الوهم السياسي وتفكك التيارات السورية

قحطان الهواش

منذ انطلاقة العمل السياسي المنظم في سوريا، ارتبط هذا العمل – في معظم التجارب – بجملة من التحديات البنيوية التي حالت دون استمراريته وفاعليته. ولعلّ من أبرز هذه الإشكاليات المزمنة فقدان الديمومة والاستمرارية داخل الأطر السياسية، حيث غالبًا ما تولد الأحزاب والتيارات بحماسٍ كبير ثم تتآكل تدريجيًا بفعل الخلافات الداخلية، أو غياب المشروع الواقعي القادر على الصمود أمام الزمن والتحديات.

كما تطرقت لها في مقالي السابق حول ديمومية العمل السياسي.

لكن المشكلة التي أود التطرق إليها اليوم لا تتعلق فقط بالاستمرارية، بل بظاهرةٍ أخرى لا تقل خطورة، وهي الوهمية في العمل السياسي، أو ما أسميه بـ”التيارات والأحزاب الخلبية”؛ تلك التي لا وجود فعليّ لها على الأرض، سوى في الخطابات أو على صفحات الإنترنت.

فعلى مدى أربعة عشر عامًا من عمر الثورة السورية، شهدنا ولادة عشرات الكيانات السياسية، من تيارات وائتلافات وكتل، إلا أننا في الواقع لم نلتقِ أو نتعامل إلا مع فرد أو اثنين من أعضائها في أحسن الأحوال. لقد أصبحت بعض هذه الكيانات أشبه بمكاتب صورية أو عناوين إعلامية يتوارى خلفها أشخاص معدودون، دون أي قاعدة حقيقية أو حضور شعبي أو مؤسساتي.

والمؤلم في هذا السياق أن كثيرًا من الذين ينضوون تحت مظلات هذه المسميات هم شخصيات وطنية مخلصة وفاعلة بصدق، يمتلكون خبرة سياسية حقيقية وتجارب طويلة في العمل العام. إلا أن تشتتهم بين عشرات الأطر الشكلية أفقد جهودهم أثرها، وجعل المشهد السياسي السوري متخمًا بالأسماء الفارغة والمشروعات غير المكتملة.

من هنا أرى أن تفكيك هذه المسميات الوهمية بات ضرورة وطنية، لا تقليلاً من شأن من فيها، بل حفاظًا على قيمة العمل السياسي الحقيقي، ودفعًا نحو توحيد الجهود الديمقراطية ضمن مشروع واحد واقعي وواضح، هدفه الأسمى ضمان الاستقرار السوري في ظل حرية التعبير والعمل السياسي.

إننا جميعًا – كفاعلين سياسيين – لا نرغب بالعودة إلى نقطة الصفر، إلى مرحلة القمع وغياب الحياة السياسية. ولا نريد أن نعيد تدوير الأخطاء ذاتها تحت عناوين جديدة. فاليوم، وفي ظل غياب قانون ناظم للحياة السياسية في سوريا، يتضاعف خطر هذا التشظي الذي يجعل كل محاولة لبناء بديل حقيقي مجرّد حلم بعيد.

وحتى الكتل السياسية القليلة التي نجحت في إثبات حضورها على الأرض، باتت تعاني مؤخرًا من الانقسامات الداخلية وتباين الرؤى، مما أدى إلى تكرار سيناريوهات الانهيار والانحلال أو إعادة الهيكلة تحت مسميات جديدة، فيما يشبه “الريبراندينغ” السياسي. لكن كل هذه المحاولات غالبًا ما تبوء بالفشل، لتترك في نفوس السياسيين حالة من الإحباط والخيبة، وتؤدي إلى جمود جديد في العمل العام.

من وجهة نظري، لا مفرّ من الاندماج والتوحّد بين التيارات المتشابهة في التوجهات والرؤى والأهداف. فلو اجتمع – على سبيل المثال – مئات الكيانات ذات الطابع الديمقراطي في كيان واحد جامع، لشكّلوا قوة سياسية حقيقية قادرة على إحداث تحوّل فعلي في المشهد السوري بأكمله.
صحيح أن ذلك يبدو صعب المنال، وربما مستحيلاً في ظل حالة الانقسام التي تعيشها البلاد عامة، والساحة السياسية خاصة، إلا أنه يظل الطريق الوحيد نحو بناء مشروع وطني حقيقي يتجاوز الفردية والمصالح الضيقة.

فلكل سياسي اليوم رؤيته ومشروعه، وللبعض أجنداته الخاصة التي تمنع أي توافق أو وحدة. ولكنّ الواقع يفرض علينا أن نعترف بأنّ كثيرًا من الكيانات القديمة قد ماتت سريريًا، وأن التمسك بها لم يعد سوى شكل من أشكال الهروب من التجديد والمراجعة.

ختامًا، يمكن القول إن المسير نحو عمل سياسي مشترك وواضح المعالم لا يزال طويلًا وشاقًا.
فبعد أربعة عشر عامًا من الثورة، لم ننجح في الاتحاد لإسقاط طاغية مزّق الوطن، فكيف سنجتمع اليوم لبنائه من جديد؟
ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا بأنّ جيلاً سياسيًا جديدًا، أكثر وعيًا وأقل أنانية، سيكمل الطريق نحو وطنٍ يتّسع للجميع، وحياةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ تُعيد لسوريا روحها المسلوبة.

المصدر: التحالف السوري الديمقراطي

Scroll to Top