محمد علي أحمد
في المشهد السياسي الكردي السوري، لم تعد الخلافات والاختلافات تندرج في خانة الجدل الفكري والسياسي المشروع، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى معارك صفرية يختلط فيها النضال بالثأر، وتتماهى فيها المظالم الحقيقية مع سرديات تُستخدم لتبرير الإقصاء والعنف والهيمنة.
لقد بات واضحًا أن هناك من يسعى اليوم إلى فرض سردية واحدة للتاريخ والمستقبل، تقسم الناس بين «ثوريين مخلصين» و«خونة متآمرين»، وفق مقاييس لا تحتمل النقد ولا تعترف بالتعدد.
بين الأسطورة والواقع
لطالما اختلطت في الوجدان الكردي السوري الوقائع بالأساطير. فمن جهة، لا يمكن إنكار حجم الظلم التاريخي الذي تعرض له الكرد في سوريا من قبل الأنظمة المتعاقبة، ولا حجم التضحيات التي قدمها الآلاف من المناضلين والمدنيين العزل. ومن جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن هذا النضال تعرض — ولا يزال — لمحاولات احتكار واستثمار سياسي على يد تنظيمات وأحزاب اتخذت من «القضية القومية» غطاءً لمشروع سلطوي.
في هذا السياق، يُستحضر التاريخ بشكل انتقائي يخدم مصالح سياسية آنية. تُعاد صياغة الوقائع لتبدو كما لو أن جهة واحدة، أو حزبًا بعينه، هو الذي احتكر لواء النضال، بينما يصوَّر الآخرون على أنهم إما باحثون عن مكاسب شخصية أو أدوات بيد القوى الخارجية. هذا المنطق لا ينتمي إلى الفكر الديمقراطي الحر ولا إلى تقاليد النضال الحقيقي، بل يُعيد إنتاج عقلية استبدادية ترى في المختلف مجرد تهديد يجب استئصاله.
الشعارات كأداة إقصاء
من المؤسف أن البعض ما يزال يعتمد خطابًا ماضويًا يقوم على استحضار مقولات ثورية خارج سياقها التاريخي، ليُجرّم بها كل نقد أو مخالفة. في هذا المنطق، يُصنّف الاختلاف في الرأي بمثابة خيانة متعمدة، أو جهل يستوجب الإقصاء وربما العقاب. وهو منطق سبق أن جرّبته كل الأنظمة الشمولية في منطقتنا، وكانت نتائجه كارثية: تدمير الحياة السياسية، تمزيق المجتمعات، وفتح الطريق أمام التدخلات الخارجية.
الأخطر من ذلك، أن هذا الخطاب يُسوّق باسم «مكتسبات» مزعومة تحققت بثمن آلاف الدماء، ويُطلب من الجميع القبول بها دون مساءلة أو نقد. فيُصبح الدم الكردي وقودًا لمشروع سياسي مغلق، لا يقبل الشراكة ولا يعترف بشرعية الآخر.
الصراعات الصفرية
في تاريخ المنطقة، دُفعت أثمان باهظة بسبب معارك الإقصاء. وفي الحالة الكردية السورية، لم يكن الوضع مختلفًا. فبينما كان يُفترض أن تُشكّل القضية الكردية جامعًا موحّدًا حول الحقوق الأساسية والهوية، تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات. منطق «إما معنا أو ضدنا»، الذي اعتادت على فرضه الأنظمة الحاكمة، أصبح اليوم من أدوات بعض القوى الكردية ذاتها.
الأنكى من ذلك، أن ثمة من يدعو جهارًا لمحاسبة المخالفين بطريقة دموية، وكأن المجتمع الكردي لم يدفع ما يكفي من الضحايا في صراعات الإقصاء والردع. هذه العقلية لا تختلف عن عقليات الأنظمة الشمولية التي لطالما ادعت حماية الوطن وهي تمارس القمع باسم الأمن والاستقرار.
من الخطأ التاريخي والسياسي تصوير حزب العمال الكردستاني، أو أي حزب آخر، كحامل وحيد للمشروع القومي الكردي في سوريا. نعم، قدمت كوادر هذا الحزب تضحيات، وواجهت آلة القمع، لكنها ليست وحدها من فعل ذلك. فثمة عشرات الأحزاب، والمئات من الناشطين، والآلاف من المناضلين المدنيين، دافعوا عن حقوق شعبهم بوسائل مدنية، ورفضوا منطق السلاح واحتكار القرار.
كما أن تصوير الآخرين على أنهم لا همّ لهم سوى البحث عن المناصب أو المال هو تبسيط خطير. صحيح أن الحركة السياسية الكردية السورية عانت من مراحل ضعف وترهل، وأن المال السياسي لعب دورًا سلبيًا في تفتيت صفوفها، لكن من الظلم محو تاريخ سياسي طويل، شهد أسماء وقامات دفعت أثمانًا باهظة في سبيل كرامة هذا الشعب.
ديمقراطية أم شمولية مقنّعة؟
المعركة اليوم لم تعد بين من يرفع السلاح ومن يرفع القلم، ولا بين من يتلقى دعمًا من عاصمة ما وآخر من عاصمة أخرى. بل هي معركة قيم، بين مشروع وطني ديمقراطي حر، يؤمن بتعدديّة الكرد وكرامتهم، وبين عقلية إقصائية لم تنتج إلا الاستبداد تحت شعارات براقة.
والسؤال هنا: أي مستقبل نريده للكرد في سوريا؟ هل نعيد إنتاج نماذج حكم شمولية في مناطقنا باسم القضية؟ أم نناضل من أجل نظام ديمقراطي تعددي يحرّم الدم الكردي على الكردي، ويمنع تحويل القضية إلى مزاد سياسي؟
التاريخ لا يُكتَب بالشعارات وحدها، بل بالوقائع والضمير. ومن أراد فعلًا الدفاع عن «الكردايتي»، فليبدأ باحترام المختلف، بقبول النقد، وبتحريم الدم الكردي على الكردي.
القضية الكردية أكبر من أن تُحتكر، وأشرف من أن تُستثمر في معارك سلطوية. أما من يظن أن العنف والإقصاء يمكن أن يصنعا مستقبلًا حرًا، فهو لا يقرأ من التاريخ سوى ما يشتهي.
المصدر: مدارات كرد
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=68719