جليل إبراهيم المندلاوي
في مكان لا تعرفه الخرائط، وزمان لا تقيسه الساعات، حيث لا شيء هنا.. لا جدران، لا أرض، لا سماء، مجرد فراغ يمتد، صمت كثيف يتدلّى مثل خيوط دخان رمادية، لا بداية ولا نهاية، وفي قلب الفراغ، يقف هو، بلا ظل، بلا صوت، يحاول أن يخطو، فلا أرض تحمله، ويحاول أن ينظر، فلا يرى إلا عتمة تلتف حول عينيه كضباب، وفجأة، تتكوّن جملة في الهواء، مكتوبة بالنور، لكنها تبهت سريعا.. كلمات تتبعثر، تسقط من اللاشيء، وتترتب لتصنع صوتا بداخله: “يخذلونك بصمت.. كأنهم يمضغون الحقيقة تحت ألسنتهم، فلا يبتلعونها ولا يلفظونها…”
يهتز الفراغ. تتشكل خطوط باهتة، تلوّن العدم بخيوط خجولة من الأزرق الباهت والرمادي القديم، كما لو أن أحدهم يحاول رسم واقع متردد، واقع لا يملك الجرأة ليكتمل.. يهمس الصوت من جديد، لكن هذه المرة بصوتٍ مألوف… صوته هو: “هل أنا ميت؟”
لكن الصدى لا يجيبه، فيتابع الصوت: “أم أنني أستيقظ أخيرا؟”
وصار الصوت يعلو، يردد الجملة، تتردد أصداؤه بين جدران لا تُرى، حتى صار الصوت هو نفسه، وصار هو الصوت، ليتردد مجددا في عمق الذاكرة المفقودة: “يخذلونك بصمت.. كأنهم يمضغون الحقيقة تحت ألسنتهم، فلا يبتلعونها ولا يلفظونها، يتركونك معلّقا بين كلمة لم تقال، وخطوة لم تُقطع، يخذلونك حين يلبسون وجوههم قناع الوفاء، بينما تحت الجلد نار تنخر، وابتسامة تتقن طعنات الظهر.. يبدون لك ما ليس في قلوبهم.. كأنهم ممثلون بارعون على خشبة الحياة، يتقنون أدوارهم حتى تصدّق أن النقاء يسكن أعينهم، وأن الطهر يرفرف في كلماتهم، بينما الحقيقة… هناك، في ظلال قلوبهم المتآكلة، حيث لا ضوء ولا عهد ولا ودّ.. حتى يتمزق قلبك.. كأنك ثوب قديم شدّته أيادي الخيبة من كل زاوية، تمزقت خيوطك بصمتهم، وانسكب صبرك من ثقوب ثقتك، حتى لم يبق منك إلا شظايا قلب… تلمع بدموع لا يراها أحد… فليخذلوك… لكن لا تخذل نفسك”.
كما لو أن الزمن نفسه اختار أن يعيد تدوير الجملة بلا نهاية، تهاجمك الكلمات من كل جانب، فتتسلل إلى جسدك كما لو كانت طعنات سكينٍ مغمورة في أعماقك، ثم تسحب نفسها ببطء كما لو كانت تعود إلى مكانٍ لا تعرفه، فيُغمض عينيه، يحاول أن يغلق كل شيء في وجهه، ولكن لا شيء يغلق، يستمر الصوت، يتعاظم، يتحوّل إلى زخات مطرٍ ثقيلة تتساقط على وجهه، تتدفق عبر حواجز عقله، تنقض على الحواف المظلمة التي تشكل جزءا من كيانه، ووفي تلك اللحظة، تتشكل صورة في ذهنه، صورة ضبابية للغاية، كما لو أنها مجرد خيال على حافة الذاكرة، إنه في مكان آخر، في زمان آخر، يلمح هناك صورة وجه، وجه غريب، لكنه مألوف، يراه مبتسما، لكن الابتسامة غير حقيقية، فهناك شيء ما في هذه الابتسامة، شيء يضغط عليه، شيء يجعل قلبه يتفطر من جديد، والابتسامة تصبح أكبر، أوسع، حتى تتسع لتملأ الفراغ بالكامل، يلتفت، يحاول الهروب، لكنه لا يفرّ، فكلما تحرك، كلما تمددت الظلال، وكلما ازدادت الوجوه المحيطة به، تصبح الوجوه أكثر وضوحا إلى درجة أن كل واحدة منها تحمل عينين تلاحقانه، كل واحدة منها تحمل ابتسامة غير مكتملة، تنضح بالخيانة.
وبدأ جسده يرتجف، لكنه لا يقدر على الحركة، يفتح فمه ليصرخ، لكن صوته محبوس في الداخل، لا يخرج، يراه الجميع، لكنهم لا يسمعونه، ترى الأعين كلها تعبيرا غريبا، كما لو أنهم يحاولون أن يخبرونه بشيء، لكنهم لا يستطيعون، ثم تظهر فجأة يده، تطفو في الهواء، كما لو أن فكرة ما قد تسللت إليه، فكرة عن الماضي، عن الوعود التي تم تقديمها، عن النوايا التي كانت تغلفها كلمات هادئة، وكما لو أن الزمن نفسه يرفض التوقف، يبدأ قلبه في الانقباض، ليشعر بالضياع التام، كل شيء يتحطم حوله، حتى الوجوه التي كانت تتبعثر بين يديه تلتصق بالفراغ، تندمج معه.. يصرخ، هذه المرة بصوتٍ مسموع، لكن لا شيء يتحرك، وفي تلك اللحظة، يشعر بشيء غريب يتملكه، شعورٌ بالتحرر، وكأن الجمل التي ترددت طوال هذا الوقت قد بدأت تتلاشى في الهواء، وصوت أخرس ينتشل نفسه من الأعماق، ويغرقه في يقينٍ جديد. يمد يده نحو الظلام، نحو الحافة المجهولة، ولكن هذه المرة لا يعود الخوف يلاحقه، لا شيء يلاحقه، فيغلق عينيه للحظة طويلة، ثم يفتحها، ليكتشف أنه لم يعد في المكان الذي كان فيه، لم يعد هناك ظلال أو وجوه تحاصره، لم يعد هناك صوتٌ يردد الخذلان، أصبح وحيدا، في مكانٍ أوسع، في فراغٍ جديد، حيث يبدو أن كل شيء قد بدأ من جديد.
في هذا الفراغ الجديد، في الفضاء المعلّق بين الواقع والخيال حيث لا شيء يحده سوى امتداد اللازمان، خُيّل له أنه أصبح هو ذاته هذا الفراغ، لا وجه، لا اسم، لا ذكرى، سوى هواء ثقيل يملأ صدره، وقف ينظر إلى السماء المتشققة كمرآة قديمة، لا نجوم تتلألأ، ولا قمر يبعث نوره، فقط فراغ كوني يمتص الأصوات والذكريات، فيما كانت المياه تحت قدميه سوداء، تعكس وجهه المشوه بالخيبات، وعلى كتفيه تستقر طيور من دخان، تنعق بكلمات لم تُقل، وتغادر كلما حاول الإمساك بإحداها، همس للفراغ: “لقد وعدتِ”، عاد صدى صوته إليه كضحكات ساخرة، فقد بنى قصورا من وعودها، حفر اسمها على جدران روحه، أطعم قلبه الأمل حتى تضخم وملأ صدره، والآن، تتساقط حروف اسمها من ذاكرته كأوراق الخريف، تتحلل في بركة الخذلان التي تطفو عليها أحلامه الميتة، وفي يده رسالة تتبخر كلماتها كلما حاول قراءتها، كانت رسالة الوداع التي لم تكن شجاعة بما يكفي لتسليمها بيدها، فأرسلتها مع الريح، لتصفع وجهه في ليلة عاصفة.
تقدم نحو البحيرة السوداء، فظهرت على سطحها خيالات لوجوه تبتسم بمكر، وجوه لأشخاص كانوا شهودا على حبهما، يتظاهرون بالفرح، بينما يحيكون مؤامرات الفراق في الخفاء، حيث أدرك فجأة: “كانوا يعلمون أنها ستغادر، وابتسموا في وجهي”.
تحولت الأرض تحته إلى رمال متحركة من الذكريات، صور تتوالد، هي تضحك وتشير نحو النجوم، تقسم بحب أبدي، تشرب من كأسه، ثم تلتفت إلى آخر، تهمس في أذنه وتضحك معه على سذاجة من صدق، فيما يتساقط مطر أحمر من السماء المتشققة، يصطدم بوجهه كدموع دافئة، مدّ يديه ليتلقف المطر، فتشكّلت في راحتيه كلمات لم تُقل، اعترافات بخيانات لم تُعترف بها، قصص حب أخرى عاشتها في الظلال، ليظهر خيالها في الأفق يرقص مع ظلال متعددة، كأنها ممثلة تؤدي أدوارا مختلفة مع كل شخص، ووجهها الحقيقي غائب، ربما لأنها نسيته، أو لأنه لم يكن موجودا أصلاً.
رفع يده إلى صدره، حيث كان قلبه ينبض ببطء مؤلم، أدخل أصابعه بين ضلوعه، وانتزع قلبه المثقل، كان يتنفس في يده كمخلوق جريح، ينزف ذكريات وأمنيات.. “لن أكون سجينك بعد اليوم” خاطب قلبه، “لقد تعبت من حمل خيباتك”.
رمى قلبه في البحيرة السوداء، فغاص للحظات ثم طفا مجددا، متحولا إلى قارب ورقي صغير من حب محترق، ابتعد القارب، حاملاً كل الكلمات التي لم يقلها، كل الدموع التي احتُبست، واللحظات التي اعتقد أنها حقيقية، وبدأت السماء المتشققة تلتئم، والضباب ينقشع، ظهرت أمامه طريق طويلة مضاءة بنور غامض، وخلفه اختفت البحيرة السوداء وكل ما حملته من خذلان.
مشى في الطريق الجديد بصدر فارغ، لكنه خفيف، وفي الفراغ الذي تركه قلبه، بدأت تنمو بذرة صغيرة من شيء آخر، شيء لا يشبه الحب الذي عرفه، بل يشبه الحرية التي لم يختبرها من قبل، فلم يعد ينتظر رسائل لن تأتي، أو وعودا ستُكسر، لم يعد يبحث عن صدق في عيون تجيد التمثيل، أو يصدق ابتسامات تخفي خناجر، والآن، صار هو الطريق، وهو المسافر، هو السؤال، وهو الإجابة، هو الوعد، وهو الوفاء، حيث أدرك أن أعظم خذلان كان يمكن أن يرتكبه بحق نفسه، لو استمر يغرق في بحيرة خذلانها السوداء، ينتظر أن تعود لتنتشله.
تلاشت ذكراها مع كل خطوة، ككتابة على رمال يمحوها المد، ولم يبقَ في أذنيه سوى صدى حكمة قديمة: فليخذلوك.. لكن لا تخذل نفسك.
استيقظ على الفراغ، وكأنه كان في حلم يتبخر عند أول لمسة وعي، لا يتذكر منه سوى ظلال شعور ثقيل، كأن قلبه نسي كيف ينبض دون وجع.. الغرفة تتنفس من حوله، جدرانها تنبض كأنها أوردة في سماء غائمة، قهوته تبرد على الطاولة منذ دهور، بينما تتسلل خيوط ضوء شاحبة من شقوق السقف.. حاول أن يتذكر متى وصل إلى هنا، لكن الذكريات تتداخل كألوان مائية تسيل على لوحة مبتلة، فقد كانت رسائلها تصله عبر قصاصات ورق تظهر فجأة تحت وسادته كل صباح، كلماتها موعودة بلقاء، تحمل عطراً غامضاً يشبه رائحة المطر على التراب.
المرآة في الزاوية تعكس وجهاً لا يعرفه تماماً، كأن ملامحه تتحول ببطء مع كل دقة قلب، كان ينتظرها كل مساء في الحديقة المهجورة خلف البناية الرمادية، الأرجوحة تتحرك وحدها رغم سكون الهواء، وأحياناً يسمع ضحكتها تتردد بين الأشجار، لكنها لا تظهر أبدا.
وفي مساء آخر يشبه ما سبقه من الانتظارات، جلس على المقعد الخشبي المهترئ تحت شجرة تآكلت أوراقها من الغياب، تحدق فيه الغربان من أعالي الأغصان وكأنها شهود صامتون على ما لم يحدث، الأرجوحة ما زالت تتأرجح وحدها، تصدر صريراً خافتاً كأنه بكاء صدأٍ قديم، الهواء كان ساكناً، لكنه شعر بأن شيئاً ما يتحرك في الحديقة، شيئاً غير مرئي، لكنه ثقيل، مثل حضور فكرة لم تُفهم بعد.
مدّ يده ليتحسس المقعد إلى جانبه، كأنه يتوقع أن تكون هناك، أن تكون جلست قبله وتركَت حرارة جسدها في الخشب، لكن كل ما وجده هو ورقة، ورقة مطوية بعناية، بنفس الخط الذي عرفه جيداً، بنفس العطر، فتحها ببطء، كانت سطورها قصيرة، لا تقول الكثير، لكنها تنزف شعوراً دفيناً: “أراك أكثر مما تراني، تسمعني حين أصمت، وتلمسني في غيابي. سامحني إن كنتُ ظلا يمشي خلفك، لا يملك الشجاعة أن يسبقك أو يواجهك…”
ارتجف الورق بين أصابعه، وكأن الكلمات لا تريد أن تُقرأ، أو كأنها تذوب كلما اقترب منها. رفع عينيه إلى الظلام الزاحف بين الأشجار، وتردد الصوت الذي يعرفه، لا يأتي من الخارج، بل من داخله: “هي هنا، لكنها لا تستطيع البقاء…”
تساءل، لأول مرة، هل كانت حقاً موجودة؟ أم أنه اخترعها ليملأ هذا الفراغ الهائل بداخله؟ كل ما عرفه هو أنه لم يعد يميّز بين الذكرى والخيال، بين الواقع والحلم، بين وجهها وظله، ثم، ولأول مرة، توقفت الأرجوحة عن التأرجح، وصمتت الحديقة، وساد السكون، لكنه لم يكن هدوءا مطمئنا، بل سكونا كثيفا، كثافة الحقيقة حين تتجلى بلا رتوش، كأن الزمن نفسه توقف لبرهة ليرى ماذا سيفعل الآن، لم يعد هناك صرير، ولا ورق يتساقط، حتى الغربان اختفت، تاركة وراءها فراغا في السماء مثل ندبة قديمة.. وقف ببطء، شعر أن الهواء صار أثقل، كأن كل خطوة منه تُسحب من بئرٍ عميق في داخله، نظر إلى الأرجوحة الثابتة، ثم إلى المقعد الذي بات خاليا من الورق والعطر، ومن كل أثر لها.
عاد إلى غرفته، الجدران ما زالت تنبض، لكن نبضها صار أبطأ، كأنها أيضاً بدأت تتخلى عنه. نظر في المرآة مرة أخرى، وابتسم ابتسامة باهتة لكنها حقيقية، كأنها خروج من طقسٍ طويل من الحداد على شيء لم يُولد.. جلس أمام قهوته الباردة، رفع الكوب، وتذوّقها… طعمها مر، بلا سكر، بلا نكهة، لكنه لم يمتعض. بل قال لنفسه: “أخيرا… طعم الحياة كما هو.”
وكأن القدر قرر أن يسخر منه في ليلة أخرى، حيث وجد على طاولته مفتاحاً نحاسياً صغيراً، ومعه ورقة كُتب عليها: “الباب الأخير في الممر”، لم يكن يعلم بوجود ممر، لكن عندما استدار، وجد في جدار غرفته فتحة لم تكن موجودة من قبل.. الممر طويل، مضاء بمصابيح متذبذبة، وعلى جدرانه صور لأشخاص تبدو ملامحهم مألوفة، لكنه كلما اقترب منهم، تمحو ملامحهم كالشمع المنصهر، الباب الأخير كان مطلياً بالأزرق، وعندما أدار المفتاح، سمع نبضات قلب تتسارع، لم يعرف إن كانت نبضاته أم نبضات الغرفة نفسها، وجدها تجلس هناك، ظهرها إليه، شعرها الطويل ينساب كشلال من حبر أسود، تحيط بها المرايا من كل جانب، كل مرآة تعكس وجهاً مختلفاً لها، همس باسم لم ينطقه من قبل، فاستدارت ببطء، لكنه لم يرَ وجهاً، بل مرآة أخرى تعكس صورته هو، ملامحه مشوهة بالانتظار والأمل والخذلان، مدت يدها، ولم تكن سوى يده، وسلمته ظرفاً محكم الإغلاق، عندما فتحه، وجد داخله كل الرسائل التي كان يكتبها لنفسه كل ليلة، مؤرخة بتواريخ سنوات مضت.
فهم حينها أنه كان يراسل نفسه، يخلق وهم حب لامرأة لم توجد يوما، ليهرب من فراغ روحه، كان الخاذل والمخذول، البطل والضحية، الواعد والمنتظر، تحت قدميه، تشققت الأرضية كبلور متكسر، وبدأت الغرفة تنهار من حوله.
استيقظ مجددا في غرفته، قهوته ما زالت تبرد على الطاولة، نظر عبر النافذة، الحديقة المهجورة تبدو كسراب قديم، لكن هذه المرة، قرر أن يخرج من البيت بلا انتظار، بلا رسائل، بلا أمل زائف، ولا خلفه مرآة، ولا أمامه وعد.. حمل قلبه المتشظي بين يديه وخرج ليواجه عالماً حقيقياً.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=68628