حزب “الوحـدة”: “أي محاولة للقفز من أي جهة كانت فوق المكاسب التي تحققت بدماء آلاف الشهداء سواء على الصعيد القومي الكردي أو الوطني السوري لن يجلب لها سوى الخذلان”

 

تقرير سياسي

شهدت الساحتان الدولية والإقليمية أحداثاً سياسية مهمة، ومن المتوقع أن يتعقد المشهد السياسي بسبب تأثيرها، وأن تتصاعد التوترات. كما سيكون لها عميق الأثر على مستقبل ومسار الحوكمة في سوريا.

فعلى صعيد السياسات العالمية:

استعرضت الصين قوتها العسكرية بعد أن دعت الزعماء في العالم إلى الاحتفال بيوم النصر على اليابان في ذكراها الثمانين، وذلك بتاريخ 2 أيلول، وقد حضر أبرز حلفاؤها: روسيا وكوريا الشمالية إضافة إلى إيران. وكان الحدث مفصلياً لدرجة أن شكل بداية لمرحلة جديدة. وتمظهر ذلك في التمحور حول ما يشبه حلف: روسيا – الصين – كوريا الشمالية، بحضور عدد من القادة المتحالفين مع هذا النهج السياسي الجديد. من الملفت أن الصين قد استخدمت في الاستعراض العسكري آلاف الجنود والخبراء كما استعرضت أحدث أنواع الأسلحة لديها، لتفاجئ العالم بتقنيتها العسكرية العالية، في الوقت الذي كانت فيه متحفظة على الكشف عنها سابقاً. وفي تصريح شبه كوميدي علق الرئيس الأمريكي على المناسبة بأن صديقه بوتين يتآمر مع الرئيس الصيني عليه… القراءة الأولى للحدث من الزاويتين الدبلوماسية والعسكرية توحي بأن عهد القطبية الأحادية قد طوي. لقد كان الحدث بمجمله رسالة إلى الغرب أرادت الصين توجيهها وتتلخص في: أن الصين تسعى إلى تحدي النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، لتعزيز نفوذ بكين (وحلفائها) على الساحة العالمية.

لا يمكن فصل عملية تعديل وإعادة تسمية وزارة الدفاع الأمريكية إلى وزارة الحرب عن هذا الحدث. وفي سياق متصل جاء الموقف الأوربي المتخوف من الاصطفاف الصيني – الروسي عبر تصريح تلخص في:  “عندما نرى الرئيس شي واقفاً إلى جانب قادة روسيا وإيران وكوريا الشمالية في بكين اليوم، فإن الأمر لا يقتصر على مشهد رمزي مناهض للغرب، بل يمثل تحدياً مباشراً للنظام الدولي القائم على القواعد”.

وفي سياق مرتبط شهدت قمة منظمة شنغهاي للتعاون في مطلع أيلول خطاباً حاداً مناهضاً للغرب بزعامة الولايات المتحدة، في مسعىً واضح من أطرافها، وفي مقدمتهم روسيا والصين، لبناء جبهة دولية موازية للمنظومة الغربية، تُعيد توزيع موازين القوة وتمنح أعضاءها مجالاً أوسع للمناورة في القضايا الإقليمية والدولية. هذا التوجه لم يكن معزولاً عن الملف السوري، بل عكس رغبة موسكو في إدراج سوريا ضمن مسرح اختبار التوازنات الجديدة، ومحاولة الاستثمار في المرحلة الانتقالية، بما يجعل الصراع في سوريا جزءاً من سباق أوسع على شكل النظام الدولي القادم.

في المجال السوري:

أعادت الولايات المتحدة الأميركية تثبيت موقعها بوصفها الفاعل الأكثر تأثيراً في ضبط إيقاع مسار المرحلة الانتقالية في سوريا، عبر توليف خطاب البيت الأبيض مع البنتاغون بشأن قوات سوريا الديمقراطية، والتشديد على أنها ليست امتداداً لحزب العمال الكردستاني بل شريك وطني في معادلة الانتقال. لتعيد تأكيد حضور واشنطن في رسم مسار الصراع وتوازناته. هذا الموقف والتموضع الأميركي جاء في سياق صراع دولي وإقليمي متجدد على الجغرافيا السورية، حيث تسعى روسيا لتكريس نفسها ضامناً عسكرياً وسياسياً لمسار الانتقال السياسي، فيما تتحرك الصين بحذر موازنة بين مصالحها الاقتصادية وإرث علاقاتها التقليدية مع منطقة الشرق الأوسط، بينما يربط الاتحاد الأوروبي أي انخراط اقتصادي أو دبلوماسي بمقدار التقدم في العملية السياسية، ليظل القرار الدولي ٢٢٥٤ الإطار القانوني والسياسي الأوحد الذي لا بديل عنه للحل، بما يرسمه من خريطة طريق للانتقال وصياغة دستور جديد وإجراء انتخابات تحت إشراف أممي. في حين سبب التدخل التركي السافر تراجعاً فرنسياً، ارتبط موضوعياً مع انشغالها بتغيير حكومتها وترتيب وضعها الداخلي. وكذلك مع التراجع أمام رغبة تركيا، التي تبدو وكأنها في موقع صعود استراتيجي، على ضوء تمدد حضورها من دمشق إلى ليبيا ووسط أفريقيا. في مسعى لتوسيع نفوذها عبر تفاهمات ظرفية مع تل أبيب وواشنطن، وتقدم نفسها كقوة إقليمية تسعى لتكريس دورها في معادلات المنطقة. غير أن القضية الكردية في الداخل التركي ما زالت تمثل نقطة ضعف بنيوية للحكم التركي، حيث أن تعثر عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان بعد أن كانت قد فتحت آفاقاً لتسوية تاريخية، يفتح المجال لعودة التوتر ويتحول إلى أداة في الصراع السياسي الداخلي. وقد سعى حزب العدالة والتنمية إلى إدارة هذا الملف عبر تنسيق مع قوى اليمين التركي، وصراع مع حزب الشعب الجمهوري في الوقت نفسه، لتقليص أي مكاسب سياسية أو دستورية للكُرد، وتوظيفها كورقة في المساومات الداخلية والإقليمية. هذا النهج ترافق مع سياسة أكثر اندفاعاً في الساحة السورية، حيث صعّدت أنقرة خطابها ضد قوات سوريا الديمقراطية، وتجاوزت في ذلك حتى مواقف سلطة دمشق نفسها، في انعكاس مباشر لتعثر مسار السلام الداخلي وتصديره إلى الخارج كأداة ضغط وتوسيع لنفوذها الإقليمي.

أما إيران فقد تراجعت إلى موقع دفاعي بعد خسارتها عمقها الحيوي وتعرض أذرعها لهزائم متتالية أضعفت قدرتها على التأثير، ومازالت تواجه خطر احتمال هجمات عسكرية جديدة. فيما استعادت السعودية دورها التقليدي كركيزة عربية داعمة للسلطة الانتقالية، متقدمة بثقة في الساحة السورية واللبنانية ومكرسة حضورها كضامن عربي للتوازن. وتبقى إسرائيل اللاعب الأكثر دينامية عبر حركاتها العسكرية وبحسب خططها الاستراتيجية، إذ فرضت وقائع ميدانية عبر الغارات والتوغلات وأقامت ترتيبات أمنية مشددة، لكنها تواجه أسئلة جوهرية حول غاياتها، إن كانت تهدف إلى تحسين شروط تفاوضية، أم تسعى لتكريس وقائع توسعية تمس وحدة الأراضي السورية. في المحصلة باتت كل من إسرائيل وتركيا القوتين الراهنتين الأكثر حضورا وتأثيراً على الساحة السورية.

على الصعيد الداخلي السوري، ورغم التفاؤل بسقوط نظام الاستبداد، ما زال المجتمع السوري عرضة لخطر الانقسام الحاد، خاصة تحت تأثير تنامي خطاب الكراهية، وانعكاسات المجازر الدموية، حيث تهدد العصبيات الطائفية والجهوية الهوية الوطنية الجامعة، الهشة أصلاً. وقد انصرفت السلطة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع إلى محاولة تثبيت شرعيتها عبر ترتيبات أمنية خارجية، بينما بقيت الملفات الداخلية التحدي الأكبر أمامها. مجازر الساحل والانتهاكات الفظيعة في السويداء أظهرت ارتباك واضطراب الأداء الحكومي، وفتحت الباب أمام تدخلات أججت الخطاب الطائفي. وفي مواجهة ذلك، عادت الأمم المتحدة والجامعة العربية لتؤكدان على أهمية ومركزية القرار ٢٢٥٤، في إشارة واضحة إلى خفض مستوى (شرعية سلطة دمشق الراهنة)، لكن نجاح تنفيذ القرار الأممي يبقى مشروطاً بوجود طرف تفاوضي وطني جامع، ومعترف به دولياً، قادر على تمثيل جميع المكونات.

في هذا السياق يبرز اتفاق العاشر من آذار بين قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي والرئيس الانتقالي أحمد الشرع ليؤكد على أهمية مشاركة جميع السوريين في إعادة بناء دولتهم ومساهمة مختلف القوى في إطار الحل السوري العام بما ينسجم مع متطلبات الشرعية الدولية ويهيئ الأجواء لعودة آمنة للمهجرين إلى ديارهم الأصلية، ويؤسس لاستقرار مجتمعي وسياسي مستدام. حيث تتلكأ السلطة الانتقالية في تنفيذ بنودها تحت تأثير ضغوطات خارجية.

في المقابل، يستمر الحضور الكردي ـ سياسياً وعسكرياً ـ مع قوات سوريا الديمقراطية أحد أبرز مرتكزات نشاط التحالف الدولي في سوريا، وهو ما تجاوز وظيفته في محاربة الإرهاب لجعل تجربة الإدارة الذاتية، وبالتالي المسألة الكردية تتجاوز بعدها المحلي لتغدو جزءاً من التنافس الدولي، حيث يسعى الغرب إلى تقديمها كنموذج لشريك وطني في محاربة الإرهاب وبناء الاستقرار، بينما تضعها تركيا على النقيض في خانة التحدي لمفهوم “السيادة التقليدية”. هذا التباين جعل من القضية الكردية نقطة تقاطع وصدام في آن واحد، فهي من جهة ورقة ضغط بيد القوى الكبرى، ومن جهة أخرى ركيزة لأي حل سياسي متوازن يضمن وحدة سوريا ويعترف بتعدد مكوناتها. من هذا المنطلق  شكّل كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي في ٢٦ نيسان محطة أساسية لتوحيد الجهد السياسي، إذ انبثق عنه وفد كردي مكلف بالحوار الوطني، ما يجعل تفعيل دوره أولوية ملحة، مع التشديد على أن أي محاولة للقفز من أي جهة كانت فوق المكاسب التي تحققت بدماء آلاف الشهداء سواء على الصعيد القومي الكردي أو الوطني السوري لن يجلب لها سوى الخذلان، خاصة في ما يتصل بالحقوق القومية للشعب الكردي وشكل النظام القادم والمبادئ الدستورية والانتخابات التشريعية وصياغة مسودة الدستور الدائم. وفي سياق متصل، وحدة الصف والموقف السياسي الكردي لا يقيد العمل الحزبي لأي طرف، لكنه ينظم ويضبط بالضرورة عملية التفاوض باسم الشعب الكردي، التي باتت مهمة حصرية للوفد المشترك المنبثق عن الكونفرانس.

أما الإدارة الذاتية فتبقى مطالبة بتعزيز شفافيتها عبر بيان حجم الموارد المالية وأوجه الإنفاق بشفافية ودقة، وكذلك مطالبة بضرورة محاربة الفساد والروتين داخل مؤسساتها وتأمين احتياجات المواطن ومراقبة الأسواق وزيادة أجور العاملين بما يتناسب مع الغلاء المتصاعد، وهي إجراءات ذات بعد وطني تتكامل مع أولويات أوسع تتمثل في تحميل الحكومة السورية مسؤولية إنهاء الاحتلال التركي وضمان عودة المهجرين قسراً من مناطق عفرين ورأس العين وتل أبيض إلى منازلهم واستثمار ممتلكاتهم بأمان. كما على جميع الأطراف الكردية رفض ما يسمى بالانتخابات التشريعية بوصفها استمراراً للسياسات غير الديمقراطية والشوفينية والإقصائية التي انتهجها نظام البعث البائد من قبل، والتأكيد على بناء دولة القانون والمؤسسات القائمة على أسس من الديمقراطية والعدالة وتوظيف الكفاءات بعيداً عن منطق من (يحرر يقرر) المرفوض من السوريين، بل  ينبغي البناء والحكم على أساس تحمل المسؤولية الوطنية والمشاركة الكاملة للجميع.

لكل ما سبق يبدو أن مستقبل سوريا يستمر رهناً بجدية المجتمع الدولي في تفعيل القرار ٢٢٥٤، وبقدرة السوريين على بلورة جبهة تفاوضية وطنية عريضة تستند إلى وحدة الخطاب السياسي والموقف، وتؤكد على أن الحل لن يستقيم إلا بمشاركة جميع السوريين في تقرير مصير دولتهم على أسس: الحريات والشراكة والمساواة والالتزام بثقافة السلم واللاعنف.

أواسط أيلول 2025م

اللجنة السياسية

لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا

Scroll to Top