د. ضياء عبد الخالق المندلاوي
في صباح الحادي عشر من أيلول عام 1961، دوّى صوت البنادق في جبال كوردستان معلنًا انطلاق واحدة من أعظم الثورات التحررية في تاريخ المنطقة، بقيادة الزعيم الكوردي الخالد الملا مصطفى بارزاني، رفع أبناء كوردستان راية المقاومة ضد سياسات القمع والتهميش التي انتهجتها الحكومة العراقية آنذاك، لتبدأ ملحمة نضالية استمرت أربعة عشر عامًا متواصلة.
لم تكن ثورة أيلول وليدة لحظة عابرة، بل جاءت نتيجة تراكمات سياسية أعقبت ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي. فقد تعهد الزعيم عبد الكريم قاسم ببناء عراق ديمقراطي يحتضن جميع مكوناته، غير أن السلطة سرعان ما انزلقت إلى الحكم الفردي، وتراجعت الحريات العامة، وتعرض الشعب الكوردي لمحاولات ممنهجة للتهميش والإقصاء. ورغم الجهود المتكررة التي بذلها بارزاني لإقناع قاسم بالاعتراف بحقوق الكورد، كان آخرها لقاء مطلع عام 1961، إلا أن هذه المساعي لم تجد آذانًا صاغية. بل عمدت الحكومة إلى ملاحقة أعضاء الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وإغلاق صحيفة “خهبات”، قبل أن تشن حملة عسكرية واسعة ضد القرى والمدن الكوردية.
في الحادي عشر من أيلول، أطلقت القوات العراقية هجومًا كبيرًا شاركت فيه الطائرات الحربية وأفواج “الجحوش” الذين جرى تسليحهم من بعض أبناء الكورد. كانت قرى بارزان، المعقل التاريخي للثورة، الهدف الأول لهذه العمليات، لكنها سرعان ما تحولت إلى مركز إشعاع للمقاومة المسلحة، التي امتدت ألسنتها إلى مختلف مناطق كوردستان، لتؤكد أن إرادة الحرية أقوى من أي آلة عسكرية.
وعلى الرغم من شراسة الحملات التي واجهتها، صمدت الثورة حتى عام 1975، وتمكنت من تحقيق إنجازات بارزة، أهمها توقيع اتفاقية 11 آذار 1970 التي اعترفت بالحقوق القومية للشعب الكوردي ومنحت الحكم الذاتي للإقليم. كما نجحت الثورة في نقل صوت الكورد إلى المحافل الدولية والإعلام العالمي، بعد أن توافد عشرات الصحفيين إلى مناطقها لتوثيق معاناة الناس وتسليط الضوء على حقيقة ما يجري بعيدًا عن التعتيم الحكومي.
لكن هذه المسيرة تعرضت لانتكاسة قاسية عقب توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975 بين العراق وإيران، السيئة الصيت وتنازلات عراقية في شط العرب، ورغم أن الاتفاقية وجهت ضربة للثورة، إلا أنها لم تنه إرادة النضال، حيث انطلقت ثورة كولان في أيار 1976 كامتداد طبيعي لروح أيلول.
لقد أثبتت ثورة أيلول أنها لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت مدرسة حقيقية للنضال شارك فيها أبناء كوردستان من مختلف طبقاتهم وأديانهم ومذاهبهم. ومن رحمها انبثقت انتفاضة ربيع 1991 التي مهدت الطريق لتأسيس برلمان وحكومة كوردستان عام 1992، وصولًا إلى استفتاء الاستقلال عام 2017. وقد أكدت الثورة على حقيقة جوهرية، وهي أن لا قوة قادرة على كسر إرادة شعب يطالب بحقه في الحرية، وأن وحدة الصف الكوردي هي الضمانة الأساسية لصون المكتسبات الدستورية وحماية المستقبل.
واليوم، ومع اقتراب انتخابات برلمان كوردستان في 11 تشرين الثاني 2025، يستعيد الشعب الكوردي دروس أيلول، التي أكدت أن النصر يولد من التضحيات وأن الديمقراطية لا يمكن أن تترسخ إلا عبر النضال والتاريخ المشرق، فإننا واثقون أن شعب كوردستان سيجدد ثقته الراسخة بمبادئ الحزب الديمقراطي الكوردستاني ونهجه القومي والوطني، وسيمنحه مجدداً ثقته ليواصل حمل رسالة الحرية والكرامة.
بعد مرور أربعة وستين عامًا، تبقى ثورة أيلول رمزًا خالدًا في ذاكرة الكورد ووصية للشهداء بأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع بالنضال والإرادة. إنها ليست مجرد حدث تاريخي، بل حجر الأساس الذي بنيت عليه الحركة التحررية الكوردية، وستظل منارة تهدي طريق الأجيال المقبلة نحو مستقبل أكثر حرية وكرامة.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=75665





