مصطفى البارزاني وحياته السوفياتية (في ضؤ بعض المصادر السوفياتية)

د. إسماعيل حصاف

يرتبط تاريخ الحركة التحررية الكردية منذ أوائل القرن العشرين وليومنا بعائلة البارزانيين، وغدا مصطفى البارزاني شعلة للكرد طوال حياته النضالية، حيث اقترن اسم الشعب الكردي بإسمه، ولعب دورا تأريخيا في التعريف بالهوية القومية الكردية في العالم.

ولد مصطفى البارزاني في 14 آذار عام 1903 في قرية بارزان الجبلية القريبة من نهر الزاب الكبير والتي اصبحت عاصمة للبارزانيين التي تضم عشائر باروجي والمزوريين والشيروانيين والهركيين بناجي، ولم تخضع بارزان قط للسلطات الحاكمة. وتمتعت العائلة البارزانية بمكانة خاصة في المنطقة التي كان شيوخ النقشبندية تاج الدين وعبد السلام (جد ملا مصطفى) يقومون بحل وربط شؤون المنطقة.

تعرضت الأسرة البارزانية الى التشريد والقهر على يد السلطات العثمانية في اعقاب اعدام الشيخ محمد والد مصطفى وقبيل ولادته لقيادته انتفاضة ضد السلطات الحاكمة التركية، وتولى ابنه البكر عبد السلام رئاسة بارزان، والذي يعتبر أول من تبنى فكرة الإصلاح الزراعي في كردستان والشرقين الاوسط والأدنى، عندما سن قانوناً بتوزيع الاراضي بالتساوي بين فلاحي المنطقة. لم يبلغ مصطفى بعد العام الثالث من عمره عندما زج به الاتراك مع والدته وأسرة الشيخ عبدالسلام في السجن في اعقاب فشل انتفاضته التي اعلنها عام 1905. وفي عام 1916 شهد بأم عينيه كيف أعدمت السلطات اخاه في الموصل. ففي اعقاب حركة (تركيا الفتاة) عام 1908- 1909 ثار مجدداً الشيخ عبد السلام ضد الاتراك العثمانيين رافعاً راية النضال الكوردي التحرري. وقد دعا الشيخ قادة الكرد الى اجتماع في قرية بريفكان وأرسل الى (استانبول) يطالبها بتحقيق المطالب الكردية والتي كان من أهمها منح الكرد حكماً ذاتياً واعتبار اللغة الكردية لغة رسمية في المنطقة وتخصيص الضرائب لتطوير المنطقة الكردية.

وفي عام 1914 قاد الشيخ عبد السلام انتفاضة جديدة التفت حولها العديد من العشائر الوطنية الكردية، لكنه اخفق ولم يحقق اهدافه بسبب تعقيد الوضع الاقليمي والدولي الذي لم يكن ملائماً لحركة التحرر الكردية، فلجأ الشيخ الى منطقة النفوذ الروسي من أورميا، حيث إلتقى بالقيصر الروسي نيكولاي الثاني عام 1914(للتاريخ ص 23)، ومن هناك انتقل الى مقاطعة ناخجيفان ومن هناك عاد مجدداً، فألقي القبض عليه في أواسط ايلول عام 1914 في الشريط الحدودي المحاذي لايران وفي 14 كانون الاول عام 1914 نفذ حكم الإعدام بحقه في ميدان مدينة الموصل، وعلى اثرها انتقلت زعامة العشيرة الى الشيخ احمد، الذي انتفض في عام 1919 مطالباً بحقوق الكرد في اعقاب الحرب العالمية الاولى الذين كانوا يطمحون في تشكيل دولتهم القومية طبقاً لمبادئ ويلسون الاربعة عشر وحق تقرير المصير للشعوب الذي كان يطرح من قبل موسكو وواشنطن في آن واحد. وتمكن البارزانيون بزعامة الشيخ احمد من تحرير العمادية من سيطرة القوات البريطانية التي كانت وراء تدمير وقصف قرى وقصبات بارزان. ويعتبر الشيخ احمد البارزاني الى جانب كونه زعيماً قومياً مصلحاً اجتماعياً عبر مشروعه الاصلاحي ورؤيته الخاصة بالقضايا والمسائل الدينية والاخلاقية وفي حماية الطبيعة.

وبما أن بارزان كانت مدرسة نضالية للكرد، فقد انخرط مصطفى البارزاني مبكراً في النضال العسكري- السياسي. يقول الأكاديمي والشخصية السياسية والإعلامية السوفياتية البارزة يفغيني مكسيموفيج بريماكوف:”حياة هذا الرجل مثير جدا، ففي عام 1905 يعتقل مع والدته في السجن بمدينة الموصل، وناضل في شبابه 1914- 1915، وكذلك في عام 1931 ومن ثم في عام 1943…”.

ففي عام 1919 وهو ابن السادسة عشرة ربيعاً قاد فصيلاً مسلحاً، وفي الفترة ما بين 1919- 1922 التقى في موش بشمال كردستان الشيخ سعيد بيران، كما أنه واخاه الشيخ احمد قد اقاموا في نهاية العشرينيات علاقات مع حزب (خويبون) وسار مصطفى البارزاني على رأس (500)من مقاتليه لدعم ثوار اكرى بقيادة الجنرال احسان نوري باشا، لكن الأتراك ردوه على اعقابه اثر معركة دارت بين الطرفين في منطقة أورومار.

لقد كان مصطفى البارزاني كردستانياً يؤمن بأن القضية الكردية جزء لا يتجزأ وغالباً ما كان يستخدم العمق الكردستاني خلال مواجهاته لقوات الأعداء، وأصبح الزعيم الكاريزمي للحركةالقوميةالكردية. وكان منذ البداية يتسم بخصائص سياسية- دبلوماسية عالية، ففي عام 1930 كلفه شقيقه الشيخ أحمد بالالتقاء مع الملك فيصل لعرض المطالب الكردية، وكان أربعة نواب كرد قد تقدموا في عام 1929بمطالب للملك فيصل بتخصيص 20% من موازنة الدولة لكردستان. فالحكومات المتعاقبة اهملت كردستان طوال التاريخ وفرضت عليها وبخاصة على بارزان حصاراً اقتصادياً غير معلن، اما البارزانيون بقيادة الشيخ احمد ومصطفى البارزاني فقد خاضوا في الفترة 1930- 1932 انتفاضة عارمة في اعقاب الغاء الإنتداب البريطاني وقبول العراق كدولة مستقلة في عصبة الأمم. مع تجاهل الحقوق القومية الكردية.

شاركت بريطانيا الى جانب الجيش العراقي الذي بلغ قوامه ثلث القوات العراقية التي هاجمت مناطق بارزان واضطر الشيخ احمد في كانون الأول عام 1931 من جراء القصف البريطاني اللجوء الى المناطق الجبلية الوعرة، فقد دمر الطيران البريطاني عشرات القرى الكردية في بارزان. وهذا ما فعلته الدولة البريطانية كذلك في صيف وخريف عام 1945 عندما ساندت قوات نوري السعيد في قمع انتفاضة بارزان. فقد قاد مصطفى البارزاني عام 1943 انتفاضته الباسلة التي اجبرت الحكومة العراقية وعلى رأسها نوري السعيد على الإعتراف بالمطالب الكردية بتشكيل اقليم كردي من كركوك واربيل والسليمانية وخانقين ودهوك، لكن وبدعم من الإنجليز تراجعت الحكومة العراقية عن وعودها. الإنتفاضات التي قادها مصطفى البارزاني 1943-1945 لعبت دورًا كبيرًا في نمو الوعي الذات القومي للكرد.

وعن بعد النظر لدى مصطفى البارزاني كتب رجل المخابرات السوفياتية الكسندر كيسيليوف في كتابه “مهمة سرية في الشرق الأوسط (ص 23)”:”في عام 1941 قدم مصطفى البارزاني إلى إيران حيث تواجد القوات الإنجليزية والروسية، إتصل بـ إيفان إيفانوفيج آكايانتس، طالبا من ستالين دعمه عسكريا”.
وعندما انتهت ثورة بارزان 1943- 1945 انتقل الزعيم الكردي مصطفى البارزاني على رأس ألفين من مقاتليه الى شرق كردستان في 11 تشرين الأول 1945 عن طريق كيله شين- مه ركه فه ر (دالامير) نقطة المثلث الحدودي بين تركيا وايران والعراق لدعم تأسيس جمهورية كردستان المنشودة، ولم تتوقف الطائرات العراقية والبريطانية عن القصف العشوائي لكردستان وملاحقة البارزانيين حتى آخر نقطة من الحدود. وفي 22 كانون الثاني عام 1946 أعلن قيام اول جمهورية كردستانية وعاصمتها مهاباد في ظل الحرب الباردة ودعي البارزاني الى الحضور وقد وقع عبء الدفاع عن هذه الجمهورية الفتية على شأن البارزانيين، حيث لعب البارزاني دوراً كبيراً في بناء جمهورية كردستان الدمقراطية واصبح رئيساً لأركان جيشها.

لقد أدرك البارزاني في اعقاب ثورة بارزان 1943- 1945 ومن خلال الظروف الدولية الجديدة التي افرزتها الحرب العالمية الثانية بأن جنوب كردستان احوج ما يكون الى تنظيم سياسي يحمل عبء النضال القومي الكردي وفق شروط دولية جديدة، وهكذا جاء انعقاد المؤتمر الأول في 16 آب 1946 في بغداد وانتخب اعضاء اللجنة المركزية للحزب كما وانتخب مصطفى البارزاني غيابياً رئيساً له، بعد أن اخذ المؤتمر بتوصيات البارزاني ورفاقه. وفي شرق كوردستان كان آخر لقاء قد جرى بين الملا مصطفى وقاضي محمد في 16/12/1946 الذي اصر على التضحية بنفسه حقناً لدماء الكورد، ونفذ حكم الاعدام فجر يوم 31 آذار عام 1947 بكل من قاضي محمد وسيفي قاضي وصدر قاضي. وفي 29 يناير 1947،غادر البارزانيون طهران.

وفي 15 نيسان ودع مصطفى البارزاني اخاه الشيخ احمد الذي رافق النساء والاطفال الى العراق، أما هو وعلى رأس (560) مسلحاً قرر الإنتقال الى الطرف السوفياتي بهدف تدويل القضية الكردية. وفي هذا الوقت نفذ حكم الإعدام يوم 19 حزيران 1947 بالضباط الكرد الاربعة الشهداء كل من الرائد عزت عبد العزيز والنقيب مصطفى خوشناو وخيرالله عبد الكريم والملازم محمود قدسي.

كانت مسيرة البارزاني اسطورية بكل المقاييس، ففي 20 نيسان من عام 1947 انطلقت هذه المسيرة المليئة بالمجازفات من منطقة نهر كودار في شرق كردستان وانتهت عند نهر آراس على الحدود الايرانية السوفياتيةحواليثلاثمائةكيلومتر. دخل البارزاني على رأس قواته في 19 نيسان الاراضي العراقية متوجهاً الى خواكورك عن طريق نازداري داغي مقسماً قواته الى خمس مجموعات وبلغ منطقة مزوري في 25 منه ونزل البارزاني في قرية أركوش وقد نسقت القوات العراقية- الايرانية- التركية لملاحقة الثوار الكرد. وفي السادس من أيار جمع البارزاني انصاره في أركوش وابلغهم بقراره النهائي والتأريخي باللجوء إلى الإتحاد السوفياتي، تاركاً الخيار لكل مقاتل فيما لو يرغب بالعودة، ففضل الجميع الموت معه على الحياة بدونه. سلكت القوة طرقات جبلية وعرة وعبر المضايق الجبلية وفق خطط عسكرية وتكتيكات محكمة من البارزاني الذي تميز بعبقرية استراتيجية وتكتيكية، ففي قرية درى تعرضت القوات الكردية للقصف العراقي في 23 ايار وفي اليوم التالي وصلت القوة الكردية الى قرية بيداف آخر قرية على الحدود العراقية- التركية وفي 25/5 غادرتها عن طريق ته ستار بيداف عبر الجبال الوعرة التي بلغت ارتفاعها 3000 آلاف قدم مكسوة بالثلوج الكثيفة وبلغت اليوم نفسه قرية باي في شمال كردستان وفي ليلة 27 أيار عبرت القوة الكردية زينيا ئاسنكرا الواقع بين قضائي كه فه ري وشمدينان ثم صعدت جبال سبيريز ومساء اليوم نفسه دخلت أول قرية ايرانية (جيرمي) وتوجهت في اليوم التالي صوب منطقة بكزاده وفي 29-30-31 أيار قضى البارزانيون يوماً في منطقة الهركيين ومن هناك الى منطقة شكاكا. وفي3 حزيران غادرت القوة قرية دوسكان الى كوزه ره ش ودخلت تركيا ثم عادت الى ايران وتمكنت عبور وادي قطور المليء بالمخاطر وفي الخامس من حزيران دخلوا منطقة عشيرة العروسي ثم قرية عمبارى وكانت الملحمة الكبرى في 9-11 حزيران خلال الهجوم على القوات الإيرانية في جبل سوسوز وسهل ماكو وتمكنت القوات الكردية من الإستيلاء على جسر ماكو وإجتياز نهر زنكي بعد ان تكبدت القوات الإيرانية مئات القتلى والجرحى، تلك القوات التي جاءت خصيصاً لضرب قوة البارزانيين وتصفيتها ومنعها من مواصلة السير نحو الدولة السوفياتية.

اجتازت القوة الكردية التي بلغ تعدادها 504 مقاتل نهر آراس يومي 17- 18 تموز عام 1947 بعد أن استغرقت مسيرتهم التاريخية (75) يوماً وقطع 400 كم عبر سلاسل جبال كردستان الوعرة وفي أجواء الشتاء القاسيه. نقل البارزاني الى ناخجيفان ومن هناك الى جمهورية اذربيجان، حيث تم توزيع المقاتلين الكرد على مناطق اكدام ولاجين وآيولاغ، أما البارزاني نفسه فتم اسكانه في مدينة شوش. وفي 29 أيلول عام 1947 نقل مصطفى البارزاني الى باكو حيث تم فتح معسكر تدريب خاص بهم.
ولأن البارزاني لم ينصع لضغوطات الحاكم الآذري باقروف بجعل الكورد جزءاً من أذربيجان، توترت العلاقات بينهما. كتب إستاذ التاريخ نيكولاي فيودوروفيج بوغاي، معتمدا على وثائق من أرشيف ستالين المحفوظة في وزارة الداخلية بأن:”جعفر باقيروف طلب من ستالين تدريب البارزانيين عند بحر قزوين وتأمين (20) خبيرا سوفياتيا لتدريبهم”. لكن الخلاف يدب بين البارزاني وباقيروف، فنقل البارزاني ورفاقه على أثره بطلب من باقيروف نفسه الى جمهورية أوزبكستان، بموجب مرسوم صادر عن مجلس وزراء اتحادالجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بتاريخ 9 تموز 1948 رقم 2943-121 الصادر عن وزارة الشؤون الداخلية لإتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية”، وأنزلوا في معسكر جرجوك قرب طشقند العاصمة وذلك في 29 آب. قادالمفاوضات مع البارزاني أيضًا جنرال المخابرات السوفيتية بافيل سودوبلاتوف، الذي قدم نفسه إليه على أنه ماتفيف، نائبا لمديرالعام لوكالة تاس والمتحدث باسم الحكومة السوفيتية. كتبب سودوبلاتوف لاحقً اأن البارزاني ترك عليه “انطباعًا كسياسي ذكي للغاية وقائد عسكري متمرس”. وأعلنب. سودوبلاتوف للبارزاني أن الجانب السوفيتي وافق للبارزاني وبعض ضباطه الخضوع لتدريب خاص في المدارس والأكاديميات العسكرية السوفيتية. وطمأن البارزاني إلى أن توطين الكرد في آسيا الوسطى سيكون مؤقتًا إلى أن تنضج الظروف لعودتهم إلى كردستان. طلب مصطفى البارزاني في رسالة من ستالين إستقباله لمناقشة المسألةالكردية، لكن رسائل البارزاني المرسلة إلى ستالين ظلت دون إجابة تم إخفائها وحجبها عن ستالين.

في نهاية عام 1948، استقبل مصطفى البارزاني ،بناءً على طلبه العاجل،من قبل أوصمان يوسوبوفيج يوسوبوف، أمين اللجنةالمركزية للحزب الشيوعي الأوزبكي،الذي أعرب له الجنرال عن عدم رضاه عن وضع المجموعة وطلب منه ترتيب لقاءمع ستالين لشرح موقفه وخططه.وبعد ذلك وفي 13 آذار من عام 1949 نقل البارزاني الى بلدة جمباي على بحيرة أورال ونقل مجموعة اخرى الى سمرقند وأماكن اخرى وبالتالي تم توزيع الكرد وتشتيتهم وتفرقتهم على كولخوزات ومنعوهم من الإتصال. وفي نهاية 1951 خصص للبارزاني منـزل في ضواحي طشقند وتم تحسين وضع رفاقه.
وفي اعقاب وفاة ستالين في آذار عام 1953 سافر البارزاني الى موسكو، وكتب بريماكوف في كتابه “الكواليس السرية للشرق الأوسط” (ص ص 324- 329) نقلا عن الزعيم الكردي مصطفى البارزاني:”طرقت بابسباسكيه في الكرملين، سألني ضابط ماذا تريدون؟، فاجبت:ليس البارزاني يدق الباب بل الثورة الكردية”.وقال لهم”أنا الملا مصطفى البارزاني أتيت لأعرض قضية الشعب المظلوم على شعب لينين وحزبه، الذي كان دائما يدعم نضال الشعوب من أجل التحرر من حيث المبدأ”. إستقبله مالينكوف سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي (1953-1955)،ومن ثم التقى بخروشوف، خلال أحدالإجتماعات، طلب خروشوف من البارزاني:إخبرنا عن جميع الأحداث منذ لحظةدخول فصيله الأراضي السوفيتية وحتى وصولهم إلى موسكو. قال له البارزاني كل شيء بالتفصيل، وفي الختام قال:”حاربت أنا ورفاقي سبع دول إلى أن وصلنا موسكو”. فطلب منه خروشوف تسمية هذه الدول،فأجاب البارزاني: “الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى والعراق وتركيا وإيران وأذربيجان وأوزبكستان”.ضحك خروشوف وقال: “كيف تمكنت من الوصول إلى حقيقة شخصية باقيروف؟” أجاب البارزاني: “نحن مطلعون على مبادئ الإتحاد السوفييتي الداعمة لقضايا الشعوب. ويأتي الكرد في طليعة هذه الشعوب. لذلك،جئنا لعرض قضية شعبنا، ولما دخلنا عوملنا في أذربيجان واوزبكستان معاملة تتناقض مع مبادئ لينين.قال نيكيتا خروتشوف،أطلعنا على رسائلك المرسلة إلى موسكو، وقد صودرت من قبل لافرنتي بيريا.تم على اثره نقل البارزاني الى موسكو حيث سكن في شارع نوفوسلوبو دسكايا في منزل جديد بُني خصيصًا للمهاجرين السياسيين البارزين طابق 5، شقة 125.وانهى هناك أكاديمية فرونزي العسكرية. كما وأرسل العشرات من رفاقه الى معاهد وجامعات الإتحاد السوفياتي وبخاصة في مدن روسيا الإتحادية، وكان يتناسب ذلك مع مكانته الرفيعة كقائد لحركة تحرر وطني يسعى إلى الحرية والإنعتاق والإستقلال القومي. ويقول بريماكوف في كتابه (الكواليس السرية للشرق الأوسط) بأن البارزاني عاش في السوفيات بإسم مامدوف.

عام 1956 زار البارزاني الكرد في أرمينيا وأستقبل جموع الكرد بحماس شديد. رافق البارزاني في جولاته كل من نادو محمودوف، وسمند علي سيامندوف، كما وزار مناطق اخباران، وتالين. وعلى أثر زيارته التاريخية تم إصدار صحيفة “ريا تزه” مجددا، وتأسيس فروع الكتاب الكرد، وتطور الدراسات الكردولوجية. وكذلك عودة الشعور القومي الكردي لدى الكرد الذين أخذوا يفتخرون بأن لهم وطن وزعيم.

وبعد أن امضى الزعيم الكردي مصطفى البارزاني 12 عاماً في الإتحاد السوفياتي عاد الى العراق في اعقاب ثورة 14 تموز عن طريق براغ- القاهرة- البصرة- بغداد كأحد ابرز قادة حركات التحرر الوطني المعاصرة. لقد أكد الدستور العراقي حينذاك في مادته الثالثة (ان العرب والكرد شركاء في هذا الوطن وان حقوقه القومية، ضمن العراق الموحد، يضمنها الدستور.
لكن بدا ان الطغمة العسكرية الحاكمة والشوفينية الرجعية لم تكن مؤهلة تاريخياً لتطبيق مبادئ 14 تموز المعلنة، اذ تراجعت السلطة الحاكمة وعلى رأسها عبد الكريم قاسم (تحت تأثير وضغوطات القوى الشوفينية) الذي شن حملة شعواء ضد الشعب الكوردي والبارتي الديمقراطي الكردستاني والحركة التحررية الكردية، وبما أن مصطفى البارزاني لم يكن من النوع الذي يساوم على القضية الكردية، لذلك فانه في أواخر عام 1960 غادر بغداد منتقلاً الى جبال كردستان، حيث اندلعت ثورة 11 ايلول 1961 بقيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني برئاسة البارزاني، والتي تعد اطول ثورة كردية في التاريخ الحديث والمعاصر واحدى أهم ثورات حركات التحرر في العالم. وتحولت جنوب كوردستان الى مركز مشع وأمل منشود للأمة الكردية في جميع اجزاء كردستان. وعن حرص البارزاني على الحفاظ على طبيعة ثورة أيلول كحركة تحررية قومية وحل المسألة الكردية سلميا ودون إراقة الدماء، كتب بريماكوف في مقابلة تم نشرها يوم 18/1/ 1967، عندما كنت في كردستان في شهر كانون الأول، قال لي البارزاني:”أتألم جدا عندما يقتل كردي أو عربي ولن أسمح أن يشوه طبيعة الثورة الكردية”.

وتعد اتفاقية 11 آذار عام 1970 الموقعة بين قيادة الحركة الكردية والحكومة العراقية أهم انجازات النضال القومي الكردي بقيادة مصطفى البارزاني والقوى الدمقراطية العراقية. لكن تبين ان تطبيقها غير ممكن في ظل نظام دكتاتوري فاشي المتمثل في نظام صدام حسين القمعي. وفي هذه الأثناء نسجت مؤامرة دولية بتوقيع اتفاقية 6 آذار 1975 بين بغداد وطهران، حيث جرد الكرد من الدعم الخارجي مما انتهت الثورة بشكل مأساوي.

في 5 أيار 1970 نشرت جريدة “Вечерний Тбилиси- تبليس المسائية” عن زيارة الأكاديمي الجيورجي فاسيلي زاخاروفيج كول شفي إلى بغداد كرئيس وفد في كونفرانس الدفاع عن السلام في دول آسيا وأفريقيا، وهو يتحدث عن لقائه بالبارزاني:”وصلنا ناوبردان بالهليكوبتر، وكانت آثار الحرب مازالت واضحة. ويصف البارزاني بأنه بيشمركه شجاع، إستقبلنا بحماس، كان في (67) من عمره، وكان متفائلا حيث قال:”سوف يبنى في كردستان المدارس والمشافي والمعامل وستطور الزراعة”. أما زاريا فستوك (Заря Востока- فجر الشرق) فقد كتبت بأن البارزاني أعطى أهمية للوحدة القومية. ففي المؤتمر الثامن للحزب الديمقراطي الكردستاني المنعقد في كلاله قال البارزاني:”الضمان الأساسي لتأمين حقوقنا هو وحدتنا القومية”. وبالفعل نرى اليوم ما تحقق وما نحن بحاجة إليه من الوحدة القومية تكهن به البارزاني منذ أكثر من نصف قرن.
توجه القائد الكردي الى ايران ومنها الى الولايات المتحدة الامريكية، وكان يعد نفسه للعودة في اعقاب سقوط الشاهنشاهية الا أن الأجل وافاه في 1 آذار 1979 في نيويورك عن عمر ناهز السادسة والسبعين.

ان اسم البارزاني سيبقى محفوراً في ذاكرة الشعب الكردي وتاريخه الى الأبد. ان هذا القائد اصبح ملكاً للتاريخ. لقد جمع في شخصيته سمات عديدة، نادراً ما تجمع في شخص في آن واحد. كان البارزاني مستوعبا للتوازنات الدوليةواستخدممهاراتهالدبلوماسيةوالعسكريةلتحقيقأهدافه، حازماً في إتخاذ القرارات، صارماً في نهجه، صامداً عند الشدائد، مناضلاً حراً، يتسم بالبساطة والوقار، يكره السلطة والمال، دقيقاً في عمله ومتوازناً شجاعاً هادئاً يتحرك بثبات وبخطوات متوازنة في إطار اللعبة الإقليمية والدولية، يثق بشعبه مؤمناً بعدالة قضيته في جميع اجزاء كردستان المجزأة حريصاً على كل شبر من كوردستان، لقد كان عظيماً يحب العلم ويبغض الجهل.
سيبقى اسم مصطفى البارزاني ونهجه يرفرف في كوردستان قاطبة.

المصادر:
1- وثائق أرشيف اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي.
2- أرشيف فاسيلي نيكيتين ميتروخين. تم سرقها من أرشيف لوبيانكا المقر الرئيسي للمخابرات السوفياتية من قبل الضابط ميتروخين لبريطانيا.
3- مذكرات ضابط المخابرات السوفياتي بافل سودبولاتوف تحت إسم (مهمة خاصة).
4- الكسندر فيكتوروفيج كيسيليوف، مهمة سرية في الشرق الأوسط.
5- يفغيني مكسيموفيج بريماكوف، الكواليس السرية للشرق الأوسط.
6- سروك مسعود بارزاني، للتاريخ.
5- ب.د.إسماعيل محمد حصاف، في سيمبوزيوم ( عن حياة الخالد مصطفى البارزاني)، من قبل قسم التاريخ –كلية الآداب، جامعة صلاح الدين، تاريخ 13 آذار 2022، في المركز الثقافي لجامعة صلاح الدين – أربيل، الساعة العاشرة صباحا.

Scroll to Top