ماهين شيخاني
قصة واقعية من زمن البراءة الأولى
عام 1966، تركنا القرية وانتقلنا إلى المدينة. كنا نحمل في حقائبنا الصغيرة رائحة التراب والماء وصوت الديكة، وبدأنا أولى خطواتنا في مدرسةٍ اسمها “الحكمة” — ويا للمفارقة، فقد كانت اسماً على مسمّى.
كانت معلمتنا الآنسة سكينة، امرأة صارمة الملامح، لكنها لطيفة حين تبتسم. لم نكن نتحدث العربية بعد، أنا وأختي سكينة، فالعربية كانت بالنسبة لنا آنذاك لغة غريبة تشبه تغريد العصافير التي لا نفهمها.
في أحد الأيام، أخرجتنا الآنسة من الصف، أنا وأختي فقط، دون أن تشرح السبب.
وقفت أختي بجانبي غاضبةً، توبخني بالكوردية وتقول:
ـ “أكيد انت السبب! شو عملت هالمرة..؟!.”
لم أجبها. كنتُ خائفاً أكثر من أن أشرح، وحزيناً أكثر من أن أبكي.
وقفنا عند باب الصف، نسمع ضحكات التلاميذ من الداخل، بينما نحن نحدّق في الأرض كأنها تخفي الجواب. بعد قليل، لمحنا أبي ومعه كريفي أبو إلياس يدخلان من الباب الشمالي للمدرسة. ما إن رأيناهما حتى انفجرنا بالبكاء وارتمينا في أحضانهما، نبكي دون أن نعرف كيف نفسّر السبب.
اقتادونا إلى غرفة الأب جوزيف. وبعد السؤال، تبيّن أننا لم نُطرد من الحصة بسبب خطأ، بل لأن الحصة كانت لمادة الديانة المسيحية، ونحن الوحيدان من المسلمين في الصف. أخرجونا احتراماً لمعتقدنا.
سأل أبي الأب جوزيف عن مضمون الدرس، فقال له كريفي أبو إلياس:
“كريفو، الدرس عن الله والنبي عيسى والصلوات… وباللغة السريانية.”
حينها رفع أبي رأسه وقال بهدوءٍ وثقةٍ غريبة:
“الله واحد يا أبونا، وعيسى نبيّنا مثل نبيّكم.
خلّوا أولادي يحضرون الدرس، فالذي يتعلم عن الله لا يضيع طريقه.”
ومنذ ذلك اليوم، جلسنا مع زملائنا على المقاعد نفسها، نردد معهم ترتيلتهم الأولى:
“شى نابو وابرو روحو حيو قاديشو حادالوهو شامينو امينو.”
لم نكن نفهم معناها حينها، لكننا شعرنا بها تدخل القلب كما تدخل الشمس من نافذةٍ صغيرة في صباحٍ بارد.
ومنذ ذلك اليوم أيضاً، تعلّمنا أن الله لا يُختصر بلغةٍ واحدة، وأنّ الإيمان لا يحتاج ترجماناً،
وأنّ الحكمة قد تبدأ من صفّ صغيرٍ في مدرسةٍ تُدعى “الحكمة”.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=77515