د. أحمد الخليل
الكرد.. ودمشق
قصة الكرد مع دمشق تعود إلى ثمانية قرون خلت، ولا أستبعد أن يكون بعض الكرد قد أقاموا في دمشق منذ العهود الإسلامية الأولى، لكن وجود الكرد بشكل كثيف، في هذه المدينة العريقة، بدأ منذ العهد الزنكي، وتحديداً منذ أن سيطر السلطان نور الدين زنكي (ت 569 هـ) على دمشق، بفضل جهود كل من القائدين الكرديين نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، وأسد الدين شيرگوه عم صلاح الدين.
ومعروف في المصادر التاريخية الإسلامية أن هذين القائدين الكرديين- نجم الدين وشيرگوه- هما اللذان أوصلا نور الدين إلى سدّة الحكم بعد مقتل والده عماد الدين زنكي سنة (541 هـ)، ولم يكونا مجرد فردين، وإنما كانا يقودان عدداً كبيراً من الفرسان الكرد، ولا سيما من القبيلة الرَّوادية التي كانا ينتميان إليها.
على أن وجود الكرد في دمشق أصبح أكثر كثافة منذ سنة (570 هـ)، ففي هذه السنة دخل السلطان صلاح الدين قادماً من مصر، وضمّ بلاد الشام إلى ملكه، إذ كانت الأوضاع قد اختلّت فيها بعد وفاة نور الدين، وعجز ابنه السلطان إسماعيل– وكان صبياً- عن إدارة دفة الحكم، في وقت كان فيه الفرنجة يسيطرون على سواحل بلاد الشام، ويهدّدون عاصمتها دمشق.
بلى، بعد أن ضم صلاح الدين بلاد الشام إلى ملكه، اتخذ دمشق عاصمة ثانية للدولة الأيوبية، وليس هذا فحسب، بل نقل إليها مركز قيادته، واتخذها قاعدة ينطلق منها لإدارة دفّة معركة التحرير الطويلة والشاقة والشرسة ضد الفرنج، وكان من الطبيعي أن ينتقل إليها المقاتلون الكرد الذي كانوا ينضوون تحت لوائه، ويشكّلون القوة الضارية في جيشه إلى جانب التركمان والعرب.
أصول.. وفروع
وهكذا فإن الكرد المقيمين في دمشق القديمة الآن هم حفدة أولئك الكرد المقاتلين جند صلاح الدين، وجند من بعده من سلاطين الأيوبيين، أولئك الشجعان الذين ساهموا بقوة في تحرير بلاد الشام من الغزو الفرنجي، وسجّلوا الانتصارات الشهيرة في معركة حطّين، واستردّوا مدينة القدس.
ولو تتبّعنا أصول هؤلاء الكرد الدمشقيين لاتضح، بما لا يدع مجالاً للشك، أن أصولهم تعود إلى قبائل وعشائر كردية عريقة، وما زالت أسماء تلك القبائل والعشائر موجودة في أنسابهم إلى يومنا هذا، أذكر منها على سبيل المثال: آلُوسي، آلَ رَشي، أيوبي، باراڤي، بَرازي، زازا، سُوَيرَكْلي، ش\يخاني، كِيكان، مِللي.
وإذا كان الكرد الدمشقيون الأوائل قد بذلوا دماءهم دفاعاً عن البيت الشرق متوسطي، وحرّروا بلاد الشام من الفرنجة الغزاة، فإنهم لم يتوانوا عن المساهمة في النشاط الحضاري في بلاد الشام، ولا سيما النشاط الثقافي. وقد نهج حفدتهم النهج نفسه في العصر الحديث، فتاريخ الثورات السورية ضد الاستعمار الفرنسي حافل بأسماء كثير من مشاهير الكرد الدمشقيين، كما أن ميادين الثقافة في سوريا حافلة بكثير من أسماء الأدباء والعلماء والمفكرين الكرد.
ونتناول الآن سيرة أحد أولئك الكرد الدمشقيين الذين جمعوا بين الشعر والعلم والسياسة، وناضلوا في الوقت نفسه ضد الاستعمار الفرنسي، حتى إنهم أصدروا عليه حكم الإعدام؛ إنه الشاعر والثائر والسياسي والمؤرخ خير الدين الزركلي.
فمن هو الرجل؟
وماذا عن سيرته؟
نشأته وحياته السياسية
هو خير الدين بن محمود آغا بن محمد بن علي الزِرِكْلي (بكسر الزاي والراء) نسبة إلى عشيرة (زرِكِي) الكردية، وقد ولد خير الدين سنة (1310 هـ / 1893 م) في بيروت، من أبوين دمشقيين، ونشأ بدمشق، وتعلم في إحدى مدارسها الأهلية، وأخذ عن كبار علمائها على الطريقة القديمة، وأُولع بكتب الأدب، وقال الشعر وهو صبي، ودرس في المدرسة الهاشمية.
وانتقل خير الدين إلى بيروت، والتحق بالكلية العلمانية المعروفة باسم (لاييك)، يدرس الدراسات الفرنسية، ثم عمل أستاذاً للتاريخ وللأدب العربي في الكلية نفسها، وعاد إلى دمشق في أوائل الحرب العالمية الأولى، وفي سنة (1920 م) تجنّس بالجنسية العربية في الحجاز، حينما كانت الحجاز تحت سلطة الملك حسين بن علي (الشريف حسين)، وانتدبه الملك حسين لمساعدة ابنه الأمير عبد الله في الدخول إلى الأردن، وإنشاء الحكومة الأولى في عمّان، وقد عُيّن خير الدين مفتّشاً عاماً للمعارف في تلك الحكومة، ثم رئيساً لديوان رئاسة الحكومة، بين سنتي (1921 – 1923 م)، وهو في طريقه إلى الأردن،
وبعد أن سيطرت الأسرة السعودية على الحكم في شبه الجزيرة العربية، وأسس الملك عبد العزيز آل سعود المملكة العربية السعودية، أصبح خير الدين من رعايا تلك الدولة الناشئة، وقويت صلته برجال الدولة السعوديين، فعُيّن سنة (1934 م) مستشاراً للوكالة السعودية في مصر (المفوّضية)، ثم انتُدب سنة (1946 م) لإدارة وزارة الخارجية في جدّة بالتناوب مع صديقه الشيخ يوسف ياسين.
وانتُدب الزركلي سنة (1946 م) لإدارة وزارة الخارجية السعودية بجدّة، بالتناوب مع صديقه المرحوم الشيخ يوسف بن ياسين، وفي سنة (1951 م) سُمّي وزيراً مفوّضاً ومندوباً دائماً للمملكة لدى جامعة الدول العربية بالقاهرة، ومثّل السعودية في عدد من المؤتمرات.
وفي سنة (1957 م) عُيّن سفيراً للسعودية لدى المملكة المغربية، فظل فيها عميداً للسلك السياسي حتى سنة (1965 م)، إذ اعتلّت صحته، فمُنح إجازة للراحة غير محدودة، على أن يظل برتبة سفير في وزارة الخارجية السعودية حتى أواخر أيامه، وأذن له الملك فيصل بن عبد العزيز بالإقامة في بيروت، وعكف هناك على التأليف، وقد وافاه الأجل في بيروت سنة (1396هـ / 1976 م).
شاعر .. وثائر
الشعر والثورة أمران واكبا الزركلي منذ صباه، وقد مرّ أنه أنشد الشعر في دمشق وهو صبي، وما إن دخل الجيش الفرنسي دمشق سنة (1920 م)، بعد معركة ميسلون، حتى غادر دمشق، وأقام في عمّان، وراح من هناك يراقب أحداث وطنه عن كثب، ويُصلي الفرنسيين الذين احتلوا سوريا شعراً من سعير لا يطاق، ودوّت قصائده الوطنية مندّدة بالمستعمر، ومحرّضة على الثورة، وداعية إلى المقاومة، فأصدر الفرنسيون حكماً غيابياً بإعدامه وحجز أملاكه، ولما بلغه هذا الحكم وهو في مصر أنشد قصيدة يؤكّد فيها تمسّكه بالحرية، نذكر منها قوله:
نَذَروا دمي حَنَقاً عليّ، وفاتهـمْ أنّ الشقيَّ بما لقِيتُ ســعيدُ
اللهُ شـاء ليَ الحياةَ، وحاولوا ما لم يشـأْ، ولحكمِـه التأييدُ
في ذمّة الأجيـال نهضـةُ أمّةٍ أَوْدى بها التهويلُ والتهـديدُ
والشعبُ إن عرف الحياةَ فما له عن دَرْك أسبابِ الحيـاةِ مَحيدُ
وفيما بين سنتي (1921 – 1023 م) أبلغت الحكومة الفرنسية أسرته في دمشق أنها قررت وقف تنفيذ حكم الإعدام فيه، لكن ذلك لم يدفعه إلى الصمت، بل استمر في نهجه الثوري ضد المستعمر الفرنسي قولاً وفعلاً.
وظل الزركلي ناشطاً في الحركة الوطنية، فكان شاعرها الألمعي وفارسها المغوار، ولما اندلعت الثورة السورية الكبرى سنة (1925 م) كان له شرف إشعالها، وكان ما ينفثه من لهيب شعره الثوري أشد وقعاً على الفرنسيين من تأثير قنابلهم على معاقل الثوار، ولذا عرف بأنه شاعر الثورة الأكبر، وها هو ذا يقول في وصف دمشق وهي تعاني من بطش السلطة الاستعمارية الفرنسية:
الأهلُ أهلي، والديـــارُ دياري وشعارُ وادي النَّيْرَبَين شِـعاري
ما كان من ألمٍ بِجِــلّق نـازلٍ واري الزنـاد فزَنْـُده بيَ وراي
النارُ مُحــدِقةٌ بجِــلّقَ بعدما تركتْ (حماةَ) على شفيرٍ هـارِ
ونتيجة لمواقفه الوطنية الصادقة، وتحريضه على الثورة، وتنديده الدائم بالاستعمار الفرنسي، ثارت ثائرة الحكومة الفرنسية، فأصدرت خلال اندلاع الثورة السورية (1925 م)، حكماً غيابياً ثانياً بإعدامه.
والحقيقة أن الزركلي يعدّ من فحول شعراء عصره، وله في الشعر جولات وصولات، وكان كثير العناية بشعره، شديد التنقيح له، وربما نظم قصيدة من خمسين بيتاً، ثم أخضعها للتمحيص والتدقيق، فلا يسلم منها سوى عشرين بيتاً، وبذلك كان يجعل شعره سليماً من الركاكة، مستوفياً خصائص الأصالة والنصاعة، هذا إضافة إلى أن شعره متنوع الموضوعات، شريف المقصد، نبيل المغزى.
الزركلي عالماً
لم يكن خير الدين الزركلي رجل الشعر والثورة والسياسة فقط، وإنما كان رجل الصحافة والعلم أيضاً، فمنذ عهد شبابه الأول أصدر في دمشق مجلة (الأصمعي)، فصادرتها الحكومة العثمانية، لأنه نشر فيها صورة كتب أنها (صورة الخليفة العربي المأمون)، وأصدر في دمشق سنة (1918 م) جريدة (لسان العرب)، وبعد أن أُقفلت شارك في إصدار جريدة (المفيد).
هذا في مجال الصحافة.
أما في مجال التأليف فله ديوان شعر معروف باسم (ديوان الزركلي)، طُبع الجزء الأول سنة (1925 م)، وكتاب (شبه جزيرة العرب في عهد الملك عبد العزيز)، طُبع في أربعة أجزاء، وكتاب (عامان في عمّان)، وهي تضم مذكراته خلال عامين، وكتاب (ماجدولين والشاعر)، وهي قصة شعرية، وكتاب (وفاء العرب)، وهي قصة تمثيلية نثرية مُثّلت مراراً ابتداء من سنة (1914 م).
والحق أن أعظم كتب الزركلي، وأكثرها فائدة وشهرة، هو كتاب (معجم الأعلام)، وكأني بالزركلي كان يكمل ما بدأه كردي دمشقي آخر، أقصد القاضي ابن خَلِّكان (ت 681 هـ)، ولهذا الكتاب قيمة تاريخية وعلمية ثمينة، وهذه حقيقة يدركها كل مهتمّ بشؤون البحث العلمي الجادّ، ولا تكاد تخلو منه مكتبة من المكاتب الصالحة للدرس والبحث، سواء أكانت خاصة أم عامة، ولا نحسب أن ثمّة باحثاً في علوم الدين والتاريخ والأدب والسياسة وغيرها إلا يجد نفسه محتاجاً إليه بهذا القدر أو ذاك.
وترجع أهمية كتاب (معجم الأعلام) إلى أنه يضمّ كمّاً هائلاً من أسماء المشاهير في مختلف الميادين، قديماً وحديثاً، ولم يكتف المؤلّف بذكر تاريخ ولادة العَلَم ووفاته كلما كان ذلك ممكناً، وإنما أشار في الهوامش إلى المصادر التي استقى منها المعلومات الخاصة بكل علم؛ الأمر الذي يمكّن الباحث من الرجوع إليها بسهولة ويسر. ولا يملك المرء، وهو يتصفّح كتاب الأعلام بمجلداته العديدة، إلا أن يعجب من صبر المؤلّف ومثابرته، ومن قدرته الفائقة على الرصد والجمع والتصنيف والتبويب.
ما قيل في الزركلي!
يقول الدكتور شاكر مصطفى:
” … في الشعر كان الزركلي في الصف الأول، من قناديل تلك الأيام الأولى، الدفعة الشعرية التي غذّت نهضة العرب بالقوافي، في الربع الأول من هذا القرن، وكان أسياد المنابر فيها الرصافي وشوقي وحافظ إبراهيم والزهاوي وإسماعيل صبري، وكان فيها للزركلي منبر أيضاً رغم شبابه الغض، فاتحاً دخل ندوة شعراء النهضة أولئك، وسيداً من أسياد القافية … “.
وقال الدكتور شكري فيصل في حفل تأبينه:
” … إننا نؤخذ حين نقرأ شعر الزركلي، ذاك نمط من رفيع البيان، ورائع التصوير ونيّر الأداء، لم يبق من القادرين عليه إلا القلة، إنه أحد هؤلاء الذين صاغوهم وصفّاهم لهب نهضتنا [ شعراء سورية ] … ” .
وقال فيه الشاعر أنور العطّار:
” … ما عرفت سورية شاعراً بَرّاً بوطنه، متعلّقاً به على توالي المحن، مثل خير الدين الزركلي، الشاعر الذي حمل قيثارة العزاء في ليالي الوطن السود، وغنّاه أبقى الغناء وأنقاه، فما ناب سورية خطب، ولا ألمّت بالسوريين مُلمّة، إلا مسح بأطراف قلبه مواجع المنكوبين، ومدامع المعذَّبين، فهو شاعر الوطن في جهاده، ومآسيه، وشعره البلسم الشافي لآلام الصابرين وجراحات المجاهدين … “.
وذكر الدكتور شاكر مصطفى اهتمام الزركلي بالتاريخ، فقال:
” وأما التاريخ ، فللزركلي فيه قصة أخرى، هو نفسه كان يعرفها جيداً، وإن لم تكن فصولها الكاملة معروفة للناس، وكان يعرف ماذا يفعل، وإن كان الكثيرون لا يعرفون قيمة هذا الذي يفعل: يجمع الجُذاذات، وينظم الأوراق، ويضيف الحواشي، ويذيب النظّارات في المخطوطات، ويضيف ورقة هنا وكلمة هناك، سنين بعد سنين، فلا العمل في اعتقاده قد انتهى، ولا الأكثرون، حتى الأقربين، كانوا يفهمون أبعادها ما يصنع، فلما طبع الكتاب الذي اجتمع له، الطبعة الثانية الكاملة سنة (1957 م) في عشر مجلدات، كتب في مطلعه: هذا إنتاج أربعين عاماً أمضيتها في وضع الأعلام. وقد أضاف إليها بعد ذلك عشرين عاماً أخرى، ومجلدين آخرين، وتمنّى أيامه الأخيرة أن يتابع عمله من يتابع … “.
” أحد أصهاره قال له مرة: لو كتبت كتاباً من هذه الكتب الدراجة، التي يقرأها الناس بسرعة وكل يوم، أما كان أجدى وأوسع سمعة؟ فقال له الزركلي: وهل تذكر أنت أسماء هؤلاء الذين يلقون كتبهم للناس في كل يوم؟ كتابي هذا سيذكرني به الناس ألف سنة “.
وقد صدق الزركلي في قوله، فقد زوّد المكتبة العربية خاصّة والمكتبة الإسلامية عامة بسفر جليل، سيظل على توالي الأيام معينًا لكل باحث، وملاذًا لكل دارس.
المراجع
1- أدهم آل جندي: أعلام الأدب والفن، دمشق، 1954 – 1958م.
2- جرجي زيدان: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1970م.
3- خير الدين الزركلي:
– الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986م.
– ديوان الزركلي (الأعمال الشعرية الكاملة)، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1992 – 1993م.
– ما رأيت وما سمعت، مكتبة المعارف، الطائف، 1977م.
4- عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957م.
وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والعشرين.
د. أحمد الخليل في 4 – 10 – 2006
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=35201