبق التماثل من القانون النافذ على النزاع المسلح الدولي وكذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان. وبناءً على ذلك، يجب أن يكون الحرمان من الحرية مشروعاً في القانون النافذ، ومستوفياً للإجراءات الأساسية وأهمها: وجوب إبلاغ الشخص الذي يُلقى القبض عليه بأسباب توقيفه، وجوب إحضار الشخص الموقوف بتهمة جنائية أمام قاضِ، ودون إبطاء، ووجوب توفير فرصة للشخص المحروم من حريته للطعن بقانونية الاحتجاز.[14] وفيما يخص مشروعية أسباب الحرمان من الحرية، يُستشهد عادة بالموجبات المفروضة خلال النزاع المسلح الدولي لجهة أن تقتصر أسباب هذا الحرمان على الضرورة القصوى في حال لم يكن ذلك لأسباب جنائية.[15] بالإضافة إلى ذلك، وبغض النظر عن أسباب الحرمان من الحرية، يبقى جميع أطراف النزاع مُلزَمين بمعاملة جميع الأشخاص تحت سيطرتهم بإنسانية ودون تمييز على أي أساس وفقاً للفقرة الأولى من المادة الثالثة المشتركة.

وفي سياق القانون الدولي لحقوق الإنسان، تحظر المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أعمال الاعتقال أو الاحتجاز أو النفي التعسفي. تحمي المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حق الأفراد في الحرية والأمن. وتنص كذلك في الفقرة 4 على أن “لكل شخص حرم من حريته بالاعتقال أو الاحتجاز الحق في رفع دعوى أمام محكمة لكي تبت تلك المحكمة دون إبطاء في مشروعية احتجازه، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاحتجاز غير قانوني”.

في التعليق العام رقم 35، تناولت لجنة حقوق الإنسان مدى انطباق المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حالات النزاع المسلح، نظرًا لأن القانون الدولي الإنساني ينظم احتجاز مقاتلي العدو والمدنيين بشكل مختلف. أوضحت لجنة حقوق الإنسان أن “المادة 9 [من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية] تنطبق أيضًا في حالات النزاع المسلح” وأن القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان مجالان قانونيان متكاملان، ولا يستبعد أحدهما الآخر.

علاوةً على ذلك، في حين أن المادة 9 لم يتم تضمينها كبند غير قابل للتقييد بموجب المادة 4 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إلا أن هناك حدًا لسلطة الدولة في التقييد. وأي استثناء من المادة التاسعة (وهو ما لم يحدث في الوضع في سوريا) يجب أن يكون “مقتضيات صارمة لمقتضيات الوضع الفعلي”. وأخيراً، “إذا تم التذرع، في ظل الظروف الأكثر استثنائية، بتهديد حالي ومباشر وحتمي لتبرير احتجاز الأشخاص الذين يُعتبر أنهم يمثلون مثل هذا التهديد، فإن عبء الإثبات يقع على عاتق الدول الأطراف لإثبات أن هذا الفرد يشكل مثل هذا التهديد وأنه لا يمكن معالجته بتدابير بديلة، ويزداد هذا العبء مع طول مدة الاحتجاز. ويتعين على الدول الأطراف أيضاً أن تثبت أن الاحتجاز لا يدوم لفترة أطول مما هو ضروري فعلاً، وأن المدة الإجمالية للاحتجاز المحتمل محدودة، وأنها تحترم بالكامل الضمانات المنصوص عليها في المادة 9 في جميع الحالات.

بحكم الإجماع المتزايد حول مسؤولية المجموعات المسلحة من غير الدول حول احترام وحماية حقوق الإنسان في المناطق التي تسيطر عليها، تنطبق الأحكام الواردة أعلاه على فصائل “الجيش الوطني السوري” نظراً لواقع السيطرة المستمرة لتلك الفصائل على ما تُسمى بمناطق “نبع السلام” بالإضافة إلى مناطق “غصن الزيتون”، وقيامها بوظائف تشبه وظائف الحكومة.


[1]  الاسم مستعار، تمّ التحفظ على المعلومات الشخصية للشاهد حفاظاً على سلامته.

[2] في طريقة التعذيب المُسماة “البلانكو” يتم ربط الضحية وتعليقه من معصمه بحبل يتدلى من السقف، وقد تلامس رؤوس أصابع قدميه الأرض فتتعرض لضغط كبير أو يبقى معلقاً في الهواء ليضغط ثِقل جسده بالكامل على معصمه، ما يؤدي لتورمها مع ألم شديد. وقد يبقى الضحية معلقاً لساعات أو أيام مع تعرضه للضرب الشديد. وفي الطريقة التي تُسمى بـ “الفروج” تُربط يدا الضحية مع قدميه، ثم يُعلق منهما على عمود خشبي أو معدني ويُرفع عن الأرض في طريقة تحاكي شواء الدجاج، ويترافق ذلك مع ضربه على مختلف أنحاء جسده.

[3] Official Records of the Diplomatic Conference on the Reaffirmation and Development of International Humanitarian Law applicable in Armed Conflicts, Vol. 8, CDDH/I/SR.22, Geneva, 1974–77, p. 201.

[4] Sivakumaran, The Law of Non-International Armed Conflict, (Oxford University Press, 2012), p 530.

[5] Committee Against Torture, 20th Sess., GRB. v Sweden, Communication No. 83/ 1997, UN. Doc. CAT/C/20/D/83/1997 (19 June 1998); Sheekh v Netherlands, App. No. 1948/04, HUDOC at 45 (11 January 2007); UN Secretary-General, Report of the Secretary-General’s Panel of Experts on Accountability in Sri Lanka, 243 (31 March 2011), p 188; Darragh Murray, Human Rights Obligations of Non-State Armed Groups (Hart Publishing, 2016).

[6] OHCHR, ‘International Legal Protection of Human Rights in Armed Conflict’, Geneva and New-York (2011), pp 23-27 (Available at: https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/HR_in_armed_conflict.pdf).

[7] Ibid. p. 24.

[8] OHCHR, Joint Statement by independent United Nations human rights experts on human rights responsibilities of armed non-State actors, 25 February 2021 (Available at: https://www.ohchr.org/en/press-releases/2021/02/joint-statement-independent-united-nations-human-rights-experts-human-rights?LangID=E&NewsID=26797).

 [9]القاعدة 90 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الدولي الإنساني العرفي.

[10] ICTY, Kunarac Trial Judgment, 2001, para. 496, confirmed in Appeal Judgment, 2002, para. 148. See also Simić Trial Judgment, 2003, para. 82; Brđanin Trial Judgment, 2004, para. 488; Kvočka Appeal Judgment, 2005, para. 284; Limaj Trial Judgment, 2005, para. 240; Mrkšić Trial Judgment, 2007, para. 514; Haradinaj Retrial Judgment, 2012, para. 419; and Stanišić and ŽupljaninTrial Judgment, 2013, para. 49.

[11] نظام روما الأساسي، المادة 8 (ج)(1) و(2)؛ ميثاق المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، المادة 2(ب)؛ المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، المادة 4.

[12] ICRC 2020 Commentary on Common Article 3, para 596.

[13] القاعدة 99 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الدولي الإنساني العرفي.

[14] انظر على سبيل المثال، لجنة حقوق الإنسان، التعليق العام رقم 35 عام 2014.

[15] على سبيل المثال، المادتان 42 و78 من اتفاقية جنيف الرابعة.

تــآزر

شارك هذه المقالة على المنصات التالية