محمّد بكريّة
في الواقع، إنّ أمسيات نادي حيفا الثّقافيّ مميّزة واستثنائيّة، ولا أريد أن أخصّ أمسيةً بالتميّز دون غيرها، وهذا بفضل الطاقم المقلّص الذي امتهن التطوّعَ وأخذ على عاتقه رفعَ رايةِ الثّقافة العربيّة عاليا، في زمنٍ قد اشرأبّت به ثقافةُ استهلاك المضامين المارقة لتنحني أمامها الثّقافة الأصيلة الحرّة، مع الأسف الشّديد، راجين أن تكونَ هذه غيمةً عابرة سرعان ما تمّحي وتزول.
فشكرا لكلّ من ساهم ويساهم في استنهاض الحَراك الثّقافيّ من خموله الذي نحن أحد أسبابه، وربّما أيضا.. التحوّل الفكريّ العامّ والعالميّ الذي أقعدَ هذا الجسم الثّقافيّ ولو إلى حين.
وبعد: لا أحبّ الخطابة أبدا، وبما أنّ إدارةَ أمسية ثقافيّة فيها بُعدٌ خطابيّ فلذلك لا تلوموني، وسأحاول الاقتضابَ ما استطعت.
حينما بلغني أنّ الكاتبة صباح بشير قد أعدّت نتاجا نقديّا تحت عنوان: “نفحات من النّقد” لم أتفاجأ أبدا، ولم أستهجن السّياقَ الأدبيّ الجديد الذي خاضت غمارَه، وهو النّقد؛ لأنّها ببساطة كانت قد ضيّعت عليّ المفاجأة منذ فترة، بعدما أدهشتني وحيّرتني في آن واحد بدراستها التّحليليّة التي أعدّتها حول روايتي الأولى “أرملة من الجليل” كانت دراسة مطوّلة، صقلتها بعينٍ قارئ ثاقبة، وفكرٍ عارفٍ ومدرك، وذكاء المتلقّي الوفيّ للنّصّ الذي يطالعه، الوفيّ نعم، هذه أهمّ سمة للقارئ النّاقد أن يكون وفيّا ومخلصًا في قراءتهِ المهنيّة للنصّ، حتّى يفلحَ في نقده والإضاءة على مواطن الضّعفِ والقوّة فيه، فاجأتني بثقافتِها، وإلمامِها بكلّ شاردة وواردة في الرّواية إلى حدّ شعوري بأنّها شاركتني الكتابة، أو على الأقل أنا قد شاركتهُا أفكاري وخيالاتي، فرحلة الإبداع والاستكشاف الحقيقيّة لا تستلزم الذّهاب إلى أراضٍ جديدة، بل تستلزم الرّؤية بعيون جديدة.
صباح بشير بدراستها لم تشأ أن تسقِطَ واجبا قد طُلب منها، ولم تشأ أن تسجّل في أرشيفها رقما جديدا لدراساتها، بل أرادت أن تقدّم لي وللقارئ ما يحتمُ عليها ضميرها الأدبي، فهي إنسانة مخلصة لنفسِها، ولكلّ ما تقدّمه، وليست كآخرين ممّن يقرأون النصّ بعين النّاقد المهنيّ الإنسان. وكما قال نجيب محفوظ: “حتّى يكون أيّ شخص موهوبا، قبل كلّ شيء عليه أن يكون إنسانا”.
صباح بشير لم تفاجئني بنتاجها الجديد أبدا، لكن أوقفتني مع تساؤلٍ مشروع، كيف لهذه الكاتبة والتي عرفتها من خلال إصداراتها الرّائعة، كيف لها أن تجبّ الكثيرين من النّقاد الذين سبقوها؟
أقولها بصراحة وأنا مسؤول عن كلّ حرف، صباح بشير جبّت وغيّبت عددا ممّا كنّا نعتبرهم روادَ النّقد الأدبيّ، كلّ ذلك من خلال عدد من الدّراسات لمجموعة من كتابِنا وشعرائِنا الذين نعتزّ بهم ونفتخر.
وجودُها على السّاحة الأدبيّة غيّب حضورَ الكثيرين.. لستُ باحثًا ولا ناقدًا، لكنّني أمتلك فراسة القارئ الكاتب، التي تمكّنني من الفصل بين الغثّ والسّمين، الجيّد والسّيئ، المبدع والاعتيادي.
رحلتها الأدبيّة لم تبدأ منذ عقود، فامتهانُها للكتابة قصيرٌ نسبيّا، لكن.. وأقولها بشفافيّة ووضوح ودون تلكّؤ أو محاباة، لقد أثبتت بنتاجاتها المعروفة حضورَها القويّ على ساحتِنا الأدبيّة، إذ كتبت الرّواية، القصّة الطويلة، كما حرّرت وأعدّت سلسلة من الإصدارات التّوثيقيّة لنادي حيفا الثّقافيّ.
من رواياتها” رحلة إلى ذات امرأة”، ” فرصة ثانية”، قصة طويلة بعنوان: “طريق الأمل”، وكتاب في أدب الرّسائل مع الأديب جميل السّلحوت، وكتاب بعنوان” شذرات نقديّة”، والكتاب النّقديّ الأخير “نفحات من النقد”.
بمعنى أنّها “مولتي” أيّ متعدّدة المواهب، ولم تتتلمذ على يد أحد الكتّاب أو المدارس الأدبيّة، بل هي من عملت جاهدة دون كلل أو ملل، وربّتْ ونمّت موهبتَها الفكريّة الأدبيّة، المشغولة بثقافة واسعة بفضل دراساتها، حيث حصلت على بكالوريوس في العلوم الاجتماعيّة، ثمّ ماجستير دراسات ثقافيّة، والآن هي طالبة دكتوراة في موضوع علم الاجتماع التطبيقيّ.
كتبت ولا تزال في الصّحف العربيّة والمحلّيّة وفي سياقات متعدّدة، عملت لفترة كمحاضرة في كليّة بيت بيرل، وشاركت في العديد من الورشات والنّدوات في البلاد والخارج.
صباح تتمتّع بجرأة، هي وليدة الثّقة بالنّفس، وثقتها بامتلاك أدوات الكتابة، وإلّا كيف نفسّر تنوّع مجالات كتاباتها، حتّى اقتحمت ساحة النّقد.
نصل الآن إلى نتاجها الأدبيّ الجديد ” نفحات من النّقد”، حيث أوردت في متن كتابها ما يلي:
استهلّت بدراسة عن الشّعر المنثور، أو القصيدة النّثريّة، وهو موضع إشكاليّ جدليّ، رافق الشّعراء ولا يزال، لقد تجرّأت على إعداد هذه الدّراسة الجريئة، المقنعة، لتفتتح بها سلسلة دراساتها.
ثمّ أتبعتها بدراسات عديدة، تناولت من خلالها أعمالا أدبيّة لنخبة من نجوم الأدب المحليّ أمثال الأديب محمود شقير.
تكتب (ص8): “لقد كان الهمُّ الأوّل الذي وجّه خطاي في هذا العمل، هو الكشف عن الجماليّات الخفيّة، التي قد لا تظهر للقارئ العادي، وتبيان الأبعاد الفكريّة والفنيّة التي تسهم في بناء المعنى الكليّ للعمل الأدبيّ، لم أكتف بالوصف السّطحيّ أو السّرد الانطباعيّ، بل سعيت إلى الغوص في أدقّ التّفاصيل، من اختيار المفردات وتراكيب الجمل إلى بناء شخوص النّصوص وتطوّرها، ومن تقنيات السّرد إلى توظيف الصّورة الشّعريّة والإيقاع والزّمان والمكان وغيرها”.
لقد نجحت بشير في هذه السّياقات نجاحًا بارزًا، وهذا النّجاح يتجلّى من خلال دراساتها لعدد من النّتاجات الأدبيّة، فهي ليست قارئة عاديّة كما أسلفت، لذا لم تتناول العمل الأدبيّ بسطحيّة كما يحدث لدى البعض، بل غاصت في عمق النصّ الأدبيّ حتّى استخرجت من أعماقه تلك الدُرَر النّقديّة.
بدأت بتأمّلاتها في الشّعر العربيّ المعاصر لتصل إلى قراءة للشّعر الحرّ والشّعر المنثور، وكان لها مقالٌ جريء ومقنع، دافعت وبقوّة عن جمال هذا النّوع من الشّعر، رغم تطرّف البعض للشّعر العامودي، وإنكارِهم الشّعر الحرّ والمنثور.
أوردت مقالًا جاءت مقدّمتُه تحت عنوان: “روح الشّعر في النّصّ النّثريّ”، إذ تطرّقت إلى نصّ ” أغنية المجنون” للشّاعر الإماراتي “عادل خزام”، وركّزت على جمالها القصائديّ، رغم عدم التزامها بالوزن والقافية التّقليديّة، وصنّفته بنوع أدبيّ غير مألوف، لا هو مقالة ولا قصّة، بل جامع بين النّثر الحرّ وروح الشّعر.
أوصاف لم نطالعها سابقًا وتصنيفات لم نعهدها.
كما أسهبت في تحليل النّص ووقفت على الأبعاد النّفسيّة، صدى الاغتراب، وقلق الوجود، ورسالة الأمل المنطلقة من النّصّ.
ثمّ عرّجت على قصيدة ” مطر على خدّ الطين” للشّاعر العراقيّ “حسين السّيّاب”، ثمّ قصائد أخرى مثل قصيدة “عين القلوب” للشّاعر ” رفعت زيتون”.
عادت لتسلّط ضوءا ساطعا على قصيدة” حيفا النّائمة” للأديب نايف خوري، كشفت عن أسلوبه الفلسفيّ بهذه القصيدة، انتقلت إلى بعد آخر” رحلة عبر اللّاوعي”، حيث شرّحت القصيدة بمبضع الباحث النّفسيّ، وترجمت المعاني الرّمزيّة للأدوات التي استخدمها الشّاعر، ووقفت عند مدلولاتها النّفسيّة ومعانيها الحياتيّة، مثلا: “مصباح العتمة” الذي يعكس الافكار والمشاعر المخفيّة في اللّاوعي.
الجرو والعصفور: إذ يمثّلان الرّغبات الغريزيّة، والعجوز يمثّل الحكمة.
لقد نجح الكاتب بذكائه وموهبته في توظيف هذه الرّموز لخدمة المضمون القصائديّ، ونجحت النّاقدة بشير أيّما نجاح في فكّ هذه الرّموز.
تطرّقت إلى تنوّع الإيقاع في القصيدة، ثمّ إلى رسائِلها الانسانيّة والأبعاد السّياسيّة، لم تترك بابا يطرقه ناقدٌ آخر.
كما توقّفت مليّا عند قصيدة للشّاعر صالح أحمد كناعنة بعنوان: “أقنعة الرّهبة والصمت”، كتبت عن الرّمزيّة في القصيدة، وتناولت عبثيّة الحياة والأمل، الموسيقى وأدواتها، والاستعارة اللّغويّة المستخدمة في النّصّ.
من شعرائِنا المحلّيّين، انتقلت إلى قصيدة “أعطني النّاي وغنِّ” لجبران خليل جبران، وقصيدة الأطلال للشّاعر الكبير إبراهيم ناجي، وأكملت لتصل إلى مضامين عدد من الرّوايات. جاء هذا الفصل تحت عنوان ” بوح السّرد ومرايا الرّوح، بين فنّ الرّواية والقصّة وتجليّاتِها الإنسانيّة”، وقد ناقشت فيه عدداً من القصص القصيرة والرّوايات، من بينها مجموعة قصصيّة للدكتور نبيه القاسم تحت عنوان” لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟”.
توقفت عند مواطِن جمالياتِها الأدبيّة، الخصائص والأسلوب الفنيّ، ثمّ وصلت إلى رواية أديبِنا الفاضل، السامق الأستاذ محمود شقير”منزل الذّكريات”، فجاء تحليلُها شاملًا متكاملًا، استهلّته بإبراز بُعد المكان في الرّواية، تلك الأمكنة التي شكّلت خرائط نفسية لشخوص العمل، ثمّ ناقشت الأبعاد الزّمنيّة في الرّواية، ولم تغفل عن طرح أحداثها، وعمق النّصّ، والبعد السّياسيّ فيها.
ثمّ استطردت في سياق مقالاتها التّحليليّة لعدد من الرّوايات، كرواية الأديب قاسم توفيق” أولاد جلوة” وآخرين كثر.
ولأنّي لستُ ناقدًا وليست مهمّتي هنا النّقد والتّحليل، ولأنّ زمن الأمسية محدود ولا يليق بي الاسهاب أكثر، سأترك المساحة الزّمنيّة للمشاركين الأفاضل، فكلٌ لديه ما يقول، لكن.. قبل أن أدعو الأستاذ الأديب الفذّ محمود شقير، أقول للأستاذة صباح بشير:
لقد كتبتِ، أفضتِ، وأبدعتِ، هنيئا لنا بهذا القلم، وهنيئا لحركتنا الثّقافيّة بوجودُك، مع هذه الطاقة، هذه المدارك، وهذا الفكر.
ولي ملاحظة، أرى من الضّروريّ أن يجد هذا النّتاج الأدبيّ دروبه السّلسة إلى رفوف مكتبات الجامعات والمؤسّسات، التي تُعنى بالبحث الأدبيّ؛ ليكون مرجعًا لكلّ باحثٍ أو مطالع، وللمهتمّين بالاطّلاع على الدُرر الكامنة في لجَج النّصوص الواردة في هذا الكتاب، كي توسّع افاقهم البحثيّة والمعرفيّة.
- نصّ الكلمة التي أُلقيَت في حفل إشهار كتاب “نفحات من النّقد” في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 04.09.2025
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=75468