مام في الشام برؤية عربية (7)

مصطفى عبد الوهاب العيسى

كان إقناع عبدالله أوجلان بإنجاز أول هدنة بين حزب العمال الكردستاني و تركيا أمراً عظيماً و يكفي برأيي أن وصل الأمر بالرئيس تورغوت أوزال لأن يعترف و يقر بأن هناك نضالاً فكرياً في جوهر القضية وأنه لا يمكن مجابهة الفكر بالسلاح ، و لا شك كما أعتقد بأن مام جلال قد لعب دوراً هاماً في بلورة مثل هذه الحقيقة في ذهن أوزال أو تأكيدها على أقل تقدير ، و هو إنجاز نسيه الكثير من الكرد بسبب تجدد الصراع لاحقاً .

و قبل الانتقال إلى جزء آخر لا بُدّ أن يتنبه القارئ لمام في الشام لتلك الجزئية الصغيرة التي أوردها شمدين في إحدى الحلقات والمتعلقة بنصيحة مام جلال لأوجلان بأن يرتدي ربطة عنق في مؤتمره الصحفي .. الخ .

ذكر الأستاذ الراحل عبد الحميد درويش أكثر من مرة كيف كان يُعلّمه البروفسور نور الدين زازا تناول الطعام على الطريقة الغربية ، وما يدعوني للتعليق على مثل هذه التفاصيل هو أن الدكتور نور الدين زازا و تعليمه للراحل حميد درويش كان أمراً طبيعياً جداً إذا ما أخذنا بفارق البيئة والسن والتعليم والزمن .. الخ ، أما أوجلان الذي تستشعر عند قراءة كتبه بأنه كان فيلسوفاً أو عالم اجتماع فقد كان مدهشاً في الحقيقة أن أراه يأخذ دروساً في الإتيكيت من صديقه الذي لم يغفل حتى عن أبسط التفاصيل ، و دهشتنا هذه لا يُزيلها إلا معرفتنا بأن من كان يوجه النصائح له هو مام جلال .

لقد أوضحت سلسلة مام في الشام أموراً كثيرة لا مجال لحصرها أو ذكرها أو تعدادها لأنه سيكون حرقاً للأحداث التي يُفترض بالقارئ أن يتتبعها من السلسلة مباشرة و ليس من هنا .

إن السير في حقل الألغام كما يذكر الكاتب شمدين جعلنا نُبصر جانباً من اللعب على المتناقضات بشكل أقرب ما يكون إلى فن سياسي ، و في نفس الوقت بيّن لنا أن دخول مام جلال في مفاوضات مع النظام العراقي هو دليل على استقلالية قراره و رفضه لأن يكون تابعاً من جهة ، و رفض الدعم المشروط له من جهة أخرى .

لا أعرف إن كانت القاعدة القرآنية (( ادفع بالتي هي أحسن )) هي الدليل الملهم لسياسات مام جلال ، ولكنني رأيت بأنه عمل بها كثيراً ، و هي ما جعلت الأصدقاء والكثير من الأعداء يحبونه ، أو يحترمونه على أقل تقدير ، و كأنه ولي حميم .

إن ما قام به الكاتب علي شمدين من تشريح و تفصيل لأدق الحوادث والمواقف التي مر بها مام جلال كصداقاته مع كرد سوريا و جورج حبش و وديع حداد .. الخ ، أو قربه من عبد الناصر ، أو علاقاته مع السوفييت ، أو الدعم الليبي لتحركاته ، أو العلاقة المتواصلة مع دمشق لعقود ، أو حتى بناء علاقات مع أنقرة المنفتحة حديثاً على العلاقات مطلع التسعينات لم تكن إلا بعض الجوانب الخفية التي لم يتطرق لها الكثير ممن ألفوا و نشروا الكتب والمقالات ، بل و حتى ناقشوا رسائل ماجستير في هذه الشخصية .

إن نزعة مام جلال للتسويات هي ما عرفناه عنه كعرب خلال سنوات رئاسته للعراق ، و الدبلوماسية و المرونة عُرفت عنه كرئيس للعراق ، و حتى حين كان رئيساً لمجلس الحكم ، ولكن بالحديث عن فن الممكن فإنه بعد قراءة مام في الشام وجب علينا أن نعتبره أحد مؤسسي هذا الفن السياسي البالغ الصعوبة ، أو على أقل تقدير من أكثر من أبدعوا فيه .

كان من أهم ما تميز به مام جلال هو قوة إقناعه للآخرين ، و ذلك طبعاً يعود لقدرته على التواصل بإيجابية وفاعلية وفهم وتقدير وجهات نظر الآخرين من جهة ، واستخدامه للحجج المعقولة والأسلوب المنطقي عند طرح أفكاره من جهة أخرى ، فضلاً عن الثقة والمصداقية التي كان يتمتع بها لدى معظم الأوساط التي تشاركه في العملية السياسية ، و في هذا السياق أستذكر الحادثة التي ذكرها النائب فائق الشيخ علي – والتي تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير- عن الأستاذ سعد صالح جبر ( عميد المعارضة العراقية حينها ) مع مام جلال ، وتعجبه من قدرة مام جلال على إقناع مختلف الأطراف العراقية ( الشيوعيون ، الإسلاميون ، البعثيون .. الخ ) ، وقدرته حينها على الإمساك تقريباً بكافة حبال المعارضة العراقية .

Scroll to Top