لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟ الحلقة الثالثة عشر – الأخيرة

د. محمود عباس

هل خرج التاريخ من قبضة الإنسان؟ ومن يكتب فصوله القادمة؟ هل ما زال بالإمكان استعادة السيطرة، أم أن التاريخ قد أفلت من يد الإنسان إلى الأبد؟

منذ بدايات الحضارة، كان البشر يظنون أنهم صُنّاع مصائرهم، من اللغة التي وحّدت الجماعات، إلى الزراعة التي أسست القرى، إلى الثورة الصناعية التي دشنت عصر الإمبراطوريات، غير أن ما يجري اليوم يوحي بأن زمام المبادرة لم يعد في يد الإنسان كما كان، بل انتقل إلى قوى جديدة لا تُرى، لكنها تتحكم بكل ما يُرى: الخوارزميات، الشبكات، والشركات العابرة للأوطان.

في هذا السياق، تبدو مشاريع ترامب، مهما بدت غرائبية أو صادمة، من شراء جزيرة غرينلاند، إلى ضم كندا إلى الولايات المتحدة، إلى طرح حلول أحادية للحروب المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا، وبين إسرائيل وإيران، وفي سوريا والشرق الأوسط، وغيرها، أبعد من مجرد نزوات سياسية لرئيس مثير للجدل، فكل تلك الحروب التي حاول ترامب إخمادها، أو أعاد صياغة مساراتها، كانت تقف خلفها الدولة العميقة العصرية، مدفوعة بمصالح الشركات الخوارزمية العملاقة، إذ إن معظم هذه المناطق الساخنة تختزن ذخيرة هائلة من المواد النادرة، وثروات غير عادية، تمثل العصب الحيوي للصناعات التكنولوجية المعاصرة.

وعليه، لم تكن تلك المواقف نزوات عابرة، بل انعكاسًا لمسار أعمق ينذر بكتابة تاريخ جديد للبشرية؛ تاريخ لم يعد يُبنى على الشعوب والقوميات والأيديولوجيات التي حكمت القرون الماضية، بل على مصالح كيانات اقتصادية–خوارزمية تتجاوز الدول، وتعيد رسم الخرائط وفق منطق الربح، والتدفق، والسيطرة الرقمية.

لقد كانت القوميات، عبر قرون، هي الإطار الذي تُكتب فيه الحروب والتحالفات، وكانت الأيديولوجيات ـ دينية أو سياسية ـ هي الوقود الذي يحرّك الجماهير. أما اليوم، فقد تراجعت كل هذه السرديات أمام منطق آخر، منطق الشركات والمنصات، لم تعد الأمم المتحدة ولا الأحلاف العسكرية هي مركز القرار، بل مجالس إدارات عابرة للحدود، تتحكم في تدفقات المال والمعلومات والوعي، وفي ظل هذه الهيمنة، تصبح مشاريع من نوع “شراء جزيرة” أو “إلغاء الحدود” تجليات رمزية لانزياح أكبر، انزياح من الدولة القومية إلى المنظومة الاقتصادية–الخوارزمية.

والسؤال هنا لم يعد فقط، هل تملك الشعوب أن تختار؟ بل، هل بقي للشعوب مكان أصلًا في معادلة الاختيار؟ فالتاريخ الذي كان يُكتب بأقلام الملوك والزعماء، بات يُخط على شاشات مسطّحة، تُدار من خوادم بعيدة، وتُترجم إلى بيانات تُباع وتُشترى، لم يعد القرار قرار دولة، بل قرار منظومة تكتب المستقبل بخط خفي لا يراه أحد.

وهكذا نصل إلى لحظة الحقيقة، هل نحن أمام استكمال لمسيرة الإنسان في صياغة تاريخه، أم أننا نشهد فصلاً جديدًا يتجاوز الإنسان نفسه ليضعه على هامش القصة التي كان بطلها؟

لم تكن هذه الحلقات رحلة في تحليل شخصية ترامب وحده، ولا في تفكيك قرارات إدارة أمريكية بعينها، بل محاولة لقراءة التحول العميق الذي يعيشه العالم، الانتقال من منطق الدولة القومية والجيوش والحدود، إلى منطق المنصات والخوارزميات والشبكات اللامرئية، كان ترامب مجرد مرآة، أو قناع، لمرحلة تتصارع فيها دولتان عميقتان، الكلاسيكية التي ما زالت تعيش على صواريخها ومؤسساتها، والعصرية التي تحكم عبر الاقتصاد الرقمي، والبيانات، والذكاء الاصطناعي.

جوهر السلسلة أن الحروب لم تنته، بل تبدلت أدواتها. فبينما كان الماضي يُقاس بعدد الدبابات والصواريخ، صار المستقبل يُقاس بقدرة الشركات والمنظومات على توجيه الوعي وجمع البيانات، وبينما كان القادة يغيّرون مصائر الشعوب بخطاباتهم، صارت الخوارزميات اليوم هي التي تكتب الخطاب، وتحدد حتى معنى الاختيار نفسه.

وإذا كان السؤال في الحلقة الأولى، إلى أين تتجه البشرية؟ فإن السؤال في ختام السلسلة أصبح، ما الذي تبقى من الإنسان في هذا السباق؟

ربما لا نملك أن نوقف العجلة، لكننا نملك أن نسائلها، وربما لا نستعيد السيطرة الكاملة، لكن يمكننا أن نستعيد الوعي والمعنى، فالعصر القادم قد لا يكون عصر ترامب ولا بايدن ولا أي زعيم، بل عصر الإنسان الذي يجرؤ أن يسأل، من يكتب قصتي؟ ومن يحدد مصيري؟

الولايات المتحدة الأمريكية

15/4/2025م

Scroll to Top