برادوست ميتاني
بلدة تربة سبيه في شمال وشرق سوريا، تقع على نهر الجراح (جمى جراحي) الذي ينبع من شمال كردستان، وتبعد مسافة ستة كيلومترات جنوب هذه الحدود (شمال كردستان) وعلى مسافة 30كم شرقي مدينة قامشلو وشرقها تقع مدينة ديركا حمكو تقريباً على مسافة 63 كم.
يخترقها الطريق العام قامشلو ـ ديرك، تقدر مساحتها بقرابة ٨٧٢٦٧ كم٢، والتعداد السكاني حسب إحصاء ٢٠٠٤ لبلدة تربة سبيه ٦٥٦٨٥ نسمة. ويجاورها سد مزكفت.
مدينة تربه سبيه، المعربة ظلماً إلى اسم القحطانية، تتبع إداريًا لمقاطعة قامشلو. تتميز المدينة بتنوعها السكاني، حيث يقطنها الكرد -منهم الإيزيديون-والعرب والسريان وغيرهم؛ ما يجعلها نموذجًا للتعايش بين مختلف الشعوب بثقافاتهم وأعراقهم وأديانهم.
جغرافية تربه سبيه
فيصل حقي رمضان من سكان تربة سبيه/60 عاما/ يتحدث عن نهر الجراح الذي هو العصب الرئيس لقرى تربة سبيه وقرى سنجق، له منابع من داخل سوريا، كنبع صبري علي أحمد، ونبع كيل حسناك (تل حسنات) ومنابع خارجية من الأراضي في باكور كردستان.
تقع البلدة وسط سهل خصب، يقسمها نهر الجراح القادم من باكور إلى قسمين. ويجاورها سد مزكفت، كما تطل عليها من الجهة الشمالية جبال طوروس البهية؛ ما يكسبها أهمية سياحية، وبها محطة فرعية لقطار الشرق حلب – الموصل، وصوامع لتخزين الحبوب ومؤسسات خدمية.
اسمها الأصلي «تربة سبيه»، سميت بهذا الاسم بسبب وجود أحجار بيضاء على القبور، التي ترقد فوق التلة الجنوبية لهذه البلدة، ومن ثم سميت بـ “قبور البيض” الترجمة الحرفية للمعنى، وكذلك للاسم السرياني “قبرو حويرو”، وعُرِّب الاسم أوائل السبعينات إلى “القحطانية”.
ما سبب تسمية تربه سبيه بهذا الاسم؟
تختلف التسميات والمكان واحد، يحمل في ثناياه وتعاريج أحيائه، ومياه نهره الجارية، وسكته الحديدية، عبق التاريخ؛ أما عن إطلاق اسم “تربة سبيه – القبور البيض” على هذه البلدة والإجماع على هذه التسمية رغم اختلاف اللغات يعود سبب التسمية لقبرين يعودان لرجلين مسيحيين من الطائفة السريانية يصل طول القبر منهما مترين، مصبوغين باللون الأبيض، وأغلب الظن بأنهما رجلا دين”.
لمحة تاريخية
أرسل لي مشكوراً المؤرخ أ. أحمد سعدون ما يلي: أُعطيت تربة سبيه لآل عجو من عشيرة جودكا من خلف آغا عام 1802م، آنذاك كانت تابعة لناحية أزناورى موثقة بسند تمليك خاقاني عثماني. بمجيء فرنسا أُعطيت لحاجو آغا الذي قدم تربة سبيه عام 1926م وتوفي عام 1940م . وأعاد إعمار الموقع من جديد وخلال 14 سنة التي قضاها حاجو آغا فيها، وجعلها حاضرة لمنطقة جراحى ليدير منها أملاكه في قرى جرحى كرى برى، كند كى سيد، دريجيك، مزكفت، أوتلجة، خزيموك، ماشوق، باباسي، ديرونا قلنكا، آلارشا.
أقام حاجو وأفراد عشيرته في تربة سبيه والقرى المجاورة. ولم يمض وقت طويل على تواجد حاجو حتى أصبح مركزاً لجذب الكثير من رافضي الاستبداد أمثال الأديب جلادت بدرخان، ومازالت هناك صخرة عند قرية مزكفت تسمى باسمه لات مير Lata mîr، والشاعر هزار موكرياني والثائر عبد رحمانى عليى أونس، وكور حسين باشا، وحجي موسى بكى خويتلي، من موش، وأمينى بريخانى، وحمزة بكى مكسي.
سكن في تربة سبيه الكرد والأرمن واليهود والآشوريون، وبنوا المسجد والكنيسة والمدرسة وجهزها آل حاجو بما يلزم من مستلزمات وتم تزويد تربة سبيه بمولد كهربائي.
بنى حاجو دار المضافة ليجلس فيها أولاده، وأبناء العشائر من مسلمين ومسيحيين وإيزيديين لمعالجة المشاكل الطارئة والاستجابة لحاجات الناس وإلى جنوبي المضافة بنت القوات الفرنسية ثكنة عسكرية بأحجار سوداء تسمى “قجلة”.
في البداية توزع أولاد حاجو مع عوائلهم على القرى، التي امتلكوها وتولى كل واحد منهم الآغاوية في قريته وعندما كبرت تربة سبيه انتقل أولاد حاجو تباعاً إليها، وبنوا لأنفسهم مباني إسمنتية على طرفي الطريق عام قامشلو – ديرك.
ساهم أولاد حاجو مع سكان تربة سبيه في بناء الحوانيت والمقاهي وإنشاء سوق تربة سبيه لتوفير حاجات الأهالي؛ ما جعل القرية مستقرة مرغوبة فيها وقبلة للناس.
أقام حاجو في تربة سبيه حتى عام 1930م عندما طلب منه الفرنسيون بضغط من الأتراك الابتعاد من منطقة الحدود مع تركيا، وبناء على طلب الفرنسيين نقل حاجو مكان إقامته إلى الحسكة حيث أقام فيها حتى وفاته 1940م.
انتخب حسن حاجو عدة دورات مندوباً في البرلمان السوري في عهد الاستقلال وكانت له علاقات قوية مع المسؤولين في دمشق ومن ضمنهم رئيس الجمهورية شكري القوتلي. كان حسن حاجو موضع تقدير واحترام كبيرين لدى المسؤولين في الحكومات السورية.
يذكر أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الشهير بالألوسي زادة في كتابه نشوة الشمول في السفر إلى إستنبول الصادر عام 1876م ما يلي: سرنا براحة على أرض تحكي الراحة وحللنا قرية (دكر) وهي بضم الدال المهملة والكاف العجمية على وزن سرر وتشتمل من البيوت على نحو مائة بيت، وبينها وبين دوكر ونصيبين تل الذهب، وتل الشعير. نرى هنا أن وجود هذه القرى الكردية في منطقة تربة سبيه قديم يعود إلى أكثر من تاريخ ذلك الكتاب للألوسي زادة الصادر في عام 1876م، وهو تاريخ كردي مواز لظهور ولبناء بلدة تربة سبيه.
تاريخ هذه البلدة العريقة /الحديث/ يعود إلى عام 1840م، حيث استقر عجو كوشتي على الضفة الشرقية من هذا النهر وهو من أحد بطون (جودكا) الذي ينحدر من عشيرة دوركا المعروفة بدفاعها عن أرضها، وعرضها تاريخياً. وقد قام ابنه حسن عجو كوشتي عام 1895م ببناء طاحونة للدقيق تعمل بالطاقة المائية، ولا تزال آثارها ظاهرة للعيان حتى تاريخ اليوم، وهي موجودة على النهر وفي وسط البلدة بين الشمال والجنوب. ومن الجدير ذكره أن كثيراً من سكان هذه البلدة القدامى والذين هم لا يزالون على قيد الحياة ذكروا: إنه حتى عام 1960م لم يوجد شخص من أصل عربي قد سكن هذه البلدة الوادعة سوى راعي غنم واحد فقط، وأما التغيير الديموغرافي فقد حدث بعد أن بدأ العمل بتنفيذ مشروع محمد طلب الهلال الشوفوني (الرجل الضابط الأمني) ومن محافظة درعا.
كان الشماس ملكي جرجس، من أسرة آل شاموشو المدياتية، يملك عقارات في منطقة تربة سبيه قبل عام 1915 بموجب سندات تمليك عثمانية. تعرضت هذه الأسرة لإبادة تامة خلال الفرمان. ومع خضوع سوريا لسلطات الانتداب الفرنسي، تجاوزت فرنسا حقوق المالكين الشرعيين، مخالفةً الوثائق والسندات القديمة، وسجلت الأراضي بأسماء آخرين لحماية مصالحها الخاصة في المنطقة. في عام 1922، أُلحقت تربة سبيه بالأراضي السورية كجزء من الجزيرة السورية، ضمن عملية ضم تمت على مراحل.
في العام ذاته، ضُمّت الحسكة وسرى كانيه وأُنشئ قضاء مركزه الحسكة تابع لمتصرفية دير الزور. اتخذت القوات الفرنسية من تل قيرو القريب من قرية حلوة مركزًا لها، وأسست قضاءً جديدًا سُمّي قضاء كرو، الذي نُقل لاحقًا إلى قامشلو.
بدأت عملية إعمار تربة سبيه بمطحنة في الجهة الشمالية، وتوافد إليها بدو ساكنو الخيام، حيث تجمعوا حول نهر الجراح. وفي عام 1926، لجأت إليها أسر عديدة هاربة من ظلم الأتراك العثمانيين في تركيا.
لعبت الأسر السريانية دورًا بارزًا في بناء البلدة، كما استقرت في القرية عائلات أرمنية وأخرى يزيدية، إلى جانب أسرة آل حاجو التي عانت من خلافات مع أسرة آل صاروخان، وسعت إلى بسط نفوذها في المنطقة عبر تملك بعض القرى.
أدت الكنيسة دورًا هامًا في استقرار السكان وتوفير الطمأنينة، ما شجعهم على تطوير الزراعة وزيادة المحاصيل. كما برز مخاتير ينتمون إلى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية.
رغم حداثة عهد تربة سبيه كبلدة، إلا أن موقعها الجغرافي ظل مرتبطًا بالحضارة، إذ تبعد 14 كيلومترًا فقط عن تل ليلان الأثري الذي بنيت عليه قرية كردية، هذا التل شهد حضارات زاهية منذ الألف الثاني قبل الميلاد وأكثر، عندما اتخذه شمشي حدد الآرامي عاصمة له فيه آثار حضارات قديمة كثيرة ولكن الأنظمة تكتم على العديد منها لأنها خورية وكيتانية وغيرهما من أسلاف الكرد. يؤكد ذلك أن المنطقة المحيطة بالتل كانت مركزًا حضاريًا مهمًا. ومع ذلك، فإن تقلبات الزمن أهملت هذا الإرث، ولم تحظَ تربة سبيه بما يليق بموقعها التاريخي. فنجحت وحدات حماية الشعب (YPG) منذ عام 2013 بتحريرها كلياً ومازالت تحميها حتى اليوم.
وللتاريخ القديم حصة في حضارة منطقة تربة سبيه، حيث جرت محاولات عديدة لتحديد موقع تل ليلان (قرية ليلان الكردية)، واستمرت جهود علماء الآثار في البحث عنه حتى اكتشفه عام 1878 الآشوري هرمز رسام. كان رسام ضمن بعثة أمريكية بقيادة البروفيسور هارفي وايس، التي كُلفت بإجراء مسح شامل للتلال الأثرية المنتشرة بين الموصل وحلب. بعد إنجاز مهمته، قام هرمز رسام بتوثيق مذكراته وخبراته وملاحظاته المتعلقة بالآثار. ففي هذا الكتاب، قدم وصفًا مفصلًا عن رحلته التي قام بها ممتطيًا ظهر دابة. مر خلال الرحلة بقرية دمير قابو (ذخيرا- باب الحديد) وأشار أيضًا إلى الجسر الخشبي على نهر الجراح، حيث قضى ليلته في قرية دوكر القريبة من البلدة. في هذه القرية، تم استجوابه حول وجود آثار لحضارات قديمة في المنطقة. يُقال إن هارفي وايس استفاد لاحقًا من مذكرات هرمز رسام، التي كانت دليلًا مهمًا ساعده في أعمال التنقيب. أما تل محمد ذياب الذي يقع إلى الجنوب من تربة سبيه1 كم على الطريق الممتد حتى جنوب الرد، بدأ التنقيب فيه منذ عام 1987م واستمر حتى العام 2008 على عدة مراحل، وأكدت على وجود بقايا قصر ومعبد ولقى أثرية أخرى تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد وفي كلا التلين آثار قديمة من حضارات متعاقبة كالخورية والميتانية والآشورية.
يوجد في مدينة تربة سبيه كنيسة السيدة العذراء مريم التي بناها الأخوة المسيحيون عام 1928 وهي كنيسة صغيرة مساحتها 7×3 أمتار، مصنوعة من الطوب الترابي، وكان هذا العمل بتوجيه من المطران يوحنا عباجي وبهمة القس مراد بن القس إيليا. شهدت الكنيسة عمليات توسيع وترميم عام 1949، إلا أنها تعرضت لتصدع في هيكلها نتيجة فيضان عام 1962. على إثر ذلك، جرى ترميمها باستخدام الطوب والخشب إلى جانب البلوك والإسمنت، واعتمد في ذلك الطراز المعماري الحديث. اكتمل بناء الكنيسة بحلتها الجديدة عام 1993، مستوحى من نمط بناء كنيسة القديس مار قرياقس في قامشلو.
وللرجل المسيحي صاحب أقدم محل للعطارة في تربه سبيه إيشوع سعيد شمعون تولد 1925م حضور شخصي لافت وهو الوافد على تربه سبيه من تركيا أيام المجازر التي ارتكبت بحق الأرمن من العثمانيين.
كانت السلطات العثمانية تطلق على مناطق تربة سبيه اسم «السنجق» وهي كلمة تركية تعني اللواء؛ ما يشير إلى أن الموقع كان مقرا لقيادة لواء عسكري يحكم التجمعات السكانية في هذه المنطقة ومازال الاسم دارجاً لدى أهلنا في المنطقة.
في عام 1926م، بعد ثورة الشيخ سعيد بيران 1925م انتقل حاجو آغا زعيم عشيرة هفيركا الكردية إلى بنخت بعد مذبحة ألاقمش التي تلت حلوله ضيفا على أهلنا من عشيرة قلنك وشمخالكا أحد فروع عشيرة عربيا الكردية في تلك القرية والتي كان ذلك أحد أسباب المذبحة لأن الأهل من عائلة حجي أوسمان حمته من اعتقال العناصر التركية له، والتي تبعته حتى مضافة الشهيد حجي أوسمان كبير القرية، وكان حاجو آغا قادمًا من “سرخت” منطقة مزيزيخ بمدياد إلى منطقة تربة سبيه، ولكن ثمة دلالات تشي بأن حاجو آغا كان له وجود في المنطقة قبل ذلك، حيث كان يرسل رجال ويهاجمون على الفرنسيين كما حدث في مخفر بياندور الفرنسي عام 1923م.
إن جميع القرى الواقعة في شمال تربة سبيه كردية صافية والواقعة في الجنوب عربية وكردية وبشكل عام المجتمع عبارة عن فسيفساء يضم الكرد -منهم الإيزيديون خاصة في قرى مزكفت – والعرب إلى جانب السريان والأرمن الذين تركوا بصماتهم عبر العديد من الكنائس والآثار المسيحية المنتشرة.
للإخوة المسيحيين وجود قوي في منطقة تربة سبيه والدليل هو عدد من الكنائس التابعة للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في قرى مثل كركي شامو، قصروك، غردوكة، سليمان ساري، محركان، خويتلة وغيرها.
بعد ثورة روج آفا2011م، واندثار الاستبداد القومي برحيل نظام البعث أصبح التعليم في جميع مراحله الدراسية في المدينة بلغة جميع مكوناتها، أي الكرد والعرب والسريان.
بعد تحرير تربة سبيه من وحدات حماية الشعب، باتت من البلدات التابعة للإدارة الذاتية في مقاطعة الجزيرة، وباتت المؤسسات الخدمية والتنظيمية تقدم كافة خدماتها في الدفاع والتربية والصحة وسواها.
صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=74493





