السعودية وتركيا في الملف السوري من صراع الخلافة إلى رهبة الفيدرالية الكوردية

د. محمود عباس

في الشرق الأوسط، لا تُبنى التحالفات ولا تنفرط الخصومات على أساس اللحظة وحدها، بل هي امتداد لمسارات تاريخية تتشابك فيها المصالح مع الأيديولوجيات، ويتداخل فيها الإرث السياسي مع الحسابات الاقتصادية والأمنية. والمشهد السعودي–التركي في الملف السوري ليس استثناءً، فهو استمرار لصراع ممتد على الزعامة الإقليمية، تتخلله تبدلات في الخطاب، لكن تبقى الجذور على حالها.

العربي ابن الصحراء، عُرف عبر التاريخ بحدّة فراسته وقدرته على قراءة النوايا، غير أن المدهش أن تتجاهل المملكة العربية السعودية عقودًا من التوتر مع تركيا، ومحاولاتها المتكررة للتشكيك في نزاهة المملكة والسعي لإعادة فرض وصايتها على العالم الإسلامي تحت شعار “الخلافة العثمانية”، متناسية الخلافة الراشدية وما تلاها من تحولات عميقة في مفهوم الدولة. واليوم، تتقاطع المملكة مع أنقرة في الملف السوري، متغاضية عن عداء تركي لم ينقطع يومًا، وهو عداء يتجاوز حدود الخلاف السياسي ليغوص في عمق الوعي القومي التركي الذي يرى في الهيمنة على العرب جزءًا من هويته التاريخية.

تركيا تتحرك في سوريا برؤية مركزية استبدادية، تمزج بين سلطة الدولة وسلطة الدين، ليس بغرض ترسيخ القيم الروحية، بل لاستخدام الدين كأداة ضبط اجتماعي وسياسي، مما يتيح لها التحكم بمفاصل الدولة كافة، من الجيش إلى الاقتصاد، ومن الإدارة إلى السياسة الخارجية، ووراء هذه السيطرة يختبئ هدف محدد وواضح، القضاء على أي كيان كوردي مستقل، عبر تفكيك الإدارة الذاتية، وتقزيم الحراك الكوردي في غربي كوردستان، ودفع القضية الكوردية إلى غياهب النسيان لسنوات قادمة. ولتحقيق هذا، تراهن أنقرة على أي حكومة سورية انتقالية تستطيع التأثير عليها، لتدفعها نحو طرد قوات التحالف وعلى رأسها الولايات المتحدة، فتخلو الساحة السورية لمصالحها، وتصبح كل دولة تريد التعامل مع دمشق مضطرة للمرور عبر البوابة التركية.

أما السعودية، فإنها تنطلق من إرث المذهب الوهابي قبل أن ترتكز على القومية العربية أو الإسلام الليبرالي، لكن عهد الأمير محمد بن سلمان شهد انتقالًا واضحًا نحو الانفتاح، وإخراج المجتمع السعودي من دائرة التشدد، دون التفريط بالقيم العربية الأصيلة، المفارقة أن هذا الانفتاح في الداخل لم ينعكس بحذر كافٍ في التعاطي مع الملف السوري، إذ باتت المملكة تدعم، بشكل مباشر أو غير مباشر، حكومة غارقة في الإرهاب، وتتعاطى مع أطراف تضع مصالح منظمات متطرفة فوق مصالح مكونات سوريا الوطنية، وفي مقدمتهم الكورد الذين كانت المملكة يومًا من أحد أبرز المدافعين عن قضيتهم.

المؤسف أن الإعلام السعودي، عبر منصات وازنة كـ “العربية” و”الحدث”، أخذ يتقاطع في بعض خطابه مع البروباغندا التركية، ليضع الشعب الكوردي في خانة الخصومة، وتتغاضى عن تهجمات شريحة من أيتام البعث على الكورد يوميا وبأقذر العبارات وهم في حمايتها وعلى أرضها، وهو ما يكشف عمق التأثير التركي في صياغة الرؤية الإعلامية للمملكة تجاه سوريا، لكن هذه السياسة، وإن بدت في ظاهرها تكتيكًا مرحليًا، تحمل في جوهرها تنازلًا عن أوراق قوة استراتيجية، إذ تمنح أنقرة موقعًا متقدمًا في القرار السوري، وتعيد إنتاج نفوذ “الباب العالي” في صيغة معاصرة.

تركيا تدرك أن مشروعها محفوف بالمخاطر، فقد جرّبت كل التحالفات الممكنة، مع إيران وروسيا، في مواجهة أمريكا، وفي صراع مع مصر والسعودية، وحققت قفزات اقتصادية ملحوظة لكنها قامت على قاعدة هشة، ومع تراجعها اليوم، تحاول إعادة التموضع عبر كسب دعم السعودية ودول الخليج، طمعًا في تحقيق هدفين متداخلين، إخراج القوات الأمريكية من سوريا وكسر شوكة قسد والإدارة الذاتية، وفي نظر أنقرة، كلا الهدفين متساويان في القيمة؛ فالنتيجة واحدة، وهي إحكام قبضتها على سوريا وإقصاء أي حضور كوردي مؤثر.

المعادلة في النهاية ليست مجرد تقاطع مصالح عابر، بل صراع على صياغة ملامح النظام الإقليمي القادم، وتحديد من يملك حق رسم خريطة القوة في سوريا والمنطقة، وإذا مضت السعودية في هذا المسار، فإنها تخاطر بخسارة حليف كوردي استراتيجي كان يمكن أن يشكل رصيدًا في مواجهة النفوذ الإيراني والتركي معًا، بينما تراهن تركيا على أن تبدل التحالفات سيمنحها عمرًا سياسيًا أطول، متجاهلة أن القوى الكبرى التي توظفها اليوم قادرة على قلب الطاولة غدًا كما فعلت مرارًا في تاريخ المنطقة، وهو ما سيحصل لتركيا الحالية كما حصلت في الماضي  للإمبراطورية العثماني، عاجلا أم أجلا.

وليس خافيًا أن جميع تحركات أنقرة السابقة كانت من أجل الهيمنة، بعنجهية الإمبراطورية العثمانية، لكن الفارق اليوم أن تحركاتها تُدار على خلفية رهبة من القادم الكوردي، إذ تدرك أن إقامة نظام لا مركزي فيدرالي في سوريا التي تتحكم بها، سيعني انتقال “عدوى الفيدرالية” إلى الداخل التركي، بما يهدد وحدة الدولة من منظورها القومي، هذه الرهبة هي التي تدفعها إلى محاربة قوات قسد، أي محاربة الوجود الأمريكي في سوريا، قبل أن تكون طموحًا توسعيًا بحتًا.

 وبالمنطق ذاته، فإن السعودية ودول الخليج، مهما بدت اليوم شريكة في بعض الملفات، ستجد نفسها قريباً في قائمة أعداء أنقرة، التي لن تتردد في إشعال حرب أهلية داخل سوريا إذا لم تحقق أهدافها كاملة، والرهبة ذاتها هي التي دفعت بهاكان فيدان أن يهاجم الإدارة الذاتية وقوات قسد بشكل مباشر ودون تحفظ دبلوماسي، ودفع بوزير خارجية الحكومة السورية الانتقالية، أسعد الشيباني أن ينعت بمكونات سوريا من على منصته في أنقره.

وما يجري اليوم ليس سوى نسخة محدثة من أسلوب الدولة العثمانية في سنواتها الأخيرة، حين كانت تدير بلاد الشام والجزيرة العربية بعقلية الوالي الممسك بخيوط الاقتصاد والدين والجيش، وتغذي الانقسامات بين القبائل والطوائف لتمنع قيام أي مشروع استقلالي أو إدارة ذاتية.

 آنذاك، كما اليوم، كان الهدف النهائي ضمان استمرار التبعية لمركز القرار في إسطنبول، ولو على حساب تفريغ المجتمعات من قواها الحية وإشعال الصراعات الداخلية، الفارق أن أنقرة الحديثة تلبس هذا النهج ثوب الخطاب الديمقراطي حين يخدمها، وتتحالف حتى مع خصومها العقائديين إذا كان ذلك يفضي إلى وأد أي مشروع يهدد مركزيتها، وفي مقدمتها المشاريع الكوردية الفيدرالية في سوريا والعراق، إنها ذات المدرسة التي مارست سياسة العصا والجزرة على ولاياتها العربية في مطلع القرن العشرين، وتعيد اليوم إنتاجها بوسائل الإعلام، والاقتصاد، والشبكات الدبلوماسية، مع فارق وحيد، أن التحدي الكوردي، المدعوم بوجود أمريكي ودولي، يجعل المعركة أكثر تعقيدًا، ويضع تركيا أمام احتمال مواجهة استراتيجية تفقد فيها القدرة على التحكم بالحدود الجنوبية، كما فقد أسلافها القدرة على الاحتفاظ بولاياتهم العربية عشية الحرب العالمية الأولى.

الولايات المتحدة الأمريكية

14/8/2025م

Scroll to Top