بول أيدون
ترجمة راج آل محمد
في أعقاب الصعود المشين لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) – الذي بدا في حينه غير قابل للإيقاف–واستيلائه الدموي على مساحات واسعة من سوريا والعراق في عام 2014، نجحت أقلية في شمال شرق سوريا، كانت حتى ذلك الحين مجهولة إلى حد كبير، في مقاومة هذا التنظيم المتوحش وتمكنت في نهاية المطاف من دحره. يمكن القول إنه قبل تلك السنة المفصلية، ربما كان أكراد سوريا هم الأقل حضورًا في الوعي العام من بين جميع أكراد الشرق الأوسط. وقد وصفهم بدقة مايكل غونتر، وهو محلل مخضرم في شؤون الأكراد، عندما قال بأنهم “خرجوا من العدم”.
في أعقاب القضاء على “خلافة داعش” بدعم من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، حصل الكرد على حكم ذاتي فعلي في شمالي سوريا عام 2012، وعززوا سيطرتهم ووسعوا نفوذهم، فباتوا يحكمون ما يقارب ثلث سوريا. يقدم كتاب “أكراد شمال سوريا: الحوكمة، التنوع والصراعات“ للقارئ عرضًا أكاديميًا متوازنًا للغاية عن أصول هذا الحكم الذاتي، وتوطيده، إضافة إلى نجاحاته وإخفاقاته المتعددة. ويُعد كل من هارييت ألسوب Harriet Allsopp وفلاديمير فان فيلغنبورغ Wladimir van Wilgenburg أفضل من يمكنهم تأليف كتاب كهذا: ألسوب بفضل أبحاثها الأكاديمية الدقيقة حول أكراد سوريا ومنطقتهم، وفيلغنبورغ بسبب تغطيته الميدانية الواسعة في شمال شرق سوريا على مدى السنوات السبع الماضية.
يتتبع الكتاب أصول الأحزاب السياسية الكردية السورية، التي تعرضت للقمع لعقود على يد الأنظمة السورية المتعاقبة، منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي عندما تأسست “أحزاب جيل 1957″، وحتى الوقت الراهن مع إعلان الحكم الذاتي في المنطقة بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD). ويشير المؤلفان إلى فرق مهم بين تلك الأحزاب الكردية القديمة وحزب الاتحاد الديمقراطي، إذ بينما “تشكلت الأحزاب الأولى على خلفية التمييز الذي عانى منه الأكراد في سوريا، يركز حزب الاتحاد الديمقراطي على رؤاه الأيديولوجية والسياسية لمجتمع ديمقراطي.”
سعى حزب الاتحاد الديمقراطي إلى تحقيق رؤيته لمجتمع ديمقراطي من خلال تطبيق فكرة “الكونفدرالية الديمقراطية” التي نادى بها عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) المسجون، والذي تأثر بشدة بأفكار المنظّر الأمريكي الاشتراكي الليبرالي والفوضوي الراحل موراي بوكتشن. ويشير المؤلفان إلى أن بوكتشن رأى أن “خطيئتنا الأصلية” تكمن في العلاقات الهرمية – وليس الرأسمال –، وأن المشكلات البيئية ناجمة عن علاقات الهيمنة تلك. واستنادًا إلى هذا، لم يسعَ الأكراد بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي إلى الاستقلال أو إلى إنشاء دولة كردية في شمال سوريا وبدلًا من ذلك، فضل الحزب إقامة هياكل حكم لا مركزية، إذ يرون أن الدولة القومية تدعم العلاقات الهرمية المذكورة. إلا أن الكتاب يُشير لاحقًا إلى مفارقة ملفتة، إذ “رغم رفض أيديولوجية أوجلان للتراتبية في المهارات والقدرات السياسية، فإن درجات الالتزام بالنهج الأيديولوجي شكلت هرمًا بديلاً متجذرًا في نظام الحكم الذاتي الديمقراطي”.
يعتمد الكتاب بمعظمه على أبحاث ميدانية أصيلة، وتقدم الاستطلاعات التي جرت في شمال شرق سوريا رؤى قيّمة حول مشاعر السكان حيال الإدارة ونظام الحكم تحت قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي. وتُظهر نتائج الاستطلاعات تباينًا في الآراء حول مستوى التمثيل السياسي، خاصةً اجتماعات الكومينات التي تعقدها الإدارة. فعلى سبيل المثال، أعرب العديد من المشاركين عن رضاهم عن مستوى الحكم من جهة، لكنهم أصروا على أنه ليس ديمقراطيًا من جهة أخرى. وانتقد آخرون الفساد وفشل النظام في تمثيل الجميع، مشيرين إلى احتكار الحزب للسياسة في المنطقة. ويلاحظ المؤلفان أن “أيديولوجية أوجلان والإدارة شجعتا على المشاركة، لكن مستويات المشاركة المنخفضة نسبيًا، التي أظهرتها الأبحاث الميدانية تشير إلى انفصال شعبي عن الأُسس الأيديولوجية للنظام الإداري ووجود فجوة بين النظرية والتطبيق في الحوكمة “.
علاوة على ذلك، أشار بعض السكان إلى أنهم لا يشعرون بالحرية في التعبير عن آراء تتعارض مع أيديولوجية حزب الاتحاد الديمقراطي، وقال آخرون إنهم لا يعتقدون أن اقتراحاتهم تُؤخذ بعين الاعتبار، وإن مشاركتهم في اجتماعات الكومينات لم تمنحهم سلطة اتخاذ القرار، لأن “اتخاذ القرار يخص بعض الأشخاص فقط”. ومع ذلك، فإن الاستطلاع شمل مجموعة متنوعة من السكان [الذين يعيشون] في ظل الإدارة، ووجد أن العديد منهم “يرى أن اجتماعات الكومينات تمثيلية وتشكل أدوات لاتخاذ القرار وتمكين الناس، وأكدوا أن أصواتهم مسموعة وتؤخذ بالحسبان”. وحتى أولئك الذين لم يشاركوا في اجتماعات الكومينات “رأوا أن النظام لا يزال ديمقراطيًا”.
استمدت الإدارة جزءًا كبيرًا من شرعيتها من قدرتها على تنظيم الدفاع عن المناطق ذات الغالبية الكردية من خلال وحدات حماية الشعب (YPG) ووحدات حماية المرأة (YPJ) ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية (SDF) متعددة الأعراق. ومع ذلك، وثّق المؤلفان بعض المخاوف لدى السكان بشأن التجنيد الإجباري وخيبة الأمل في بعض الحملات. فقد تذمر العديد من السكان من استشهاد مقاتلي وحدات حماية الشعب/قوات سوريا الديمقراطية خارج المناطق الكردية، ولا سيما في المعارك ضد داعش في منبج والرقة ودير الزور. وقد عبّر الكرد عن قلقهم من أن “أبناءهم يُرسَلون للموت في مناطق غريبة، وليس في ديارهم”. وعلى الرغم من أن قوانين الإدارة تمنع تجنيد السكان للقتال خارج مناطقهم، إلا أن الناس الذين استُطلِعت آراؤهم أكدوا أن ذلك يحدث، لا سيما عندما كانت قوات سوريا الديمقراطية تعاني نقصاً في عدد المقاتلين في معاركها ضد داعش. واشتكى كثيرون من أنهم جُندوا للمخاطرة بحياتهم في “معركة لا تخصهم”.
بعد تدمير فرع داعش السوري، باتت قوات سوريا الديمقراطية تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي العربية، بما في ذلك المدن. وهنا أيضًا، أثارت تصرفات حزب الاتحاد الديمقراطي بعض الانتقادات، خاصة عندما قام الحزب بوضع صور ضخمة لعبد الله أوجلان في أماكن عامة ضمن مناطق عربية. فقد تساءل سياسي كردي سوري مستقل: “في الشدادي لا يوجد أكراد، بل عرب، ومع ذلك هناك صورة كبيرة لعبد الله أوجلان. ماذا سيقول العرب؟”
كما رصدت الاستطلاعات بعض الاختلافات السياسية بين الأكراد نتيجة للتباين الجغرافي بين مناطقهم (تتكون كردستان سوريا من ثلاث جيوب منفصلة جغرافياً). ففي منطقة كوباني الشمالية، عبّر 42٪ من المستطلعة آراؤهم عن رأي إيجابي تجاه أوجلان وأيديولوجيته، مقارنة بـ17.5٪ فقط في منطقة الجزيرة شمال شرق البلاد. وعلى النقيض من ذلك، أعرب 40٪ في الجزيرة عن تأييدهم لمسعود بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في كردستان العراق، بينما أيّد 9٪ فقط أوجلان. وتضفي مثل هذه النتائج التفصيلية من الواقع الميداني قيمة كبيرة على الكتاب.
ورغم أن الطابع الأكاديمي للكتاب يجعله أحيانًا عصياً على القراءة– وهو أمر متوقع بالنظر إلى تعقيد موضوعه – فإن “أكراد شمال سوريا“ يُعد عملًا بحثيًا دقيقًا، ومن دون شك، يُمثل بكل تأكيد الوصف الاوضح والأكثر موثوقية لهذه المنطقة المهمة وشعبها.
[1]نشر المقال في https://fathomjournal.org/book-review-the-kurds-of-northern-syria-governance-diversity-and-conflicts/
المصدر: مدارات كرد
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=69536