في خطوة دبلوماسية تاريخية، وقّعَت أذربيجان وأرمينيا في البيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إعلان مشترك بوِساطة إدارة الولايات المتحدة، يتضمّن بنوداً لإعادة فتح طرق النقل بين البلدين وإنشاء ما وُسِمَ رسمياً باسم Trump Route for International Peace and Prosperity (TRIPP) — أو ما بات يُشار إليه إعلامياً بممر «زنغزور» بقيادة أمريكية. الاتفاق أُقِرّ على خلفية تحوّلات ميدانية وسياسية مهمة في المنطقة، لكنه يطرح أيضاً تساؤلات قانونية وسيادية وأمنية أثارت مخاوف في يريفان ومباحثات داخلية في طهران وموسكو.

ما هو ممر «زنغزور» ولماذا يهمّ؟
مفهوم «ممر زنغزور» يعود إلى فكرة ربط أراضي أذربيجان الرئيسية بإقصاءها ناخشيفان عبر مقاطعة سيونيك الأرمنية (جنوب أرمينيا)، عبر طريق بري وسككي وحزم بنى تحتية (أنابيب نفط/غاز، ألياف بصرية، شبكات كهرباء). يؤمّن هذا الممر اتصالاً مباشراً بين أذربيجان وتركيا وبقية دول المنطقة، ويعيد إلى الواجهة خطوط مواصلات كانت موجودة في الحقبة السوفييتية لكن تعطّلت بسبب صراعات ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. المؤيدون يرون فيه بوابة اقتصادية واستراتيجية لتحويل جنوب القوقاز إلى محور نقل وكابل طاقة بين البحر الأسود وبحر قزوين، بينما يخشى معارضوه في يريفان وطهران من تبعات سيادة وسيطرة وإضعاف دور روسيا التقليدي في المنطقة.
ماذا تقضي صفقة البيت الأبيض (الـ TRIPP)؟
الخطوط العامة للاتفاق، كما نقلتها وكالات الأنباء، تشمل:
إعادة فتح طرق برية وسككية بين باكو وناخشيفان عبر أراضي أرمينيا، مع إنشاء منصة تطويرية دولية للمشروع.
منح الولايات المتحدة حقوق تطوير واستثمار خاصة وحصرية على طول الممر لفترة طويلة — تقارير عدة تشير إلى اتفاقية تتضمن حقوق تطوير لمدة تصل إلى 99 سنة لصالح واشنطن أو كونسورتيوم تقوده شركات غربية.
عناصر أمنية وإجرائية مثل ترتيبات للجمارك والتفتيش، وحاجة لاتفاقات تشغيلية بين يريفان وباكو والولايات المتحدة بشأن شكل المرور والأمن.
الاتفاق لم يتضمّن تسوية كاملة لمسألة ناغورني قره باغ؛ هذا البند يبقى عائقا سياسيا وقانونيا رئيسيا.
لماذا راهنت واشنطن (برعاية ترامب) على هذا المسار الآن؟
أسباب عدة تفسّر توقيت الدفع الأمريكي:
تراجع النفوذ الروسي في بعض جوانب جنوب القوقاز بعد الحروب الأخيرة وإعادة رسم السيطرة الميدانية، ما فتح نافذة لواشنطن للعب دور وسطي أكبر.
موقع استراتيجي: السيطرة على ممر يطوّق حدود إيران ويقرب تركيا من آسيا الوسطى يمنح نفوذاً جيوستراتيجياً مهماً.
فرص اقتصادية: الشركات الأمريكية والغربية ترى في الربط بين البحر الأسود وبحر قزوين طريقاً لنقل الطاقة والسلع بقدرات تنافسية، فضلاً عن الاستثمار في بنى تحتية مربحة على المدى الطويل.

مواقف الدول والفاعلين الإقليميين
أذربيجان: رحّبت باتفاقية البيت الأبيض واعتبرتها نصراً دبلوماسياً واقتصادياً، إذ تسمح بالاتصال المباشر مع ناخشيفان وتوسيع دائرة التبادل مع تركيا.
أرمينيا: التوقيع أثار تبايناً داخلياً؛ الحكومة برئاسة باشينيان وقّعت نصاً يمهّد لفتح ممر، لكن الشارع والخصوم السياسيين وأجهزة الدولة عبرت عن قلقها من شروط السيادة والحقوق السيادية على التراب الأرمني، إضافة إلى مطلب دستوري حول إشارة النّص الدستوري لـ«قره باغ» ما يزال عقبة.
روسيا: غابت عن طاولة التفاوض المباشرة، وهو ما اعتُبر تراجعا لهيمنتها؛ موسكو أبدت موقفاً حذراً لكنها لم تعارض الإعلان مبدئياً، مع استمرار مخاوفها من فقدان موطئ قدم استراتيجي.
إيران: عبرت عن مخاوف جدّية — لأنها ترى في ممر يقترب من حدودها تحوّلاً جيواستراتيجياً قد يؤثر على مصالحها الترانزيتية والأمنية.
تركيا: رحّبت بقوة، إذ ينسجم الممر مع طموحات أنقرة لربط العالم التركي عبر شبكة طرق وسكة حديد.
نقاط الخلاف والشكوك العملية
حتى مع التوقيع الرسمي، هناك عدد من القضايا التقنية والسياسية التي قد تعرقل التنفيذ:
الطابع السيادي للممر: هل سيكون مروراً دون رقابة أرمنية أم سيخضع لنظام خاص؟ تفاصيل الجمارك والشرطة والحدود واللوحة القانونية لم تُحسم بشكل عملي بعد.
الضمانات الأمنية: من سيؤمّن الممر؟ هل سيكون تحت حماية دولية (ناتو/قوات حفظ سلام) أم تحميه قوات أذربيجانية أو أميركية؟ هذا سؤال سياسي حاسم.
الشرعية الدستورية في أرمينيا: تبدو معالَجة مرجعيات دستورية مثل ذكرى ناغورني قره باغ أمراً لا بد منه لتمرير أي اتفاق داخلياً — فبدون قبول شعبي وسياسي قد ينهار الاتفاق أمام معارضة برلمانية أو شعبية.
السيناريوهات المحتملة للمستقبل
تنفيذ فعّال ومتدرّج: يبدأ العمل في مشاريع بنية تحتية مع ترتيبات تشغيلية مؤقتة، وتصبح المنطقة محور عبور إقليمي بعد سنوات.
اتفاق هشّ يواجه انتكاسات: خلافات حول السيادة والأمن والتفتيش قد تؤدي إلى تأخيرات، احتجاجات، أو حتى انسحابات جزئية من بنود الاتفاق.
تحوّل إلى ساحة تنازع قوى: إذا شعرت روسيا أو إيران أن مصالحهما تتعرض للخطر، قد تشدّد مواقفها وتدعم أحزاباً أو مجموعات ضغط داخل أرمينيا أو المنطقة لإعاقة التنفيذ.
خاتمة: فرصة تاريخية — لكن بثمن سياسي وجيوستراتيجي
اتفاق البيت الأبيض ومفهوم الـTRIPP يفتحان فُرصاً اقتصادية واستراتيجية كبيرة لربط القوقاز بالأسواق الإقليمية والدولية. لكن ثمن هذه الفرصة قد يكون تنازلات سيادية واستقطاباً إقليمياً جديداً. النجاح لن يقاس بتصريح توقيع فقط، بل بقدرة الأطراف على ترجمة البنود إلى ترتيبات عملية قابلة للتطبيق تحفظ سيادة الدول وتطمئن جيرانها. في النهاية، يبقى السؤال الأساسي: هل سيؤدّي هذا الممر إلى «سلام دائم ومصالح متبادلة»، أم إلى «سلام هشّ ومشروع جديد للصراع النفوذ»؟ الأيام والأسابيع المقبلة — وبالأساس التفاصيل الفنية والضمانات القانونية — ستكون الحَكَم.
مصادر : رويترز، أسوشييتد برس، بوليتيكو، الغارديان، ويكيبيديا، ومجموعات بحثية إقليمية.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=73623




