خلّوا سبيل الناقة

جليل إبراهيم المندلاوي
حين تشاهد المشهد السياسي حول كركوك اليوم، ستظنّ أنك أمام ناقة أحضرت من قفر بعيد، وربطت في ساحة المدينة قسرا، فكانت تنظر بدهشة إلى قلعة المدينة الشهيرة، وإلى الناس وإلى رائحة الشاي الكوردي المغلي على الفحم وهي تحاول جاهدة أن تفهم: “ما علاقتي بكل هذا؟ ولماذا جاء بي هؤلاء إلى هنا؟”، فيما اجتمع القوم حولها يختلفون.. من أين جاءت؟ ومن قال إنها ملك لهم؟ ولماذا أدخلت أصلا إلى المكان الذي لا يشبهها ولا يشبههم؟
في الوقت الذي كانت فيه كركوك بتاريخها وثقافتها وذاكرتها، تسير على إيقاع خاص بها، إيقاع لا يعرفه إلا أهلها الأصليون، حين قرّر البعض ذات يوم أن يدخلوا ناقة غريبة إلى الساحة، ناقة لا تعرف الشوارع ولا تعرف أسماء الأحياء ولا القمح المخلوط بنكهة الزيت الصافي في بيوت المدينة، حتى أضحى المشهد كمسرحية عبثية، المدينة تتكلم بالكوردية وتتنفس بالكوردية وتبتسم بالكوردية، فيما الناقة واقفة في الوسط تنظر حولها وتتساءل: “أين الرمال؟ أين القفر؟ أين النباتات الشائكة والأعشاب الجافة؟.. وما هذه الشوارع المرصوفة؟ ولماذا الجميع يتجادل حولي؟”.. حتى باتت قضية كركوك تشبه حكاية تلك الناقة التي تنازعت عليها القبائل، حيث بدت الناقة حائرة لا تفهم لماذا تجرّ إلى مكان لا ينتمي إليها، والأعجب من ذلك أن كل من جاء بها يقول: “هذه لنا”.. لكن إذا سألت الناقة نفسها “إن كان للناقة أن تتكلم” لقالت: “أيّها السادة أنا لا أعرف هذا الموضع ولم أختر المجيء إليه”، فالناقة لم تأت بحثا عن مرعى ولا عن ماء، بل جاء بها بعض من ذوي “الاجتهادات السياسية الخاصة” الذين قرروا أنّ الحل الأمثل لأزمة الهوية هو جلب ناقة من أقصى الجنوب أو الغرب، أو حيث لا ناقة للكلام ولا جمل، ثم وقفوا يقولون بفخر: “انظروا الناقة الآن جزء من كركوك”، وكأن الهوية مثل قطعة أثاث تضاف بفاتورة وتوصيل مجاني، بل إن بعض الساسة “لا بارك الله في نظرياتهم الفريدة” راحوا يشرحون للناس أن وجود الناقة “ضرورة وطنية” وأن خروجها سيهدد “الأمن القومي” وأن الحبل الذي يربطها “خط أحمر” لا يجوز الاقتراب منه، والمدينة تضحك، والجدران تضحك، والسكان يضعون أيديهم على جباههم من شدة الحرج، فهل يعقل أن تربط مدينة بتاريخها وثقافتها وأهلها، بناقة جاءت ضيفة ثم أصبحت عنوانا لصراع سياسي لا يشبهها ولا يشبه المدينة؟
كركوك ليست بحاجة لامتحان هوية، فهي لا تستيقظ كل صباح لتقول: “من أنا؟”.. ولا تفتح بطاقة الأحوال لترى مكان الولادة، فهي تعرف نفسها منذ أن كان الحجر ينطق قبل أن يتعلّم البشر السياسة، فقضية كركوك ليست أن تبحث المدينة عن هويتها، فهي تعرفها جيدا كما يعرف الرضيع أمه، القضية أن بعضا أراد تغيير ملامح المدينة بجرّ ناقة غريبة إلى قلبها ثم قالوا: “انظروا لقد أصبحت الناقة جزءا من المكان”.. فما إن ظهر النفط وتحوّل التراب إلى ذهب أسود حتى أصبحت كركوك فوق طاولة كل اجتماع وكل خطاب وكل موسم انتخابي، فبعض الساسة يتحدثون عنها كما لو كانوا يتحدثون عن منزلة القمر بين النجوم، بينما في الواقع يريد كل واحد منهم أن يحتفظ بمفاتيحها لنفسه ويمنع غيره منها، والحقيقة البسيطة التي يخشاها الجميع هي أن كركوك كوردستانية، فالأمر لا يحتاج إلى لجان أممية ولا مؤتمرات طارئة ولا محلّلين على شاشات الأخبار يلوّحون بأيديهم كما لو أنهم يحلّون مسألة رياضية معقدة، المسألة أبسط من ذلك بكثير، فمدينة كركوك كوردستانية قبل أن يسمع العالم بكلمة نفط وقبل أن تتناوب عليها الحكومات وقبل أن تتحول إلى رصيد انتخابي يسحب عند الحاجة، فالبعض “ولنقل بعض البعض كي لا يغضب الجميع” يرى كركوك كجائزة تمنح لمن يرفع صوته أعلى، ولا لمن يحمل تاريخها في قلبه، فإنّ أجمل ما في المشهد أن بعض الساسة يتعاملون مع كركوك كما لو كانت طبق “دولمة” في مائدة عامرة، كل يمدّ يده ويقول: “هذه حصّتي”.. ثم يشرع في الخطب والبيانات الملتهبة، وحين تدخل كركوك نفسها في الحديث قائلة: “أعرف أهلي جيدا”، نراهم فجأة يطالبون بـالتهدئة والحلول المرحلية والحوار البنّاء، ذلك الحوار الذي لا يكتمل إلا عند أبواب الانتخابات، فالقضية ليست عشقا لكركوك، بل عشقا لما في باطن أرضها، ولو كان الحبّ صادقا لرأينا التنافس على بناء المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرق لا على توزيع النفوذ والمنافع، لذلك حين نقول: خلّوا سبيل الناقة فنحن لا نتحدّث عن حيوان أو رمز عابر، نحن نقول: “ارفعوا أيديكم عن المدينة، دعوا ما هو دخيل يعود إلى مكانه، واتركوا ما هو أصيل في مكانه”.
كركوك ليست لغزا أثريا ولا خريطة دفينة في صندوق كنوز القراصنة، هي مدينة عاشت في قلب الجغرافيا قبل أن تحشر في ملفات السياسة، نطقت بالكوردية في الأسواق وغنّى لها الفلاحون بأهازيج لا تترجم إلا لمن عاشها، فالانتماء ليس بالحبال، ولا بالخطابات، ولا بالخرائط التي ترسم على طاولة مفاوضات مظلمة.. الانتماء يعرف بالذاكرة، بالأغاني التي يتوارثها الناس، باللغة التي تنبت مع الطفل مثل ضوء الفجر، بالأسماء التي لا يغيّرها الزمن، فكركوك تعرف أهلها وأهلها يعرفونها، وهي لا تحتاج إلى دليل يثبتها لنفسها.
كركوك كوردستانية، جملة بسيطة وواضحة كالشمس في رابعة النهار، لكن يبدو أن هناك من يرتدي نظارات شمسية في منتصف الليل، ولطالما كانت قلب كوردستان، فهذه حقيقة يرويها كل حجر من حجارتها العتيقة، وكل قطرة من مائها، وكل شجرة من أشجار التين والمشمش المغروسة في أرضها، لكن يبدو أن بعض “المنقبين” عن التاريخ “في وضح النهار” يريدون أن يثبتوا لنا أن البحر ليس مالحا، وأن النار ليست ساخنة، وأن كركوك ليست كوردستانية، في محاولات لتغيير هويتها تشبه محاولة جعل شجرة التفاح تثمر تمرا، إذ يمكنك أن تسميها كما تشاء، لكنها ستظل شجرة تفاح كما إن كركوك ستظل كوردستانية، إنها ليست مسألة نقاش بل مسألة قبول للواقع، واقع يتجلى في الثقافة واللغة والعادات والتاريخ المشترك، فخلوا سبيل الناقة، ودعوا كركوك تعود إلى أحضانها الطبيعية، فلم ولن ينجح في طمس هويتها.
كركوك لا تحتاج ناقة لاثبات أصلها، فهي أصل يثبت الآخرين، وقديما قال أحد كبار السن وهو يرى الجدل يحتدم حول تلك الناقة: “يا قوم الناقة إذا لم تعرف الماء الذي تشربه عطشت وإن عطشت هاجت”.. فلماذا نصنع الاضطراب بأيدينا؟
فارفعوا أيديكم عن الناقة وخلّوا سبيلها، دعوها تخرج من كركوك بسلام لتعود إلى صحاريها الواسعة، ودعوا كركوك تستنشق هواءها كما كانت دائما، هادئة أصيلة تعرف نفسها ولا تشبه أحدا إلا نفسها، ففي النهاية ستبقى كوردستانية كما كانت وستبقى.

Scroll to Top