الإثنين, مارس 10, 2025

معاناة في دخان أسود

كفاح الزهاوي

لا يزال يجتر مرارة أسمال الزمن، ويغوص في علقم الحياة، ويحترق في جذوة السيجارة، فيتناثر في الدخان الكثيف المتصاعد، سابحًا في بركة من الفوضى والنفاق. كيف له أن يترك هذه الشرنقة بعد أن تعفن فيها دهرًا، بل يزداد يومًا بعد يوم عطنًا وفسادًا؟ تفوح من جدرانها روائح كريهة تنتشر في الفضاء، وتختلط مع الهواء لتنتج طبقة صفراء، صانعةً سُحبًا مخيفة تكسو أجواء الشرنقة. يستنشق ملء رئتيه سمومها، ومن شدة الإدمان يتراءى له أريج الطبيعة الخضراء.
يحوم في جوفها وحيدًا كطائر تائه في سماء ملبدة بالغيوم الداكنة. على الرغم من ضياعه في هذا الخناق المميت المملوء بالدخان الأسود، إلا أن التفاؤل والرغبة في الخلاص تخفيهما غمامة من الضعف والتشظي. مع اليقين التام أن ضربات السوط مؤلمة، تترك جروحًا قيحية مزمنة، يئن من هولها جميع أعضاء الجسد، وتتدفق من آلامها موجات الموت والرعب القاتم، وعلى بُعد أمتار قليلة من جدار الشرنقة تصدح أصوات هادرة، وتطفح بامواجها العاتية لتحطيم هذا الجدار العازل، ومع ذلك يبقى الدماغ خامدًا داخل الجمجمة بلا حراك، نائمًا في كهف مظلم، لا يهمه إذا هطل المطر حتى الطوفان أو أشرقت الشمس فوق قمم الجبال الشماء، ولا يعتريه أي شعور بالحماس والمبادرة ولا يثير في نفسه انقطاع النفس.
لا يستطيع التركيز على الهدف؛ عيناه تحدقان في الأشياء دون أن تتلمسا معالمها، وكأنهما ثقبان فارغان لعَيْنين مقتلعتين. فبؤبؤاهما مغطّيان بطبقة من غشاء الخدر، مما يجعل من المستحيل عليه أن يجد الطريق، رغم أن آخرين قد عبدوه وتركوا آثار خطواتهم عليه. تنهال عليه المصائب، فلا يجد إلا سوء الحظ والقدر المحتوم شماعةً يعلّق عليها تبعات فشله.
غرفتهُ خالية من الحروف، فلا يعرف شيئا من أبجديات الحياة سوى ما يسمعه من أفواه الواعظين، رغم أنه محبوس في سجن كبير محاطًا به أسلاك شائكة غير مرئية ولكنها موجعة وتترك ندبات مؤلمة، ومع ذلك لا يفكر بكسر ذلك القيد والخروج إلى النور كي يرى الحياة على حقيقتها. أجنحة الذعر والنحيب تحوم في حيرة واضطراب، تقلق أفكاره، لكنه يعد خروجه من تلك الشرنقة الى عالم الفسيح جريمة بحق ذاته، وفي ذات الوقت يلتمس شفقة الآخرين، ويتراءى له أن الضفة الأخرى لا تمتلك الجرأة والشجاعة الكافية في إنقاذ السفينة من انتفاضة الاعصار وقيادتها نحو شاطئ الأمان، رغم من شكواه المستمرة بسبب معاناته في ذلك الحبس المقيت، إلا أنه يعتقد بأن قضيته التي لا يدرك شيئا عن خلفيتها، قد طواها النسيان. فهو ينتظر دوما من ينوب عنه في التضحية ويخوض المعركة بدلا منه .
أضحت حياته في هذا الجو الدبق والمتجهم مثقلةً مثل كابوس كئيب زاره في الحلم. يرى نفسه كالمسخ، قلبه يخفق بسرعة، وصدره يهبط ويعلو كأن يدًا ثقيلةً وقاسيةً تقبض على صدره بعنف، تمنعه من التنفس، تكبح حركته، وتعيقه من الصراخ وتثقل خطاه. في هذا المكان قضى ويقضي جل حياته، رغم أنه عقيم ومظلم وطافح بالمعاناة والكوارث التي تلتهم عمره مع سرعة دوران عقارب الساعة.
على الرغم من آلام السنوات الماضية وإحباطاتها التي مرت كسحابة سوداء ثقيلة تغطي سماوات حياته، لم يستفق بعد من نومه الطويل والعاجز. يرى ويتألم من هذا الوضع المعتم، لكنه لا يتمكن من إشعال رؤية واضحة داخله، ولا يستطيع التعبير عن معاناته بكلمات تشرح ما يشعر به.
لا يشعر بطعم الحياة. فديجور العقل قد أعمى بصيرته وأضعف من ضربات أقدامه في آفاق الأرض. من حيث لا يدري انه يعيش مذلول، منكس في مكانه.
لا يشعر بطعم الحياة؛ فديجور عقله أطفأ بصيرته، وأثقل خُطاه عن استكشاف آفاق الأرض. هو لا يدرك أنه يعيش مذلولًا، منكس الرأس، مستكينًا في مكانه.
أدمن هذا القفص بكل إيقاعاته وقوانينه، وتكدست في ذهنه أفكار ناعسة، تحوّلت إلى حلقات راكدة أشبه بالمياه الآسنة. يرفض أن يستيقظ من سباته الثقيل، ذاك السبات الذي اجتاحه مثل ليلة مظلمة غمرته تياراتها، لتجعله حبيس انكساراته.
ومن داخل شرنقته، يسمع حديث الثوار عن الثورة والتغيير والأمل. لكنه، لافتقاده الغريزة الإنسانية وإدراكه لمعنى الظلم والاستعباد اللذين يخنقانه، يبقى عاجزًا عن إدراك سبب صمته على أرضٍ مشبّعة برائحة العفونة. لذلك، يختار الهروب بدلًا من المواجهة الحقيقية.
كثيرًا ما يصبح دون وعيٍ عبئًا ثقيلًا وحجر عثرة أمام أولئك الذين يكدحون في سبيل تحريره من قيود المستبدين، أولئك الذين يفنون أرواحهم في غياهب السجون أو يسقطون ضحايا للاغتيالات والقمع. لكن يبقى السؤال قائمًا: من يتحمّل عبء المسؤولية في جعل الشرنقة متعفنة وأوصل ساكنها إلى هذا اليأس والانحدار؟

شارك هذه المقالة على المنصات التالية