جمعة عبدالله  

يأخذنا النص الروائي الى محطات عديدة ومتنوعة، ترسم مسيرة الواقع والحياة، في شؤون مصيرة عويصة ومهمة، ويتوغل الحدث الروائي باشكاله المتنوعة، في احدث عاصفة في مسيرة حياة (بابو حبيبي) وهي ترمز الى حياة العراق والعراقيين، قبل الاحتلال الأمريكي وبعده، أي بعد عام 2003، ترسم خارطة العراق والعراقيين في ابعادها السياسي والاجتماعي والاخلاقي. مستلهماً المتن الروائي قصة النبي يوسف وتبعاتها الخطيرة في اطار الاخوة الاعداء، في المعنى والمغزى البليغ والعميق، وهي رمزية لحياة العراقي في الغربة والمهجر أو بعد رجوعهم الى الوطن، في صراع دائم غير مستقر يأخذ أشكال وطرق مختلفة. ربما نجد بعضها غريبة عن واقعنا ومعطيات تراثنا، ولكن قصة اخوة يوسف، لن تغيب عن المشهد العراقي، قديما وحديثا. تظهر باشكال مختلفة تبعاً للزمن والظرف المحدد. ودور الطمع المالي في تخريب أواصر العائلة والمجتمع حتى في تخريب الاوطان، حين تتفجر صفات الخيانة والغدر بشكلها الرهيب تهدد الحياة والوجود. ولكن الحياة تبقى مستمرة في البقاء، أو في المعنى الأدق، تحيى من رمادها من جديد. لذلك اننا أمام نص روائي مزدحم في خضم أحداث ومحطات، تذهب في اتجاهات مختلفة، والنص الروائي يملك الامكانية الهائلة من براعة الصياغة والتعبير، في تنقلاته من الواقعية الى السريالية الى الروحانيات، لكنها تسير في اتجاه، وهرم واحد يتحكم بها. في تداعيات الاحداث والصراعات بين الشخصيات الرئيسية في المتن الروائي، تعطي معنى الصراع بين الخير والشر، ولا يمكن ان يحسم، ربما يتغلب احدهما على الآخر لكن دون حسم ثابت. ومن اجل تسليط الضوء في التحليل النقدي، لابد من فرز الشخصيات ومميزاتها الدالة في المتن الروائي ورمزيتها المعنونة والدالة.

– شخصية بابو حبيبي:

الطفل الذي ولد معوقاً جسمياً في صعوبة الحركة، ومصاب بالصم والبكم، فقد والديه وتكفلت رعايته خالته (سعاد) وزوجها ( الحاج ناجي) الذي يكن له احتراماً وتبجيلاً الى حد القدسية. واعتبره ابنه الشرعي ويفضله على أولاده (رعد وعماد) وبناته (موجة ورقية)، رغم ان البعض يعتقد الى هذه الإعاقة والمعوقات ستخلق منه شبحاً شريراً وعدونياً، ينتقم من المجتمع الذي خلقه بهذه التشوهات كشخصية (فرانكشتاين) ولكن النص الروائي خلق منه أيقونة إنسانية نبيلة في قلبه وعاطفته كشخصية رواية (احدب نوتردام) التي تملك مميزات خارقة في صالح ومنفعة المجتمع. يكون مدعاة فخر واعتزاز بالحب النقي، يورق عبيره في العائلة والجيران وسكنة الحي والى ابعد من ذلك، بقلب فياض بالحب والعاطفة السامية، وخلق من إعاقته وإصابته بالصم والبكم، سلماً في خلق معجزات، كحاسة الشم وفرز الروائح كالكلب البوليسي. حتى أمه تستخدمه في معرفة روائح الطعام، وكذلك الجيران والحي في استثمار حاسة الشم الخارقة. وقلب فياض بالإنسانية. فعندما فقد بين يدي والديه في التسوق في (المول / سوبر ماركت ) خلق الفزع والقلق وخاصة من أبيه خوفاً من الخطف من قبل تجار أعضاء الجسم وخاصة الأطفال (يا الله أين أنت بابو ؟!! أظهر يا ولدي فديتك با أغلى ما عندي، كنت وسعاد نسابق الزمن لكي لا يبتعد بابو كثيراً، فيصير من المستحيل العثور عليه، وكان هاجس المزعج الذي سيطر علينا،أنا وسعاد ان يقع بيد من لا يخاف الله، ويوهمه أنه سيد له على أبيه وأمه ويقتاده إلى خارج السوق وبيعه الى العصابات المتخصصة بسرقة الأطفال المعاقين) ص 7.وخاصة ان بابو ولد بعينين زهريتين تميل الى الصفرة تفتح شهية هؤلاء المجرمون (وقد حدثت الكثير من حوادث الخطف لهذا النوع من الأطفال، وعثر على جثثهم فيما بعد مرمية في الاماكن البعيدة وعند مزابل الاحياء، وكل شيء كامل في اجسادهم سوى فقدان العينين !! وقد تم اقتلاعهما بحرفية عالية تدل على التمرس في هذا الفعل الإجرامي الشنيع !!) ص36. واخيراً وجدوه يقود فتاة عمياء هي الاخرى فقدت ذويها في السوق.

– كان بابو حبيبي يملك ميزة خارقة في شفاء المرضى ومن فيهم العلل والسقم، بتمرير عود الثقاب على اجسادهم حتى يذهب المرض والعلة، واشتهر بذلك بين الجيران والحي وما هو أبعد من ذلك، بصفة التي عرف بطبيب الأمراض والعلل.

– بابو العاشق: كان يوقظ كل صباح ابيه، ليقف على عتبة الباب مسكنهم حتى تمر الفتاة (صفاء) لترشقه في ابتسامة تنور انوار قلبه بالفرح والحب، وحين اصابها المرض، طلبت عائلته من بابو ان يشفيها بتمرير عود الثقاب على جسمها حتى يذهب المرض والعلة، فقبل الدعوة بكل سرور وخاصة وهو يحمل شغاف الحب والهوى الى فتاته (صفاء) وحين طلب خطبتها، استغربت عائلة (صفاء) كيف يتجرأ معوق بخطبة فتاة جامعية ؟، وكانت خيبة الرفض اصابت قلبه بجرح ينزف، وتزوجت من شاب من عائلة غنية وميسورة.

– حاول ابيه ادخاله في مدرسة الصم والبكم، لكن مدير المدرسة رفض لصعوبة حركته، مما اصاب ابيه الحزن والخيبة (- آه ياولدي حبيبي !! ماذا افعل لكي تكون كغيرك من الأطفال الطبيعيين، من أعطاهم الرحمن الصحة والقدرة على العيش الطبيعي ؟!! لكنني كنت احاول أن أعلمه مبدأ أن لا يترك الاعاقة التي يعانيها تهيمن على حياته) ص23.

– احتضنته العائلة بحب كبير، وتحاول ان تعلمه بعض الاشارات لتفاهم معه، رغم الصعوبة في البداية ولكنه أخذ يفهم بعض إشارات التفاهم، وبدأ يتعلم على تشغيل الكومبيوتر، وبدأ يعرف أسرار الشبكة العنكبوتية كمحترف في التواصل والمراسلة. وحتى امتلك القدرة الى ان يصل الى اكثر المواقع الحساسة والخطيرة، التي حتى المحترفين يعجزون في الايصال اليها مهما كانت قدرتهم في معرفة أسرار الشبكة العنكبوتية، ولكن بابو حبيبي امتلك القدرة ان يصل الى اي موقع ويراسله، ومن خلال هذه المراسلات حصل على شيك من البنوك بمبلغ عشرين مليون دولار، بشكل شرعي وقانوني، وارسل الى رصيده البنكي، وحين تحرى ابيه عن صحة وفحوى هذا الشيك، اخبره البنك، بأنه بالفعل ارسل هذا مبلغ بشكل شرعي وقانوني وادخل في حسابه في البنك. هذا المبلغ المالي الكبير نقلهم من حالة الفقر والبؤس في الغربة، الى خالة الغني وميسورة الحال، فودعوا الغربة ومعاناتها العسيرة ورجعوا إلى العراق بعد الاحتلال الامريكي عام 2003،واسس بابو في مهاراته الخارقة شركة كبيرة وفتحت عليه العقود والصفقات المالية من الداخل والخارج. وكانت الشركة تحت إشرافه يساعدانه في الإشراف الإداري والمالي وتوقيع العقود شقيقاه (رعد وعماد).

– غدر أخوة يوسف:

من الربح الوفير واصبحت شركة بابو حبيبي، تملك أرصدة مالية وعقارات واملاك كبيرة ومتنوعة. وتنهال عليها الصفقات المالية الرابحة، فلعبت الخيانة والغدر في عقلية شقيقيه (رعد وعماد) ان يستحوذون على المال والسندات والعقارات وأموال الزبائن الشركة، فتدبروا  فخ في خطف بأبو من خلال الشراب المنوم ورميه في الصحراء ليكون طعماً للكلاب السائبة في رمال الصحراء، وفعالاً اخذوه ورموه في رمال الصحراء، ورجعوا إلى أبيهم يتباكون ويذرفون دموع التماسيح على فقدان شقيقهم بابو. بحجة تركوه في السيارة لفترة وجيزة لشرى حاجة معينة، وعند رجوعهم لم يجدوا بابو في السيارة، فبحثوا عنه في كل مكان فلم يفحلوا بالعثور عليه، فكانت الصدمة الكبيرة لوالدهم، واصابه الوهن والارتباك والحزن، كأن خنجر غرس في قلبه، فلم يهدأ له بال بفقدان ابنه (بابو حبيبي) فكان يخرج مع زوجته كل صباح، يفتشون عنه ويسألون هذا وذاك، ونشروا اعلان عن فقدان معوق فمن يعثر عليه يكرم بهدية مالية كبيرة، لكن دون جدوى، أما حال الشركة والأموال والعقارت وصلت الى حد الافلاس التام. وتبخرت كلياً وأصبحوا مدانيين للزبائن والشركات والدولة ووصل الحال بهم الى السجن، بتهمة الاغتصاب وابتزاز أموال الزبائن والدولة، اما حالة بابو حبيبي حين أفاق من مخدر المنوم، وجد نفسه مرمياً وسط رمال الصحراء، فغشي عليه،ولكن الصدفة انقذته من الموت المحتم،، أنقذه احد رجال البدو كان ماراً مع كلبه وشاهد جثة مرمية على الرمال، فأخذه الى بيته واعتنى به، حتى شفى تماماً، واستثمر ميزته الطبية في علاج المرضى بعود الثقاب، حتى احتل مقام الاحترام والتبجيل من ناس الصحراء. فهزه الشوق والحنين إلى ابيه، فرجع اليه ووجده مريضاً منهكاً فاقد البصر، فاحتظنه بحزن وبكاء وقال (- كنت أعرف أنك لا تزال حياً في مكان ما !! وانني سالتقيك قريباً وقد بشرني الله بالكثير من الرؤى جعلني أطمن عليك وعلى مصيرك !! الحمد لله يا ولدي أنك لا تزال حياً، وقد شفيت من عاهتك، فصرت متكلماً لبقاً، فلا اجد فيك ذلك البابو الصغير، الذي لا يكاد أن ينطق حرفاً، هذا الرجل الحكيم المتكلم حكمة هو أبني بابو !!) ص147.

– البعد الرمزي في الخيانة والغدر:

صحة مقولة: من يأتي المال بالحرام يتبخر في الحرام، وهذه حالة عامة تنطبق في أي زمان ومكان، وخاصة على حال حياة العراقيين، في الظواهر الغريبة التي ظهرت بعد الاحتلال، ترسيخ مبدأ الخيانة والغدر في كسب المال الحرام، في تدمير الاخلاق والبنية الاجتماعية والوطن، ونعرف طاعون الفساد اهلك العراق والعراقيين، واحرق الاخضر واليابس، في شهية الطمع بسرقة الجمل بما حمل

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية