سوريا بين المركزية واللامركزية: أي طريق لمستقبل البلاد؟

نورالدين عمر

مع اقتراب الحديث عن مرحلة ما بعد نظام بشار الأسد وحزب البعث، يبرز السؤال الأكثر حساسية في سوريا: أي شكل ستأخذه الدولة الجديدة؟ هل ستستمر في نظامها المركزي الصارم الذي ساد لعقود، أم ستتجه نحو اللامركزية السياسية وربما الفيدرالية؟

الجدل حول هذه المسألة يتسع بين مختلف المكونات القومية والدينية، فبينما يتمسّك البعض بالمركزية باعتبارها “ضمانة لوحدة البلاد”، يراها آخرون سببًا رئيسيًا للاستبداد والتمييز والتهميش الذي عانت منه المحافظات والمكوّنات لعقود طويلة.

تباين المواقف بين المكونات

رغم غياب استطلاعات دقيقة للرأي العام، إلا أن المؤشرات واضحة:

الكرد والدروز والعلويون والسريان والأرمن والمسيحيون بشكل عام، يميلون إلى اللامركزية السياسية كصيغة تضمن لهم حقوقهم وتمنحهم إدارة شؤونهم بأنفسهم.

العرب السنة يبدون أكثر تباينًا؛ فهناك من يدعم اللامركزية، بينما يخشى آخرون من أن تتحول إلى مقدمة لتقسيم البلاد.

لكن الصورة العامة تؤكد أن أكثر من نصف السوريين اليوم أقرب إلى تأييد نموذج لا مركزي ديمقراطي يوازن بين وحدة الدولة وضمان حقوق المكونات.

المركزية: تجربة فاشلة

النظام المركزي في سوريا حول الدولة إلى سلطة أحادية القرار تتمركز في العاصمة. القرارات كانت تتخذ في دمشق وتفرض على جميع المحافظات دون مراعاة لخصوصياتها. ورغم أن المركزية تعتبر أحيانًا مفيدة في الدول الصغيرة المتجانسة، إلا أنها في سوريا المتنوعة قومياً ودينياً كانت كارثية.

لقد أدت إلى شعور عميق بالتهميش، وخلقت فجوة واسعة بين السلطة والشعب، وفتحت الباب أمام الاستبداد الذي جسده حزب البعث ونظام ٱل الأسد، ليحكم البلاد بعقلية “مزرعة” لا “دولة”.

اللامركزية السياسية: خيار واقعي

اللامركزية السياسية تقوم على منح المحافظات أو الأقاليم مجالس محلية منتخبة بصلاحيات واسعة في مجالات التعليم والاقتصاد والثقافة والإدارة، بينما تبقى ملفات السيادة الكبرى كالدفاع والسياسة الخارجية والعملة بيد الحكومة المركزية.

هذا النموذج معمول به في العديد من الدول الديمقراطية، ويمكن المواطنين من المشاركة المباشرة في إدارة شؤونهم، ويخفف من الشعور بالتهميش. التجربة السورية في مناطق شمال وشرق سوريا – حيث تطبق صيغة من اللامركزية – أظهرت أن هذا النموذج لا يهدد وحدة البلاد كما يروج البعض، بل يعززها، إذ أكد الكرد مراراً تمسكهم بوحدة سوريا مع المطالبة بحقوق دستورية واضحة.

الفيدرالية: بين المخاوف والفرص

الفيدرالية نظام متقدم يمنح الأقاليم حكومات وبرلمانات ودساتير محلية ضمن اتحاد وطني شامل. هذا النموذج أثبت نجاحه في دول كبرى مثل الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا، حيث أسس لديمقراطية راسخة واستقرار سياسي.

لكن في سوريا، لا تزال كلمة “فيدرالية” تثير حساسية شديدة، خاصة لدى بعض الأوساط العربية التي ترى فيها تهديدًا لوحدة الدولة، رغم أن التجارب الدولية تثبت عكس ذلك. الخوف من الفيدرالية في السياق السوري يعود في جوهره إلى العنصرية والشوفينية التي لا تزال تسيطر على قسم كبير من المجتمع، وضعف الثقة المتبادلة بين المكونات، أكثر مما يعود إلى خلل في الفكرة ذاتها.

أي نظام لسوريا الجديدة؟

الواقع يفرض أن المركزية لم تعد خيارًا ممكنًا، لأنها ستعيد إنتاج التهميش والاستبداد. أما الفيدرالية الكاملة فقد تكون صعبة في المرحلة الراهنة بسبب الهواجس وعدم فهم الفيدرالية باعتبارها اتحاد وليس انفصال.

وعليه، فإن الخيار الأكثر واقعية هو اللامركزية السياسية الواسعة:

دولة موحدة بدستور جديد يعترف بالتنوع القومي والديني.

مجالس محلية منتخبة تدير شؤونها اليومية والتنموية.

حكومة مركزية تحتفظ بملفات السيادة الكبرى.

ضمانات دستورية واضحة تكفل حقوق جميع المكونات.

ومع تطور التجربة السياسية، يمكن لسوريا أن تنتقل لاحقًا نحو صيغة اتحادية أكثر رسوخًا إذا توافق أبناؤها على ذلك.

الملف العسكري: عقدة أساسية

أي نقاش عن مستقبل النظام السياسي لا يكتمل دون التطرق إلى الملف العسكري. فتنوع القوى المسلحة اليوم يمثل تحديًا كبيرًا أمام أي دولة جديدة. الحل الواقعي يكمن في خطة مرحلية تمتد لعدة سنوات لدمج جميع الفصائل – بما فيها قوات سوريا الديمقراطية والفصائل القريبة من السلطة – في جيش وطني موحد، يبدأ عبر مجلس عسكري مشترك يضع أسس بناء مؤسسة عسكرية مهنية تمثل جميع السوريين.

الخلاصة

سوريا بلد متعدد الهويات، وأي محاولة لإعادة إنتاج المركزية بالقوة لن تقود سوى إلى صراع جديد وربما حرب أهلية تقسم البلاد إلى كيانات متصارعة. بالمقابل، فإن اللامركزية السياسية الواسعة قادرة على إعادة الثقة بين المكونات، وتجنيب البلاد شبح الحرب، وتأسيس دولة ديمقراطية موحدة يتساوى فيها جميع المواطنين.

Scroll to Top